فلسفة المحافظين تجاوزت حدودها

 

جديون راتشمان

 

 

سوق الأفكار، مثل سوق الأسهم، تتجاوز حدودها على الدوام. وتصبح الأفكار موضة سائدة، ويتم دفعها إلى استنتاجها المنطقي وأبعد، عندما يستسلم مؤيدوها "للحماس غير العقلاني". ومن ثم يحدث الانهيار.ما نعيشه الآن هو الإخفاق الشديد الذي تبع 30 عاماً من الصعود المندفع لأفكار المحافظين الذي بدأ بثورة تاتشر - ريجان في 1979- 1980. يمكنك أن تلمس السرعة التي تغيرت بها الأجواء الفكرية بحصولك على نسخة من كتاب ألان جرينسبان "عصر الاضطراب" The Age of Turbulence، الذي تم نشره العام الماضي. أثنى جرينسبان، رئيس الاحتياطي الفيدرالي منذ عام 1987 حتى عام 2006، كثيراً على سحر الأسواق المالية، وانتقد بقسوة غباء أولئك الذين طالبوا بالمزيد من التنظيم: "لماذا نرغب في منع النحل الملقح لوول ستريت؟" تساءل جرينسبان ببلاغة. لماذا فعلاً؟

كان جرينسبان يعتبر مُعّلِماً فذاً لدرجة أن السيناتور جون ماكين اقترح في العام الماضي تعيينه مسؤولاً عن لجنة لإصلاح الضرائب، قائلا: "لا يهم إذا كان حياً أم ميتاً. إذا كان ميتاً، أخرجوه وضعوا نظارات سوداء على عينيه". غير أن سمعة جرينسبان الآن في انحدار، وأعاد ماكين اختراع نفسه مدافعا عن التنظيم، ليشجب "الفساد والجشع بلا حدود الذي سبب أزمة في وول ستريت". هذا النوع من التشدد الإيديولوجي هو ما يحدث عندما تنهار سوق مندفعة على الصعيد الفكري. ويمكن أن تتبع الأزمة المالية الحالية إلى ثلاث أفكار محورية لحقبة ريجان - تاتشر: تعزيز مفهوم ملكية البيوت، وتخفيض الأنظمة على الصعيد المالي، واعتقاد كبير في الأسواق. وكل فكرة من هذه الأفكار قدمت خدمة أصلية لمدة 30 عاماً، وزادت الازدهار والحرية. لكن لدى دفعها إلى أقصى حد - ومزجها أيضاً - خلقت كارثة.

