العرب ودروس تسونامي الأزمة المالية !

عرفان نظام الدين

 

 

على رغم إقرار خطة الرئيس الأميركي جورج بوش لمعالجة الأزمة المالية الأميركية والعالمية، وإسراع قادة الدول الأوروبية لوضع خطة موازية وإقدام الصين واليابان على رسم سياسات واضحة للمعالجة، فإن شبح الانهيار الكبير ما زال ماثلاً وفق تحذيرات الخبراء والعالمين ببواطن الأمور وخفايا الأزمة ومسبباتها. الإشارات الأولى تدل على أن الأزمة، التي شبهت بتسونامي مالية، بدأت تنحسر وأن الإجراءات المتخذة حاصرت مخاطرها، لكن احتمالات الانتكاسة ما زالت قائمة والانعكاسات والآثار والارتدادات لا بد أن تحدث هزات ومتغيرات جذرية في النظام العالمي المالي في شكل خاص وعلى الدول والشعوب، لا سيما غير المحصنة منها، من الصعب تجاوز أضرارها ونتائجها المدمرة قبل مرور سنوات عدة وبعد التأكد من أن الإرادة الدولية جدية في البحث عن مخارج عملية وحلول جذرية تعالج الأزمة من مختلف جوانبها، وتضع ضوابط وضمانات تمنع تكرارها وتحد من الاحتكارات وتحكم دول أو أفراد أو شركات عملاقة بمصير البشر ولقمة عيش الفقراء.

إنها محنة النظام الرأسمالي العالمي برمته، ومحنة الخنوع والرضوخ لقواعد السوق وظلم الأحادية الدولية وعدم الاعتراض على كل الخطايا والأخطاء التي ارتكبت خلال العقود الماضية باسم الحرية الاقتصادية، إضافة الى منع تدخل الدولة والعولمة الظالمة وإدارة مصائر البشر من «وول ستريت» أو مراكز أخرى تسيطر عليها في الأساس مافيات مالية واقتصادية أو قوى صهيونية تتحكم بالاقتصاد العالمي وتفرض شروطها وتسمح بقيام شريعة غاب اقتصادية تلتهم فيها الحيتان الكبيرة الأسماك الصغيرة ومهما قيل في الأزمة والمشكلات والحلول والخطط فإنه يمكن الجزم بأننا نعيش أمام تغيرات كبرى لم يعد من الممكن منع حدوثها أو تأخير تنفيذها فوراً لتصحيح مسار النظام العالمي الحالي ونزع أسنان النظام الرأسمالي التي أدمنت افتراس الضحايا بلا رحمة ومن دون أن تأخذ في الحسبان آلام البلايين من البشر الذين يعيشون على خط الفقر أو تحته ومن المبكر القول إن الرأسمالية قد سقطت وأن نظرياتها، منذ آدم سميت والحرية الاقتصادية حتى اقتصاد السوق وشروطه، قد فشلت ولكن من المؤكد أن نظام الأمس وأساليب «الفهلوة» والشطارة وابتداع المفاجآت غير السارة وزرع البذور السامة والضارة قد ولّى الى غير رجعة لأن الأحادية الأميركية تهاوت وبرزت قوى عالمية فاعلة صرخت بأعلى صوتها: كفى للتحكم والاحتكار ولا للتفرد ففي نهاية القرن الماضي انهار الاتحاد السوفياتي وتفكك المعسكر الاشتراكي وانتهت الحرب الباردة بثوبها العقائدي المؤجج للصراع بين الشيوعية والرأسمالية. وسقطت الشيوعية بالضربة القاضية وتم الترويج لنظريات اقتصاد السوق وتخصيص القطاع العام وكف يد الدولة عن الاقتصاد والمال ووضع نظام جديد للتجارة الحرة. وكثر الحديث الممل عن التبشير بفوائد العولمة في عالم موحد تحول الى قرية كونية كبيرة بالتزامن مع ثورة التكنولوجيا والاتصالات والانترنت والبث المباشر عبر الأقمار الاصطناعية.

