منظمة التجارة العالمية: رهانات اقتصادية وخلافات سياسية

 

حسن مصدق

 

 

أثارت نتائج قمة بوتسدام الخوف على مصير التوازن بين الشمال والجنوب في الاقتصاد العالمي، لاسيما أن جملة من المفاوضين الدوليين الكبار ( الولايات المتحدة الأمريكية، الاتحاد الأوروبي، الهند والبرازيل) أقروا بفشل المحادثات وعدم الوصول إلى توافق مقبول بين جميع الأطراف حول بلورة معايير وقوانين دولية يحتكم ويخضع إليها الجميع، بخاصة فشل إمكانية تنظيم طرق الوصول إلى السوق - غير الفلاحية - التابعة للبلدان السائرة في طريق النمو بعامة، وعدم القدرة على صياغة اتفاق ينظم المبادلات التجارية في قطاع الفلاحة بخاصة.

وبالتالي عدم الوصول إلى تسوية في مجال المبادلات الاقتصادية العالمية، مما ينذر بمشكلات لا تحصى ولا تعد في ظل غياب تسوية عالمية طالما تطلع إليها الجميع للخروج من المأزق الذي وصل إليه برنامج الدوحة للتنمية، لذا تكتسي معالجة أسباب هذا الفشل والوقوف عندها أهمية كبرى والحقيقة أن ذلك لا يحدث لأول مرة، بل يعيد إلى الأذهان وقفة باسكال لامي مدير منظمة التجارة العالمية في يوليو 2006 حول المفاوضات التجارية الدولية في أعقاب فشلها المتكرر في تنفيذ مقررات دورة الدوحة، ما يطرح على بساط البحث تراجع مصداقية أكبر منظمة تجارية دولية، ومن ثم الخطر من غياب معايير دولية تنظم السوق العالمية يساهم في وضعها ويقبلها الجميع والحال أن ضرورة الإصلاح الاقتصادي ووضع قوانين ومعايير للسوق العالمية من عدمه، أصبح يطرح نفسه بحدة بالغة منذ اعتماد خيار الليبرالية واقتصاد السوق في المنطقة العربية الإسلامية، وقد ازدادت هذه العملية اتساعا وشملت قطاعات كبيرة كانت في الأمد القريب محسوبة على القطاع العام وحكرا عليه. ذلك أن موضوع الإصلاح الاقتصادي في عالم أصبح الاقتصاد يحتل فيه أهمية كبرى تفوق ما أصبح للسياسة من دور، يجعل منه موضوعا بالغ الخطورة والتـأثير على تطور أقطارنا الاقتصادي والسياسي, ومصير مجتمعاتنا العربية والإسلامية وكذا على مستقبل علاقات العالم العربي والإسلامي بالعالم وأقطابه لذا فإن جانبا أساسيا من المسألة المطروحة أعلاه، تتعلق بمنظمة التجارة العالمية ووظيفتها والرهانات عليها، كما الوقوف عند أبرز الإشكاليات السياسية والاقتصادية والجيوسياسية التي تتنازع ملفاتها، لاسيما ما يتردد اليوم من كونها الشرطي والقاضي في نفس الوقت، والذي لا محيد عنه لإعادة التوازن وتقويم الاعوجاجات، بما يضمن حقوق الجميع ودون التحيز لأحد أو ترك قانون الغاب يعبث بمصير البشرية بداية يتعلق الأمر بمعرفة وضع البلدان التي تجمعت فيما سمي بمجموعة الأربعة الكبار القوية، والمؤهلة أن تملك اليوم مفاتيح الأزمة بعد أن كان الأمر في السابق حكرا على لعبة التوافقات بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية فحسب.

آنذاك لم يكن لبلدان الجنوب أي هامش من المناورة، بل يتم تهميش دورها بالكامل لكن الجديد في المفاوضات الأخيرة ظهور لاعبين جدد من الدول السائرة في طريق النمو بقيادة الهند والبرازيل استطاعوا الوقوف وقفة ندية في وجه الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، مما يضع على المحك من جديد العلاقة بين الشمال والجنوب، وعدم جعل المنظمة الدولية تكتفي بأن تلعب دور الكومبارس في مسرح عالمي يضع تفاصيله ممثلون كبار، بخاصة تأبيد حالة الصراع الضاري والمعروف في المنظمة الأممية (CNUCED) حول معايير المبادلات الدولية الخاصة بالبضائع والخدمات والتي انتهت سابقا ودائما بإملاء سيناريوهات الأجندة الغربية والواقع أن التعثر الواقع في منظمة التجارة العالمية يمكن أن نجمل أسبابه الحقيقية في أزمة العلاقات الدولية ذاتها، بخاصة منها استفراد نظام أحادي القطب بالعالم وهيمنته، مما لا يسمح بالبحث عن حلول تسوية بين رؤى مختلف الفاعلين، وفق منطق لا فرق بين صغير وكبير، كل بحسب حاجياته وقدراته وكل مسؤول عن الأمن الاقتصادي العالمي... إلخ.