القروض العقارية لضعاف الملاءة التي تكمن في قلب الأزمة المالية الحالية وسعت حلم ملكية البيت ليشمل أشخاصا لم يكن في استطاعتهم تحمل العبء المالي الذي كانوا يأخذونه. وفي نيسان (أبريل) 2005، أثنى جرينسبان على القروض العقارية المقدمة لضعاف الملاءة، لأنها تساعد على توسيع نطاق ملكية البيوت، ورحب بها على أنها "تمثل استجابات الأسواق التي دفعت صناعة الخدمات المالية طوال تاريخ بلادنا".كان مسموحاً للمصرفيين الاستثماريين، قوات الهجوم لثورة ريجان - تاتشر، أن يراهنوا ببنوكهم في هذه السوق الجديدة، لأن المنظمين والسياسيين كانوا يؤمنون بقوة بالصفات السحرية للسوق المنظمة ذاتياً.العملية ذاتها للتجاوز الفكري حدثت في أفكار رئيسية أخرى لحقبة ريجان - تاتشر: التخصيص، والشكوك بشأن مبدأ المحافظة على البيئة، وتعزيز الديمقراطية عندما ناقش أنصار تاتشر التخصيص لأول مرة، تم الاستهزاء به على أنه حلم غير عملي. غير أن الانتصارات الأولى التي حققتها شركات الطيران والاتصالات في بريطانيا خلقت اتجاهاً انتشر في شتى أرجاء العالم. وعمل هذا على تشجيع أنصار التخصيص لتقبل تحديات جديدة وأصعب، مثل قطاع السكة الحديدية في المملكة المتحدة. غير أن الفشل في هذا المجال أدى إلى حدوث رد فعل عكسي.بالمثل، عندما بدأت حقبة المحافظين، كانت التدخلات العسكرية الخارجية سلوكا عفا عليه الزمن في الغرب. غير أن حرب فوكلاند التي شنتها بريطانيا، والغزو الأمريكي لجرينادا، بدآ بتغيير هذا الأمر وخلال التسعينيات، جعلت سلسلة من التدخلات العسكرية الناجحة - حرب الخليج الأولى، والبوسنة، وكوسوفو، وسيراليون - القادة السياسيين الأنجلو- أمريكان أكثر ارتياحاً لاستخدام القوة العسكرية. وتعني الكوابيس التي تلت غزو العراق وأفغانستان أن عقرب الساعة الفكري يتأرجح الآن في الاتجاه المعاكس إن فكرة تعزيز الديمقراطية مرت بدورة طفرة وانفجار مماثلة. وتم اعتبار انهيار الإمبراطورية السوفياتية عام 1989 البرهان النهائي لعالمية اليمين التي جادلت بالقول إن جميع الشعوب كانت ترغب في واقع الأمر بالديمقراطية وأنظمة السوق الحرة. وأصبح مؤيدو عولمة الديمقراطية أكثر ثباتاً. وتحولت بشكل سحري، سياسة توفير الدعم المعنوي للمنشقين المناهضين للسوفيات في أوروبا في الثمانينيات، إلى سياسة تصدير الديمقراطية بقوة السلاح إلى الشرق الأوسط في عام 2003.

مرة أخرى، تم دفع فكرة ناجحة إلى استنتاجها المنطقي - وإلى أبعد من ذلك. ومرة أخرى، بدأ رد فعل فكري عكسي. والتقط ديفيد كاميرون، زعيم حزب المحافظين البريطاني، الحكمة التقليدية الجديدة عندما قال أخيرا: "علينا أن نتقبل أننا لا نستطيع فرض الديمقراطية بفوهة البندقية ولا يمكننا أن نسقط الديمقراطية من ارتفاع عشرة آلاف قدم" إن كلاً من رونالد ريجان ومارجريت تاتشر فضل النمو على المحافظة على البيئة. ورحبت تاتشر بـ "ديمقراطية امتلاك السيارة العظيمة"، ورأى ريجان أن الأشجار كانت مصدراً رئيسياً للتلوث لكن في بريطانيا - وفي الولايات المتحدة بدرجة أقل - ساهم التغير المناخي في تحويل المحافظين إلى متحمسين للبيئة. إذ إن كاميرون، وهو مفكر موثوق ومتقلب المناخ، يتفاخر بأنه يذهب إلى العمل على دراجة هوائية، وتبنى شجرة رمزا لحزب المحافظين الجديد. وينظر ماكين إلى التغير المناخي بجدية بالغة إن الجذور الأيديولوجية لحقبة المحافظين تكمن في رد الفعل إزاء تجاوزات الإجماع الكينزي. والآن بعد أن تأرجحت الدورة الفكرية بشكل حاسم ضد أفكار اليمين لحقبة ريجان - تاتشر، فمن الحتمي أن تتجاوز الحد في الاتجاه الآخر وستخفت سريعا حالات السرور الناشئة عن عمليات التنظيم الحكومية. وفي غضون سنوات قليلة مقبلة، سيتشكل الحنين إلى السنوات الماضية في وول ستريت، وإلى احتضان الثوابت الأخلاقية لاتجاهات المحافظين الجدد.على المستثمرين المفكرين المغامرين البحث في شتى الأرجاء الآن. فسرعان ما تصبح أفكار مثل تخفيف الأنظمة، وتعزيز الديمقراطية، أموراً مهمة

وكل ذلك بحسب المصدر المذكور نصا ودون تعليق.

المصدر:aleqt.com