كذبة كبيرة أو جملة أكاذيب، صدقناها ورددناها وأقنعنا أنفسنا بها كأنها من مسلمات القدر وضرورات المرحلة، واتهم كل من انتقد أو عارض أو حذر بالتخلف وعدم اللحاق بركب الحضارة والعصر. لكن رياح الأزمات لم تجر بما تشتهي سفن الولايات المتحدة والقوى التي كانت تروج للهيمنة ولثمار اقتصاد السوق ومكاسبه، بعيداً عن الضمانات والشروط والثوابت والأسس المتينة وهكذا سقط النظام المالي الجديد بالضربة القاضية لينضم الى النظام العالمي السياسي الجديد الذي سبقه في رحلة السقوط بعد سنوات قليلة من إطلاق نظريات الأحادية الأميركية والقوة العظمى الوحيدة المهيمنة على العالم بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وكاد العالم يصدق هذه الكذبة لولا سقوط «النظام العالمي العسكري الجديد» في العراق وأفغانستان الذي قادته الولايات المتحدة عبر الترويج لنظريات المحافظين الجدد المتصهينين والتي تدعو الى السيطرة على العالم في الوقت المناسب والقدرة على خوض حربين في آن واحد واستخدام القبضة الحديدية الأميركية في وجه كل من يقف في وجه هذا المشروع الجهنمي الذي لم يحسب حساباً لأي خط للرجعة ولا للمساومة أو المشاركة مع الحلفاء والأصدقاء وأصحاب المصالح المشتركة. كما انها لم تأخذ بالحسبان مشاعر الشعوب وقدراتها على المقاومة والممانعة والنضال من أجل التحرير والاستقلال ورفض الهيمنة لكن من وضع هذه النظريات «الخنفشارية» الساقطة كان مصاباً بالعمى والغرور الذي حمله على الظن بأن أي غزو أو هجوم أو تحرك سيكون مجرد نزهة سهلة لا عوائق أمامها ولا سدود ولا مقاومة ولا حقول ألغام، فانتهت المقامرة الى فشل يجر فشلاً وسقطت النظريات ومعها النظام العالمي الجديد بفروعه السياسية والاقتصادية والمالية والعسكرية والأمل كبير الآن بأن يتعظ أصحاب القرار في الولايات المتحدة والعالم ويأخذوا الدروس والعبر من الأزمة الأخيرة وكل الأزمات التي نعيشها، خصوصاً أن الولايات المتحدة ستدخل قريباً في عهد جديد يقوده رئيس جديد بغض النظر عن شخصية الفائز وحزبه وسياسته بعد رحيل جورج بوش وعهده ونظريات محافظيه الجدد التي أنهكت الولايات المتحدة وضربت هيبتها وأعطت مفعولاً عكسياً لكل مقولات الهيمنة والأحادية والتفرد.

فإذا سارت الأمور بحسب ما هو ظاهر الآن فإننا سنشهد خلال أشهر قليلة ولادة نظام عالمي جديد يبنى على أسس واضحة ويقوم على المشاركة في القرار وسد الثغرات ومعالجة الخلل وتصحيح الأخطاء وتجنيب العالم كوارث الحروب والصراعات ومحاولات إحياء الحرب الباردة من جديد ووضع ضوابط للعمل المالي والمصرفي والاقتصادي ومساعدة الدول الفقيرة على تخطي صعوبات ومشكلات قد تؤدي الى دمار أكيد وصراعات دامية ولا بد لتحقيق هذه الخطوات من توافر الشفافية والصدق والمصارحة في مسيرة وضع اليد على مواقع العلة ومسبباتها ومن بينها وجوب تشديد الرقابة ووضع ضوابط لحماية المودعين ومنع الحيتان من التهام الأسماك الصغيرة وتحديد شروط التعامل في البورصات وعمليات بيع وشراء الأسهم والمضاربة بها، خصوصاً أن معظم المتعاملين هم من اليهود الأميركيين أو الاسرائيليين الذين يسيطرون على البورصة والمصارف وأسواق المال والعقارات وغيرها. وقد اتخذت خطوات عملية في مجال ضمان حقوق المودعين وحصر مخاطر المستثمرين داخل الدول وعلى صعيد العالم كله كما تم توجيه الاتهام الى القيمين على الشركات والمصارف الكبرى الذين قامروا بأموال الناس وخصوا أنفسهم برواتب وحوافز وامتيازات خرافية، لكن هذا لا يكفي في حال عدم وضع الاسس لحلول جذرية حتى لا تتكرر الأزمات ويدفع البسطاء الثمن من مضاربات هي أقرب الى المقامرة يربح فيها المستثمر قليلاً وإذا خسر يفقد ماله وعقله وليس من المبالغة القول إن مصير العالم كله سيتحدد خلال الأشهر القليلة المقبلة بعد «تسونامي» الأزمة المالية الأخيرة. لكن السؤال الملح الذي يهمنا كعرب هو: هل أخذنا العبر مما جرى؟ وهل استفدنا من دروس الازمة؟ وهل بدأنا التحرك الفوري لمعالجة انعكاساتها وآثارها علينا كدول وأفراد وحكومات؟ هذا السؤال المتشعب لم نلحظ وجود أجوبة شافية عنه في العلن، فربما كان هناك وعي يحرك القادة لاتخاذ إجراءات وقاية ورسم معالم سياسات حكيمة ومرنة على الصعيدين الداخلي والعربي. فأخشى ما أخشاه ان تذهب أموال الفورة النفطية هباء منثوراً وان تضيع الاستثمارات العربية في الخارج علماً ان الكثيرين من العرب أقدموا على الاستثمار في الأسهم والسندات والعقارات والعملات في الغرب وخسروا البلايين في الأزمة الأخيرة وقبلها في الاثنين الأسود وفي أزمات الذهب والفضة وغيرها.

