المواجهة مع سياسة الإفقار والتجويع

 

مسعود ضاهر

 

 

كتب الكثير عن الأزمة الراهنة وانكشاف عورات النظام المالي العالمي. لكن بعض تقارير الأمم المتحدة والمنظمات الدولية، وتصريحات القادة المتنورين في النظام العالمي تنبه إلى مخاطر كبيرة باتت شبه مؤكدة على المستوى الكوني وتطول مئات الملايين من الناس في القارات الخمس، وبشكل خاص في الدول النامية والفقيرة.مصدر الأزمة أن الرأسمالية المعولمة بقيادة أميركية وحيدة الجانب في السنوات العشرين الأخيرة قد اتخذت منحى مغايرا إلى حد بعيد عن النظام الرأسمالي الكلاسيكي ففي بدايات تشكلها كانت الرأسمالية بمثابة ثورة في عالم الإنتاج وفي تطوير القوى المنتجة التي نجحت في التخلف من قيود النظام الفيدرالي القديم والذي كان اقرب إلى العبودية منها إلى العلاقات الإنسانية الطبيعية لقد شجع منظرو النظام الرأسمالي على التوظيف في القطاعات المنتجة، خاصة الزراعة والصناعية وعلى سبيل المثال لا الحصر، كان المفكر ميشال شيحا، وهو الأب الروحي للبورجوازية اللبنانية ومن أكثر الداعين إلى تشجيع نظام الخدمات وإعادة التصدير في لبنان.

إلا أنه تقدم في أواسط الثلاثينيات من القرن العشرين إلى مجلس النواب اللبناني باقتراحات عملية لتوظيف أكثر من نصف موازنة الدولة اللبنانية لتشجيع القطاع الزراعي والصناعي على مدى خمس سنوات متتالية.كانت البورجوازية المتنورة تدرك أهمية التوازن بين قطاعات الإنتاج، وتشجع القوى المنتجة عبر التوظيف في الزراعة والصناعة والمشاريع الإنمائية الأخرى لأنها تساعد على توسيع الطبقة الوسطى، والاستقرار الاجتماعي. فتتحاشى بذلك الكثير من الأزمات الحادة والاضطرابات الدموية التي باتت اليوم العنوان الرئيسي في جميع وسائل الإعلام العالمية فمنظمة الزراعة العالمية تحذر من أن أزمة غذاء ستفجر مجتمعات بكاملها، وقد تثير كل أشكال النزاعات العرقية والطائفية والطبقية. كما أن تقارير البنك الدولي تحذر من ثورة الجائعين وتوصي بتوظيف نسبة كبيرة من الرساميل في الزراعة ورفع معدل التوظيفات إلى الضعفين خلال السنوات العشر القادمة. والأمين العام للأمم المتحدة يحذر من تزايد البطالة ونتائجها السلبية على المستوى العالمي. وهي تشكل مصدر قلق كبيرا بسبب انخراط الشباب في منظمات إرهابية أصبحت أعمالها الإجرامية متوقعة في أكثر من منطقة في العالم أما الرئيس ساركوزي فقد أعطى في تصريحاته الأخيرة أولوية لتأسيس فرق عمل دولية لمعالجة مشكلات الغذاء والفقر والبطالة. واقترح مؤخرا بناء فريق طوارئ دولي لضمان الأمن الغذائي في العالم، ودعا إلى توظيف مكثف في الزراعة والأرياف المهملة في البلدان النامية والفقيرة لكن الأزمة قادمة حتما. وتعمل الدول المتطورة والغنية على إيجاد حلول وقائية لها تمنع انفجارها أو تحد من نتائجها السلبية المرتقبة والتي تصل إلى حد الكارثة في الدول الفقيرة والنامية فقد بني النظام المالي المعولم في العقدين الماضيين على المقولات الأكثر سوءا في النظام الرأسمالي. وهي التي تطلق العنان لحرية الرساميل دون رقابة جدية. فتحول إلى نهب منظم عبر المتاجرة بالأسهم والبورصة وسندات الخزينة والمضاربات العقارية. ولم يلاحظ أي توظيف جدي في القطاع الزراعي وفي تنمية الأرياف خاصة البعيدة منها عن المدن الكبرى.

