تشريح الأزمة المالية وسيناريو الكساد في أمريكا والعالم

 

نورييل روبيني

 

 

إن الولايات المتحدة تدور حالياً في دائرة مغلقة، وقد تمتد تأثيرات هذه الدائرة المغلقة لكي تطول الاقتصاد العالمي فقد تسببت الأزمة المالية الأمريكية في إحداث أزمة ائتمان حادة أسهمت في تفاقم حالة الركود في الولايات المتحدة، بينما يؤدي الركود المتزايد إلى تكبيد أسواق المال خسائر أشد ضخامة ـ الأمر الذي يهدد بالتالي بتقويض الاقتصاد بالكامل. فمع انهيار فقاعات الائتمان والأصول بات خطر الانهيار الشامل وارداً الآن في أسواق المال في الولايات المتحدة.

ولم تعد المشكلة تحيط بأزمة الرهن العقاري الثانوي فحسب، بل بالنظام المالي "الثانوي" أيضاً. إذ إن ركود سوق الإسكان ـ الأسوأ في تاريخ الولايات المتحدة وما زال يتفاقم سوءاً بمرور كل يوم ـ لا بد أن يؤدي في النهاية إلى هبوط أسعار المساكن بنسبة تتجاوز 20 في المائة، مع خسارة الملايين من الأمريكيين مساكنهم والآن بدأت حالات التخلف والعجز عن سداد الأقساط، فضلاً عن حالات حبس الرهن العقاري في الانتشار من الرهن العقاري الثانوي إلى الرهن العقاري الأساسي. وعلى هذا فإن إجمالي الخسائر في الأدوات المالية المرتبطة بالرهن العقاري ـ بما في ذلك مشتقات الائتمان غير العادية مثل التزامات الدين المضمونة بسندات مالية CDOs ـ سيتجاوز 400 مليار دولار أمريكي فضلاً عن ذلك، فقد بدأت العقارات التجارية في سلوك المنحى الهابط نفسه الذي سلكته العقارات السكنية. فمن ذا الذي يريد بناء مكاتب، أو متاجر، أو مراكز تجارية في مدن الأشباح الخاوية المنتشرة في الغرب الأمريكي؟

وعلاوة على دورة الهبوط في العقارات، أصبحنا نشهد الآن انهيار فقاعة أشد ضخامة، وهي فقاعة الائتمان الاستهلاكي: فمع انزلاق اقتصاد الولايات المتحدة إلى الركود ستتزايد حالات العجز عن سداد بطاقات الائتمان، والقروض الآلية، والقروض الطلابية كما أصبح المستهلكون في الولايات المتحدة أقل قدرة على التسوق أو الادخار وباتوا مثقلين بالديون وما دام الاستهلاك الشخصي يمثل ما يزيد على 70 في المائة من إجمالي الطلب في الولايات المتحدة، فلا بد أن يؤدي التراجع في إنفاق الأسر الأمريكية إلى تعميق حالة الركود وبوسعنا أن نضيف إلى هذه المخاطر المالية المشكلات الهائلة المحيطة بشركات تأمين السندات التي ضمنت العديد من المنتجات المعتمدة على السندات مثل التزامات الدين المضمونة بالسندات المالية. إذ إن التدني المحتمل في التقدير الائتماني لشركات التأمين هذه من شأنه أن يضطر البنوك والمؤسسات المالية التي تحتفظ بهذه الأصول الخطيرة إلى تخفيض قيمتها، الأمر الذي سيضيف 150 مليار دولار إلى الخسائر المتصاعدة التي تكبدها النظام المالي حتى الآن ثم لدينا أيضاً مسألة تعرض البنوك والمؤسسات المالية الأخرى إلى الخسائر المرتفعة في القروض التي مولت العمليات المتهورة في الاستحواذ المدعم بقروض الائتمان LBOs فمع تفاقم حالة الركود سوف يصبح المزيد من عمليات الاستحواذ المدعم بقروض الائتمان التي كانت مثقلة بكميات ضخمة من الديون والتي لم تكن تمتلك أصولاً صافية كافية، عرضة للفشل مع عجز الشركات الأقل ربحاً أو الأكثر خسارة عن تسديد أقساط القروض.