علاوة على ذلك فإن منظمة التجارة الدولية لن تستطيع أن تلعب دورا في تقنين التجارة الدولية مهما حسنت النوايا، وضبط اعوجاج أو اختلال قطاع المبادلات الاقتصادية والتجارية، إن لم ترفع عدد من التحديات السياسية بالتعاون مع مؤسسات دولية أخرى:

- أولها معالجة التداعيات غير الاقتصادية للاقتصاد الدولي، مثلا فقدان العديد من الوظائف في بلدان الشمال وخسارة العديد من الموارد المالية في الجنوب.

- ثانيا: الاعتراف الفعلي بدور البلدان الصاعدة على المستوى الدولي، ناهيك عن قبول البلدان الغنية والبلدان متوسطة النمو بقواعد تجارية تحفز تنمية البلدان الفقيرة وتساعدها في هذا المسعى. وهو ما يشي برفع تحديات سياسية كبيرة في المدى المنظور والمدى المتوسط ، تصب كلها في أن تجعل المنظمة ناديا عالميا بحق، وليس منظمة تملى فيه القرارات الغربية على الدول النامية.

واقع منظمة التجارة العالمية: حقائق وأرقام

ولدت منظمة التجارة الدولية في أعقاب المخاض الذي عرفته اتفاقية الغات (GATT) ( الاتفاقية العامة حول التعْرِفة الجمركية والتجارية ) سنة 1995، لكنها تتميز عنها بثلاثة نقاط رئيسة:

- تتجه منظمة التجارة الدولية نحو الكونية، بحيث تضم حاليا 150 عضواً، ينتظر منها أن تبحث قريبا في طلب التحاق 23 دولة جديدة. مما يجعل منها منظمة عالمية بامتياز، اللهم إذا استثنينا استمرار وجود بعض الفاعلين حاليا في الاقتصاد العالمي خارجها ( فيدرالية روسيا الاتحادية، أوكرانيا، كازاخستان، أوزبكستان، طاجكستان، قيرغزستان، إيران، صربيا والجزائر)، لكن مسار المفاوضات كما هو معلوم جد متقدم بالنسبة لروسيا وأوكرانيا، بحيث لا يغيب عنا القصد من هذا الموجز التاريخي أن اتفاقية الغات في بداياتها لم تكن تضم أكثر من 23 دولة مؤسسة، ثم ما لبثت أن وصلت إلى 125 دولة سنة 1994 بعد أن اتفق المنتظم الدولي على تحويل «اتفاقية الغات» إلى منظمة التجارة العالمية.

- تتميز منظمة التجارة العالمية بصلاحيات واسعة عما كانت عليه «اتفاقية الغات»، بحيث تمحورت هذه الأخيرة كليا حول القضايا الجمركية ( حقوق الجمرك ...) الخاصة بالمنتوجات الصناعية. هذا مع غياب اتفاقية حول المنتوجات الفلاحية وقطاع الخدمات. الأمر الذي يعني اضطلاع اتفاقية الغات بصلاحية وضع معايير وقواعد دولية في ميدان التجارة جاء متأخرا ( وهو ناجم عن دورة كينيدي (1967) ضد إغراق الأسواق بالبضائع وعن دورة طوكيو (1979) حول قضية الدعم و"اتفاقيات الإطار" وكذا تدابير غير متعلقة بالتعرفة ( بيانات الأسعار). ثم أيضا ما ورد في اتفاقية مراكش ( نهاية دورة أوروغواي في 15 ابريل 1994: (ضمت في حينه 550 اتفاقية و20.000 ألف صفحة من التعاليق المفسرة). لكن إن أدت هذه التدابير في الأخير إلى ولادة منظمة التجارة الدولية، فإنها خلاف اتفاقية الغات لم تهتم مطلقا بقطاع الفلاحة والنسيج والملابس والخدمات (GATS, General Agreement on Trade in Services)، والملكية الفكرية (TRIPS, Agreement on Trade-Related Aspects of Intellectual Property Rights) أو الاستثمارات (TRIMs, Agreement on Trade-Related Investment Measures)، على الرغم من كونها مواضيع تقع في صلب اهتمام الدول السائرة في طريق النمو.

- تمتلك منظمة التجارة العالمية عكس اتفاقية الغات آلية قانونية فعالة للبث في النزاعات والحكم فيها، بحيث تمتلك صلاحيات جزائية تضمن احترام الاتفاقيات المعتمدة بين الدول الأعضاء، ما يجعل منها المؤسسة الدولية الوحيدة في هذا الإطار.