نخلص إلى القول ان عالم اليوم في ظل الأزمة العامة للرأسمالية بات عالما مضطربا تسوده مظاهرات الفقر والجوع والبطالة والأمية. فالمعركة القادمة واضحة المعالم كما كانت في بداية المعركة ضد الاستغلال الرأسمالي وهي الدفاع عن لقمة العيش، وحقوق الإنسان الطبيعية في العمل، والسكن، والتعليم، والصحة. إذ تشير بعض الإحصائيات الموثوقة إلى أن سكان العالم في العام ٢٠٥٠ سيكون أكثر من تسعة مليارات إنسان. وفي ذلك توكيد على أن الحاجة إلى الغذاء ستتضاعف مرة واحدة على الأقل. وهي مرشحة لمزيد من التأزم. وفي حين تراجعت أسعار الحديد والصلب بنسبة ٦٣ ٪ بسبب الأزمة الراهنة، والإيجارات بنسبة تراوحت ما بين ٣٠ ـ ٣٥ ٪ والعقارات بنسب تصل إلى ٥٠ ٪، لم تتراجع أسعار المواد الغذائية، وما زالت تحافظ على ارتفاعها المستمر، خصوصا في المدن الكبرى وليس من شك في أن الزراعة ستحتل المرتبة الأولى في سلم أولويات العولمة في المرحلة القادمة وذلك لأسباب عدة أبرزها:

١ـ إطعام ملايين الناس الذين يعانون مجاعة كبيرة في عدد من الدول، بالإضافة إلى مشكلات الجفاف والتصحر التي سببتها الكوارث الطبيعية من جهة، والسياسات الخاطئة للعولمة بقيادة أميركية من جهة ثانية.

٢ـ ان الاستقرار الاجتماعي بات يشكل مصدر قلق لعدد كبير من الدول النامية والفقيرة التي باتت عاجزة عن تأميم الغذاء لشعوبها، ما أضعف قدرتها في الحفاظ على تماسكها الداخلي، واستقلالها الشكلي، وتحررها من التبعية الغذائية.

٣ـ أن السياسة الزراعية المعولمة لم تساعد الدول النامية وشعوبها الفقيرة على تنشيط الزراعة فيها. كما أن الدول المتـطورة لم تستورد سوى نسبة ضئيلة من الإنتاج الزراعي. لذا كانت نتائج أزمة النظام المالي العالمي مأساوية في كثير من الدول التي تعاني شعوبها مشكلات خطيرة جدا وغير قادرة على حلها دون مساعدة خارجية سريعة ومنظمة.

٤ـأن تلافي الأزمات الحادة وثورة الجياع يتطلانب أن تبني الدول المتطورة مشروعات زراعية وصناعية كبيرة وممكننة في الدول النامية والفقيرة لزيادة المردود الزراعي، وتحسين فرص العمل، والمساعدة العملية على محاربة الفقر والبطالة والأمية وسوء التغذية.

ختاما، دلت الأزمة الراهنة على أن الدول التي شجعت القطاعات الزراعية وحمت الأمن الغذائي فيها كانت الأقل تضررا من الأزمة الرأسمالية الراهنة. لذا تبدو الصين والهند والفيتنام وعدد من الدول الآسيوية في وضع أكثر استقرارا من دول أخرى وما زالت قادرة على ضمان نسب نمو سنوية مرتفعة. كما أن الاتحاد الأوروبي اعتمد سياسة زراعية عقلانية لضمان أمنه الغذائي، في حين أن الدول الفقيرة، ومنها بعض الدول العربية غير النفطية، تضم ٦٥ ٪ في المـناطق الزراعية، ولا يقدم الاقتصاد الزراعي فيها أكثر من ٢٥ ٪ من الدخل القومي في أحسن الحالات، وهو دخل متخلف وهزيل على جميع المستويات فهل تقود الأزمة الحالية إلى توظيف أكبر للرساميل في القطاع الزراعي لحل أزمة الغذاء التي تصيب مئات ملايين الناس، ولتخفيف الأزمات الحادة والاضطرابات المتوقعة؟ أم أن هذا الشكل من الرأسمالية الهمجية لن يأخذ بعين الاعتبار سوى مصالح حيتان المال والاحتكارات الكبرى المتعددة الجنسيات والعابرة للقارات؟

*مؤرخ وأستاذ جامعي

وكل ذلك حسب رأي الكاتب في المصدر المذكور نصاً ودون تعليق .

المصدر :assafir.com