نتيجة لكل ما سبق فلسوف يؤدي الركود إلى زيادة حادة في حالات التخلف عن سداد الديون بين الشركات التي كانت معدلاتها منخفضة للغاية طيلة العامين الماضيين، حيث بلغت في المتوسط 0.6 في المائة سنوياً، مقارنة بالمتوسط التاريخي الذي بلغ 3.8 في المائة. فأثناء حالات الركود العادية قد ترتفع معدلات التخلف عن سداد الديون بين الشركات إلى 10 و15 في المائة، الأمر الذي يهدد حملة أسهم هذه الشركات بتكبد خسائر هائلة ونتيجة لهذا فقد أصبحت سوق مقايضة العجز عن سداد قروض الائتمان CDS ـ حيث يتم شراء وبيع الحماية ضد عجز الشركات عن سداد ديونها ـ مهددة أيضاً بتكبد خسائر هائلة وإذا ما حدث ذلك فلسوف ترتفع أيضاً احتمالات إفلاس بعض الشركات التي باعت هذه الحماية، الأمر الذي يعني بدوره المزيد من الخسائر لمن اشتروا الحماية حين تعجز الشركات عن السداد.

 وفوق كل هذا، هناك نظام مالي صوري يتألف من المؤسسات المالية غير المصرفية التي تقترض وتقرض أو تستثمر في الأصول السائلة الأطول أجلاً. ويتضمن هذا النظام الصوري أدوات الاستثمار المركبة SIVs، وصناديق سوق المال، والصناديق ذات المجازفة العالية، وبنوك الاستثمار وهذه المؤسسات، مثلها في ذلك كمثل البنوك، عُرضة لخطر خسارة السيولة أو الأرباح الناجمة عن إعادة الاستثمار في السندات قصيرة الأجل. إلا أنها على عكـــس البنوك لا تتمتــع بشبكة الأمان التي يوفرها الدور الذي تلعبه البنوك المركزية كملاذ أخير للاقتراض.

الآن ومع استمرار الركود، بدأت أسواق المال في الولايات المتحدة وأسواق المال العالمية في الانهيار: فأثناء حالات الركود العادية في الولايات المتحدة، هبط مؤشر S&P 500 بمتوسط 28 في المائة، مع هبوط عائدات الشركات والأرباح. وتخلف الخسائر في أسواق الأسهم المالية أثراً مزدوجاً: فهي تؤدي إلى تقليص ثروة الأسر الأمريكية وتدفعها إلى المزيد من الحرص في الإنفاق؛ كما تؤدي إلى تكبد المستثمرين الذين اقترضوا بهدف الاستثمار في السندات والأسهم خسائر هائلة، الأمر الذي يدفعهم إلى بيع الأصول بأسعار بخسة وكل هذا يعني تفاقم خطر اضطرار المستثمرين المعتمدين على قروض الائتمان في كل من سوقي الأسهم والائتمان إلى بيع الأصول السائلة في أسواق السيولة، الأمر الذي لا بد أن يؤدي إلى هبوط حاد في أسعار الأصول حتى تتدنى إلى ما هو أقل من قيمتها الأساسية ولسوف تؤدي الخسائر المترتبة على ذلك إلى تفاقم الاضطرابات المالية والانكماش الاقتصادي إذا ما جمعنا كل هذه الخسائر في الأسواق المالية فلسوف يصل الإجمالي إلى تريليون دولار أمريكي ومن ثم فلسوف تعمل ضوابط الائتمان الأكثر إحكاماً على تقييد قدرة الأسر الأمريكية والشركات على الاقتراض، والإنفاق، والاستثمار، ودعم النمو الاقتصادي لقد تحول خطر الكساد في الولايات المتحدة والعالم، نتيجة للأزمة المالية الشاملة، من احتمال نظري إلى سيناريو واقعي محتمل.

وكل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور نصا ودون تعليق.

المصدر:aleqt