الصين تدهش العالم وتقترب من قمته 

 

د. وحيد عبد المجيد

 

السياسة النقدية والمالية في الصين هي أكثر ما يدهش بعض العرب، وخصوصاً المصريين. فالذين تعودوا على النظر إلى أي خفض في قيمة عملتهم الوطنية باعتباره نذير شر مستطير، يصعب عليهم فهم إصرار الصين على إبقاء قيمة عملتها "اليوان" منخفضة ومقاومة الضغوط المتزايدة عليها لكي ترفعها.

مدهشة هي الصين دائماً، ولكن دهشة من يؤدي كل خفض في قيمة عملة بلادهم إلى هبوط في مستوى معيشتهم، لا تحدها حدود حين يجدون العكس في الصين. ولا ينجو من هذه الدهشة إلا من يعرفون أن انخفاض قيمة العملة ينعش الاقتصادات المعتمدة على التصدير لأنه يساعدها في زيادة صادراتها.

وهذه هي حال الصين التي تعتبر هي النموذج الأكثر نجاحاً على الإطلاق في مجال النمو المعتمد على التصدير إلى كل شبر في عالمنا. أما البلاد العاجزة اقتصاداتها عن التصدير، والتي لا يحتاج العالم شيئاً مما تنتجه، فهي غالباً مستوردة للسلع والخدمات بالعملات الحرة، ولذلك يؤدي كل انخفاض في قيمة عملاتها الوطنية أمام هذه العملات إلى تأثير سلبي على مستوى حياة أصحاب الدخول الثابتة فيها.

وهذا هو الفرق الذي يدفع الصين إلى الإصرار على بقاء عملتها عند السعر الذي لم تحركه منذ أكثر من عقدين وهو 8.024 يوان لكل دولار. ولم تفلح الضغوط المركزة التي تعرض لها الرئيس الصيني "هو جنتاو" خلال زيارته الأخيرة إلى واشنطن، في إثنائه عن هذا الموقف. ولم تصدق توقعات مراقبين اعتقدوا أنه يمكن أن يبدي مرونة في هذا المجال، استناداً على تصريحات أدلى بها رئيس الوزراء الصيني قبل تلك الزيارة، وتطرق فيها إلى إصلاح النظام المصرفي الصيني، فقد فهم بعض المراقبين منها إشارة غير مباشرة إلى إمكان إعادة النظر في سعر "اليوان".

فالنظام المصرفي الصيني في حاجة إلى إصلاح بالفعل، وقد تأخر هذا الإصلاح كثيراً. ولكن القيادة الصينية تعرف أنه سيكون من الصعب تحقيق إصلاح مصرفي حقيقي بدون تحريك سعر العملة. ولكنها تدرك، أيضاً، أن أي تحريك سيؤدي إلى ارتفاع قيمتها على نحو لابد أن ينعكس سلباً على حجم الصادرات المتزايدة. فالقيمة المنخفضة للعملة توفر لهذه الصادرات ميزة كبرى، إذ تصل إلى الأسواق الأخرى بأسعار رخيصة تتيح لها رواجاً هائلاً. وتبدو هذه الصادرات كما لو أنها "مارد" يقتحم الأسواق دون أن يقدر أحد على رده. ومن الأمثلة شديدة الدلالة على ذلك، الزيادة الهائلة التي حققتها صادرات الملابس والنسيج الصينية إلى الولايات المتحدة فور إلغاء نظام الحصص في مطلع العام الماضي. فما أن أصبح السوق مفتوحاً بدون حصص تحدد نصيب كل دولة من الصادرات، حتى زادت الصادرات الصينية بنسبة حوالى 65% خلال شهري يناير وفبراير 2005.

قارن ذلك، مثلاً، بما حدث لمصر التي كانت معتمدة على نظام الحصص قبل إلغائه للحصول على نصيب في السوق الأميركي، فقد عرف المصريون، قبل إنهاء العمل بهذا النظام، أنهم مطرودون من هذه السوق لا محالة. ولذلك اضطروا إلى قبول اتفاقية "الكويز" التي سبق أن رفضوها، وهي الاتفاقية التي تضمن حصة محددة من صادرات الملابس والنسيج إلى الولايات المتحدة في مقابل اعتماد المنتج على مكونات إسرائيلية بنسبة معينة، أي فتح باب جديد للتطبيع الاقتصادي مع الدولة العبرية.

وهذه حالة نموذجية للأثر الذي يحدثه الضعف الاقتصادي حين يفرض على الساسة قبول ما لا يمكن أن يقبلوه في وضع مغاير، وهي حالة مناقضة لحالة الصين التي أصبحت قوتها الاقتصادية دافعة لمكانتها السياسية ومهددة الدولة الأعظم في النظام العالمي، ومنذرة بتغيير تدريجي في هذا النظام أحادي القطبية.