الدروس كثيرة والعبرة لمن يعتبر ولكن الضرورات لها أحكام وأولها إعادة النظر في مجمل السياسات لا سيما في حقل البورصات وأسواق الأسهم الداخلية التي تسببت في مآسٍ كثيرة من سوق المناخ في الكويت حتى يومنا هذا وأيضاً في سياسات الاستثمار في الخارج ونشاطات ما يسمى بالصناديق السيادية. وقد أثبتت التجارب أن مخاطر الاستثمارات الخارجية كثيرة على المدى البعيد وأن البديل المجدي والمفيد للوطن والمواطن يكمن في الاستثمار الداخلي ومن ثم الاستثمار في الوطن العربي ليس في العجل والحجر، أي السيارات والقصور والأبراج والأبنية الفاخرة، بل في المشاريع المنتجة والمصانع والمياه والزراعة التي تدر أرباحاً طائلة وتوفر فرص العمل لملايين العاطلين عن العمل شرط وضع ضوابط وقواعد وضمانات لحماية الاستثمارات على الصعيد العربي الشامل وهذا واجب تفرضه الروابط والوشائج وتؤكده مجريات الأمور ودروس الأزمات المالية المتتالية فقد استفاق العالم على شبح كارثة مالية واقتصادية ويجري العمل على الحد من مخاطر «تسونامي» آخر قد يضرب مجدداً فهل يستفيق العرب ويسارع قادتهم الى استخلاص الدروس والعبر والعمل على إيجاد وسائل العلاج والحلول للأزمات في ظل حال مزرية من الفقر والبطالة والغلاء والفساد المستشري الذي استغل الانفتاح الاقتصادي ومرحلة الفراغ والضياع بين سياسة التدخل الكامل من قبل الدولة الى سياسة السوق والفوضى العارمة.

الأمل كبير بأن يتم استيعاب هذه الدروس في القمة الاقتصادية العربية التي ستعقد في الكويت قريباً لعلها تخلص الى وضع استراتيجية اقتصادية ومالية واستثمارية عربية، ولو في حدودها الدنيا، لمعالجة مشكلات الفقر والبطالة والأمن الغذائي.العالم يتغير، والنظام العالمي الجديد في مرحلة المخاض، والدول تعيد النظر في مجمل سياساتها وأساليبها وضوابطها وقيودها. ونظرية الحرية المطلقة سقطت، مثلها مثل نظرية التدخل الكامل للدولة في الصغيرة والكبيرة... فهل يستوعب العرب أبعاد المتغيرات ويسارعوا الى معالجة أمورهم بأنفسهم قبل أن يفرض عليهم الآخرون سياساتهم وشروطهم وأساليبهم التي تخدم مصالحهم؟! أملي كبير بأن يتحول العرب ولو لمرة واحدة من دور المفعول به الى موقع الفاعل!

* كاتب عربي 

وكل ذلك بحسب المصدر المذكور نصا ودون تعليق.

المصدر:alhayat.com