المسألة الثقافية والإنتاج الاقتصادي
د. صالح عبد الرحمن المانع
هل هناك علاقة بين الثقافة والاقتصاد؟ يخيل للكثيرين أن هذا العنوان، أو مثل هذه العلاقة، يمثلان موضوعين منفصلين تماماً، لا علاقة لأي منهما بالآخر. ولكن حين نحلل طبائع الشعوب وعاداتها وأنماط إنتاجها، نجد بالفعل أن هناك سمات ثقافية واضحة لدى بعض الشعوب تجعلها أكثر قبولاً للعمل وأكثر قدرة على الإنتاج. ولعل من الملاحظ بين الشعوب الأوروبية نفسها مثل هذا التباين، فالشعب الألماني على سبيل المثال شعب منتج على وجه العموم، وترى الفرد منه يمضي جزءاً كبيراً من وقته منكباً على عمله، قائماً به أحسن قيام، دون كلل أو ملل. أما معظم الشعوب المطلَّة على البحر الأبيض المتوسط، سواءً كانت شعوباً عربية أم أوروبية، فهي محبة للاستجمام، مستمتعة بهواء عليل، وتنأى بنفسها في معظم الأحيان عن القيام بأعمال شاقة أو منهكة. وعكس ذلك شعوب شرق آسيا في اليابان والصين والهند وغيرها، فهي شعوب برزت في السنين الأخيرة بشكل ملفت للنظر، وضاعفت إنتاجها الاقتصادي والصناعي، حتى فاقت نسب نموها الاقتصادي نسب النمو العالمية. وأصبح المرء يرى الصينيين من الطبقة الوسطى يفدون كسياح إلى العواصم الأوروبية. بعد أن كانت السياحة الأجنبية محصورة في الأميركان واليابانيين والعرب. وأصبحت الشركات تتهافت على نقل مصانعها بسبب رخص اليد العاملة في آسيا، وعظم أسواق هذه الدول. ويحار المرء في أسباب مثل هذا التباين في التوجه للعمل بين البلدان والثقافات المختلفة. ولاشك أن العنصر الرئيسي المؤثر على مثل هذا التباين هو التسييس الاجتماعي. ففي بلدان شرق آسيا أسدل الستار منذ فترة طويلة على هذه المسألة، وأصبح معظم الأفراد في هذه الدول يقبلون بالنظام السياسي القائم، إن كان اشتراكياً كما في الصين، أو رأسمالياً، كما في بقية بلدان آسيا الشرقية. كما تعايشت هذه النظم السياسية مع النظام السياسي الدولي وحاولت أن تتماهى، وأن تفاوض في أطر تداخلها وتحاورها معه. أما في معظم بلدان المشرق العربي فإن الوضع السياسي لم يستتب بشكل كامل، فبعض الأنظمة السياسية لا يزال يحكم بنظام الطوارئ منذ عدة عقود، مما يعطي العسكريين دوراً مهيمناً على النظام السياسي. وفي الأنظمة السياسية التي تأخذ بالحكم المدني لا زالت الدولة ومؤسساتها في طور التكوين والتشكيل، وبالتالي فإن المشروع السياسي لم يصل إلى مراحله النهائية. وهذا لا يعني أن الإنتاج الاقتصادي ومشاريعه المختلفة قد توقف في هذه البلدان، ولكنه حتماً يتأثر بالأبعاد السياسية، ويؤثر فيها. كما أن الوضع السياسي في هذه البلدان يتأثر بشكل كبير بالوضع الإقليمي العام، فالحروب التي عصفت بمنطقتنا العربية لم تؤثر بالوضع الاقتصادي العام، بل دمرت جزءاً كبيراً مما بناه الآباء والأجداد. فالحرب في العراق، مثلاً دمرت الكثير من المعالم التاريخية والآثار التي تعتبر مرجعاً ثقافياً وذخراً تاريخياً للشعب العراقي وغيره من شعوب الأرض. ومثل هذه الآثار لم تكن ذات طابع ثقافي فقط، ولكنها ذات طابع اقتصادي، وكانت وستظل نقطة جذب للسياح، إذا ما استقرت الأمور الأمنية والسياسية في هذا البلد. وفي الوقت نفسه فقد ألحقت الأذى بالبنى الاقتصادية التحتية، كما دمرت البشر وسلبتهم حريتهم وأمنهم واستقرارهم. وإذا ما حاول المرء أن يبني أنموذجاً ذهنياً للعلاقة بين القوى الاقتصادية في المجتمع والقوى الثقافية فيه، فعليه أن يتصور دائرة مطاطية تقبع القوى الاقتصادية في أعلاها، والقوى