يجب أن ينقذوه من الركود...خلافات أمريكية-أروبية تحول دون إنعاش الإقتصاد العالمي

 

سباستيان مالابي

التحرك الأميركي... والجمود الأوروبي

المراقب لما يجري الآن للاقتصاد العالمي لا بد وأن يتذكر ما كان يجري قبيل الحرب على العراق، فقد سارعت الولايات المتحدة خوفاً من أسلحة الدمار المالي الشامل المخبأة داخل قصور ودهاليز "وول ستريت"، إلى شحذ أسلحتها الأكثر فتكاً لتوجيه ضربة استباقية تقيها من الركود الاقتصادي، وهي في ذلك تلجأ إلى تقديم الحوافز المالية، وخفض حاد لأسعار الفائدة، فضلاً عن تعهد الاحتياطي الفيدرالي في الأسبوع الماضي بضخ المزيد من السيولة في الأسواق. لكن في المقابل، تبدو أوروبا القديمة مستقرة على حالها، حيث ترك البنك المركزي الأوروبي أسعار الفائدة دون خفض منذ شهر يونيو الماضي، واكتفى بتحذير الحكومات الأوروبية من عجز موازناتها السنوية. ومهما كانت دوافع التحرك الأميركي والجمود الأوروبي والأسباب المختلفة التي تبرر في النهاية قرار كل كتلة على حدة، فإن الانقسام بين ضفتي الأطلسي يبقى في حكم المؤكد.

وفي هذا السياق، يمكن للولايات المتحدة الدفاع بنجاح عن مقاربتها لتفادي الركود والتدابير التي اتخذتها لإنعاش الاقتصاد. فقد أبانت التجربة اليابانية في تسعينيات القرن الماضي عن أخطار الانتظار وعدم التحرك، فما أن تبدأ مشاكل العقار تتفاعل مع الفوضى المصرفية حتى تظهر بوادر الأزمة لتؤثر قيمة العقار المنخفضة على البنوك التي تلحق بدورها الضرر بالاقتصاد، ما يؤدي إلى انخفاض أكثر حدة في قيمة العقارات. وإذا ما أضيفت أسعار النفط المرتفعة، فإن المشكلة تتفاقم، كما يمكن لعملية التدخل المالي (الهندسة المالية) أن تتسبب في أضرار غير متوقعة، وهو ما يعزز المقاربة الأميركية القائمة إلى حد الآن على خفض أسعار الفائدة وتوفير الحوافز المالية. لكن الأوروبيين أيضاً يمكنهم الدفاع عن عدم تحركهم وتفضيلهم للتريث. فالاقتصاد الأوروبي، هو أفضل حالاً من نظيره الأميركي، فضلاً عن احتمال أن تكون الولايات المتحدة تبالغ في ردة فعلها بشأن معالجة التباطؤ الاقتصادي.

فالأرقام التي صدرت في الأسبوع الماضي، وإنْ كانت تشير إلى تراجع الوظائف في الولايات المتحدة ما يوحي بأن الاقتصاد الأميركي، ربما قد يكون في صلب الركود والتباطؤ، إلا أنه مع ذلك لم تصل مجمل التوقعات إلى درجة الارتباك، بل مازالت في حدود التشاؤم المشوب بالحذر. وعلى سبيل المثال، يشير المسح الذي أجرته مجلة "إيكونوميست" البريطانية إلى أن الناتج المحلي الإجمالي للاقتصاد الأميركي سيرتفع بنسبة تتراوح بين 0.8% و2.2% خلال السنة الجارية بعد احتساب فارق التضخم، مع استمرار هذا الارتفاع في العام 2009. وفي الأسبوع الماضي بدا "تيموثي جيدنر"، رئيس البنك المركزي لنيويورك، متوجساً من الظروف التي تحيط بالأسواق وتأثيرها السلبي على الاقتصاد، لكنه اكتفى بالإشارة إلى الأخطار دون التحذير من كارثة محققة. وعلى غرار الحرب في العراق، يتعين علينا الموازنة بحرص ودقة بين الأخطار المحتملة لمشكلة تبقى دون حل، وبين أخطار الرد المتسرع، والتعاطي مع المشكلة على نحو استباقي. وفي هذا السياق، يتخوف "جيدنر" من الصعوبات الممكن بروزها جراء التهويل، أو المبالغة في ردة الفعل، مشيراً إلى الارتباك الذي يحل بالأسواق والذي يتزامن مع المساعي الحكومية لإنعاش الاقتصاد وتطويق الأزمة. هذه المعادلة الدقيقة والصعبة هي نفسها التي يواجهها الاحتياطي الفيدرالي، إذ من خلال تعجيله بضخ الأموال في الاقتصاد لإنقاذه من الركود قد يفسح الطريق أمام أخطار أخرى أهمها التضخم.

فبرغم أن نسبة التضخم تظل مقبولة نسبياً مقارنة مع سنوات الرئيس الأسبق "جيمي كارتر"، لكن وتيرتها لا تتوقف عن الصعود. ولا بد من الإشارة في هذا السياق إلى أن أسعار السلع الاستهلاكية في الولايات المتحدة ترتفع بنسبة 4.3% خلال السنة، وهو ضعف معدل الارتفاع قبل عام. وما أن يتم الحديث عن تضخم قادم حتى تترسخ القناعة لدى الأميركيين، ويصبح من الصعب اقتلاعها مجدداً، بخلاف مثلاً نسبة التضخم في الاتحاد الأوروبي التي مازالت منخفضة لا تتعدى 3.2%، وهو ما يفسر تحفظ البنك المركزي الأوروبي على خفض سعر الفائدة. غير أنه من الصعب إصدار حكم بصواب التحرك الأميركي، أو بوجاهة التحفظ الأوروبي وتحديد أيهما على حق. ولعل ما يفاقم أخطار التدخل المالي هو التوقعات التي كثيراً ما تولد انطباعات مبالغا فيها تجعل من الصعب تحديد رد فعل مناسب. وفي هذا الإطار، يمكن الإشارة إلى أخطار انخفاض أسعار العقار بسبب طول الفترة الزمنية التي تستغرقها التأثيرات السلبية قبل التبلور على أرض الواقع، بحيث يصعب التنبؤ إلى أي حد سيفقد أصحاب الرهن العقاري بيوتهم، أو كيف سيؤثر ذلك على مانحي القروض وعلى الاقتصاد بشكل عام.

وفي جميع الأحوال، لا شك أن هذا الاختلاف في الرؤى بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في أسلوب التصدي للأزمة الاقتصادية، سيوتر العلاقات بين الطرفين. فالأميركيون مستاءون من الأوروبيين لعدم تحملهم بعضاً من أعباء إنعاش الاقتصاد العالمي بضخ قسط من الأموال في دواليبه، والأوروبيون من جانبهم يشتكون من أن الأميركيين يصرون على الخطأ ويوشكون على إيقاظ فتنة التضخم النائمة. والواقع أن هذا الاختلال كان سائداً منذ سنوات عديدة، حيث كانت دائماً الولايات المتحدة، تساهم بشكل مفرط في تعزيز الاستهلاك والتقاعس عن تشجيع الادخار. وفيما يتكرر ذلك اليوم مع استمرار أميركا في الإنفاق لتفادي الركود الاقتصادي، يصر الأوروبيون على إغلاق جيوبهم.