فقد تراكم الفائض في الميزان التجاري الصيني مع الدول الغربية، حتى أصبح عبئاً ينوء به كاهل هذه الدول في أوروبا وأميركا على حد سواء. فقد وصل العجز في الجانب الأميركي، مثلاً، إلى أكثر من مائتي مليار دولار سنوياً، ولذلك تطالب واشنطن بخفض قيمة "اليوان" التي تعتبرها أقل من القيمة الحقيقية التي يفترض أن تكون عليها بما يتراوح بين 20 إلى 40 في المئة، وكان هذا مطلباً رئيسياً من المطالب التي قدمتها الإدارة الأميركية إلى الرئيس الصيني "هو جنتاو" في زيارته الأخيرة في الشهر الماضي، إلى جانب تطوير قوانين صينية تحمي حقوق الملكية الفكرية من علامات تجارية وبراءات اختراع وغيرها. فالشركات الأميركية تشكو من أنها تخسر مليارات الدولارات سنوياً بسبب عمليات القرصنة.

وقد شرعت الصين بالفعل في وضع بنية قانونية لحماية الملكية الفكرية، وإن لم تكملها بعد، كما أبدت تجاوباً بخصوص رفع الحظر المفروض منذ عام 2004 على استيراد اللحوم الأميركية. ولكن الأمر ما زال مختلفاً بشأن تحريك أو تحرير قيمة العملة الصينية. فقد أصبح واضحاً الآن بعد مرور حوالى شهر على القمة الصينية-الأميركية أن بكين لا تبدي تجاوباً بعد في هذا المجال، الأمر الذي خيب الآمال في واشنطن وأشعل مجدداً الخلاف داخل الإدارة وخارجها حول كيفية التعامل مع بكين.

وعلى سبيل المثال، عاد الصقور المطالبون بمعاقبة الصين تجارياً إلى تصعيد هجومهم، وهم يدعون إلى سياسة حمائية تجاه السلع الصينية عبر فرض تعريفة جمركية تبلغ 27.5%. وفي المقابل يحذر الأكثر حكمة من أن توازن القوى لم يعد يسمح بمثل هذه الإجراءات "العنترية"، لأن الصين تستطيع الرد عليها بأخرى توجع الأميركيين أشد الوجع.

تستطيع الصين، مثلاً، الإضرار بقيمة الدولار وإيذاء الاقتصاد الأميركي في مجمله من خلال عمليات غمر متعمد لكميات كبيرة من سندات الخزانة التي تشتريها من عائدات الفائض المتزايد للتبادل التجاري.

وهكذا تجاوزت الصين المرحلة التي كان ممكناً أن تخضع فيها لضغوط اقتصادية، بعد أن صار في إمكانها ممارسة ضغوط مساوية أو أشد أثراً، وهذا هو جوهر المعضلة التي تواجهها الولايات المتحدة اليوم بعد أن أصبح الصينيون يديرون الصراع معها من داخلها.

لم تعد واشنطن تستخف بالتقديرات التي تتوقع صعود الصين إلى مركز القمة في النظام العالمي لتقاسمها فيه قبل منتصف القرن الحالي، وربما في بداية ثلثه الثاني.

لقد أسقطت الصين سورها العظيم الذي كان رمزاً لحضارتها القديمة منذ تشييده في القرن الثالث قبل الميلاد، وحتى إعادة بنائه في القرن السادس عشر الميلادي. فالحضارة المنعزلة عن العالم تتمدد الآن في قلب هذا العالم، وقد أسقطت الوجل الذي دفعها إلى العزلة والاحتماء بالسور مكتفية بعالمها المتميز.

لقد كان الخروج وراء السور في لحظة "يتعولم" فيها العالم فارقاً بالنسبة إلى الصين، إنها لحظة صعود "التنين الأصفر" الذي كان نابليون بونابرت هو أول من تنبأ باستيقاظه. خرج الصينيون من وراء السور وانتشروا في الأرض واحتلوا أسواق العالم وفي مقدمتها سوق الولايات المتحدة. كما جذبوا أكبر وأهم شركات العالم إلى بلادهم تستثمر وتوطن التكنولوجيا ليجنوا، معها، الثمار.

فقد استقطبت الصين أكبر مقدار من الاستثمارات الأجنبية، منذ أن قررت قيادتها في عام 1991 الانخراط في العولمة التي دخلتها من أوسع أبوابها لتثبت سلامة الاختيار الذي اختارته مع زعيمها الحاكم "دينغ زياو بينغ" في عام 1979. كان "بينغ" يرد على انتقادات وهواجس ومخاوف أعضاء اللجنة المركزية في الحزب الشيوعي الصيني، مذكراً إياهم بأنهم ينتمون إلى أمة عظيمة لا يصح أن يتملكها الرعب من الانفتاح على العالم. وكان يقول لهم إن العالم هو الذي يصح أن يخاف الصين. كان يشرح لهم، بصبر وشجاعة، ما يمكن أن يفعله الإنسان الصيني حين تُطلق يداه ويتوفر له مناخ يحفزه للعمل.

وهذا هو ما يحدث الآن، لم يعد الصينيون خائفين وراء سورهم، بل بات غيرهم يخافونهم. وأكثر الخائفين هم الذين يحسبون حساب يوم يفقدون فيه احتكارهم القمة العالمية وانفرادهم بها.

و كل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور.

المصدر: الإتحاد الإماراتية-22-5-2006