الاجتماعية والثقافية في أسفلها وكل واحدة منها تشد المجتمع، وتشد تلك الدائرة في اتجاهين مختلفين. فالقوى الاقتصادية تريد أن تجذب تلك الدائرة وتجذب المجتمع معها لمزيد من الاندماج مع قوى الإنتاج العالمي، من استثمار وتصنيع وسياحة وغيرها من القوى المنتجة. أما القوى الاجتماعية فهي تتمسك بالتراث الثقافي وتخشى على ضياعه جراء عملية التمدين والتحضر، فهي من ناحية ترغب بالنتائج الإيجابية للعملية الاقتصادية، ولكنها تخشى من آثارها الثقافية التي قد تنعكس على قيم أبنائها ومجتمعها. لذلك فإنها تتحاور وتتجاذب مع قوى العولمة بشكل فيه كثير من التخوف والوجل، فلا هي قادرة على التفاعل الكامل مع هذه القوى، ولا هي قادرة على الانكفاء والانعزال الكامل. فهي والحال كذلك تعيش توتراً هيكلياً ذا طابع سلبي، وليس ذا طابع إيجابي. ورب قائل إن التوتر الفردي أو الاجتماعي يؤثر إيجابياً في إبداع الأفراد. ويضيف الكاتب في فقرة اخرى : لاشك أن التوتر الإيجابي سواء لدى الأفراد أو في المجتمعات البشرية توتر يقود إلى التطور والإبداع. ومثل ذلك فإن الاقتصاديين يرون أن المجتمع الذي تصل نسبة البطالة فيه إلى 4% يعد مجتمعاً يتمتع بنسب تشغيل عالية. وهذا يعني أن المجتمعات تحتمل قدراً معيناً من التوتر الاجتماعي الذي يدفعها إلى الأمام، أما إذا تعاظمت التوترات، كما في مجتمعاتنا العربية، لأسباب عدة، فإن زخم الدفع والنمو الاقتصادي يتراجع. وتبدو آثار الانحسار والتقوقع الثقافي ظاهرة في تصرف أبناء المجتمع وأعمالهم. وإذا نظرنا إلى الفرق بين المجتمعات العربية ومثيلاتها في المجتمعات الشرقية، وحاولنا أن نضع تصوراً ذهنياً لهذه المقارنة فإننا يمكن أن ننظر إلى مثلث مكون من ثلاثة أضلاع، الضلع الأول يمثل المستوى التعليمي والعلمي لأبناء المجتمع، أو للصفوة فيه، والضلع الآخر يمثل ما أسميه عنصر التعاطف الروحي والأخلاقي بين أفراد المجتمع، أما الضلع الثالث فيمثل الذكاء الثقافي للمجتمع، وقدرته على التغير والتأقلم وقبول الآخر. ولاشك أن المجتمعات المتحضرة هي المجتمعات التي تنجح في إيجاد نقطة توازن بين هذه العناصر الثلاثة، ونقطة التوازن هذه هي نقطة متغيرة، لأن المجتمع في حال تغير مستمر. والإشكالية الكبرى أن معظم المجتمعات تميل إلى ضلع دون آخر، فالمجتمعات العربية يلعب فيها الضلع الممثل لعنصر التعاطف الروحي والأخلاقي بين أفرادها عنصراً مهماً من عناصر المجتمع. ولكن الأضلاع الأخرى الممثلة للمستوى التعليمي للمجتمع، هي أضلاع ضعيفة، فمعظم هذه المجتمعات تعاني من نسب عالية من الأمية، أو شبه الأمية. أما الضلع الثالث الممثل للذكاء الثقافي للمجتمع فهو عنصر فعال يدفع المجتمعات البشرية إلى الأمام، فالتغير سمة الحياة البشرية، والمجتمعات التي ترفض السير إلى الأمام والتأقلم مع تغير البيئة المحيطة بها، ستجد أنها تغرّد خارج السرب، وأنها لا تستطيع أن تواصل مسيرتها إلى الأمام. لقد كنا لفترة طويلة نعتقد أن الذكاء الثقافي هو سمة شخصية، ولكن استشفاف التطور الاجتماعي البشري يرينا أن مثل هذا الذكاء هو سمة اجتماعية كذلك. وإذا ما أرادت المجتمعات البشرية أن تتحاور وتتفاعل مع الآخرين فعليها أن تستقبلهم بنفس الحرارة التي ترغب في أن يستقبلها الآخرون بها. وهذا ينطبق بالذات على مسألة الاستثمار الخارجي، والسياحة، وغيرها من المناشط الاقتصادية. وكل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور. المصدر : الإتحاد الإماراتية-6-5-2006
|