إجمالا، فإن الوضع المترتب عن هذا السياق عالميا، لا يمكن أن تظل معه البلدان السائرة في طريق النمو في وضع المعفي من تطبيق تحرير الأسعار الجاري بها العمل في الدول الغنية ( الجزء الرابع من اتفاقية الغات حول التنمية والبند الخاص بمنح الأهلية المبرم سنة 1979 ( تمنح الدول الغنية بموجبه امتيازات تعْرِفيَّة للبلدان السائرة في طريق النمو دون أن يشمل ذلك باقي أعضاء اتفاقية الغات ( منظمة التجارة العالمية حاليا). وهو وضع شبيه بما يحدث في اتفاقيات سياسية تمنح بموجبه بعض الدول وضع الدولة الأكثر تفضيلا، لكن هنا يفرض على دولة عضو أن توسع منه لكي تستفيد باقي الدول من الوضع الجمركي التفضيلي لدولة معينة ( أداء حقوق جمركية جد منخفضة)، ثم ما يتعلق بالأحكام الخاصة (147 نص) التي تمنح وضعا خاصا للبلدان السائرة في طريق النمو، بخاصة منها حرية التطبيق من عدمها ـ بعد فترة انتقالية ـ قرارات الخصخصة المتبناة من قبل أعضاء اتفاقية "الغات". لكن ذلك كما نعرف لم يكن مجانا، غالبا ما كان يتم مقابل عدم مشاركة الدول السائرة في طريق النمو في أي مفاوضات نظير حصولها على بعض الامتيازات. منه ما تم في العديد من دورات ومفاوضات اتفاقية "الغات" إلى غاية انعقاد دورة أوروغواي (1986-1994) التي شكلت بداية منعطف لم تعد معه الدول السائرة في طريق النمو تقبل بأن يهمش دورها في المفاوضات الاقتصادية والتجارية الدولية.بيد أن المشكلات الكبيرة التي اعترت إطلاق برنامج الدوحة للتنمية، على أثر اللقاء الوزاري ( الدوحة في نوفمبر 2001 وفشل محادثات الوزراء في كانكون 2003)، ثم التعثر الواضح في إعادة إطلاق مسلسل المفاوضات في هونغ كونغ (ديسمبر 2005) يثبت أن دار لقمان لم تعد على حالها وأن قواعد اللعبة لم تعد كما كانت عليه في السابق.

أسباب التأثير المتزايد للبلدان السائرة في طريق النمو

إن أول ما يستدعي الانتباه في التأثير المتزايد للبلدان السائرة في طريق النمو يرجع لا محالة إلى ارتفاع صادراتها بشكل ملحوظ في التجارة العالمية ( من %25 في المئة إلى %34 في المئة بين سنة 1990 - 2005). مما يجعل منها فاعلا أساسيا لا غنى عنه، ومن ثم يعزى هذا التأثير المتزايد إلى تطور فكري وتطبيقي مزدوج، منحها القدرة كي تشكل جبهة مشتركة يعمل اليوم لقوتها الحالية ألف حساب وبالنظر إلى الفلسفة التي يقوم عليها هذا الفاعل الجديد، يمكن الإشارة إلى أن الدول السائرة في طريق النمو لم تعد تتبنى مطلقا فلسفة التبادل الحر على عواهنها، هذا على الرغم من أنها بمثابة الأساس الإيديولوجي الذي تقوم عليه منظمة التجارة الدولية، بحيث تخضع فلسفة التبادل الحر إلى مقتضيات التنمية الوطنية وحاجياتها في النهاية، بحيث لعب التقرير حول التجارة والتنمية في سنة 2006، مؤتمر الأمم المتحدة حول التجارة والتنمية (CNUCED)، إصدار الأمم المتحدة. نيويورك ـ جنيف 2006 دورا مهماً في هذا التحول السياسي من خلال الاهتمام المتزايد للعديد من الدول والمنظمات غير الحكومية بقضايا التنمية، لاسيما بعد أن فتح عدد من تلك المنظمات مكاتبها في جنيف تقدم استشارتها مجانا لعدد من مندوبي البلدان السائرة في طريق النمو، والتي تعاني أحيانا كثيرة خصاصا في الخبراء والمهارات الفنية.

إذ نذكر من بين أهم المساهمات التي لاقت استحسانا بالغا من قبل الدول السائرة في طريق النمو (التقرير المهم الذي أصدرته منظمة (OXFAM)، رقم 80 خاص بإفريقيا ودورة الدوحة)، وهو تقرير معتدل بالقياس إلى تقارير أعدتها منظمات مناهضة للعولمة كمنظمة ATTAC الفرنسية، يتخللها رفض إيديولوجي للعولمة، إن لم تعبر عن فلسفة احتجاجية رافضة، أكثر من كونها تقدم حلولا واقعية تنسجم مع تطلعات الشعوب السائرة في طريق النمو.

إجمالا، تتمحور فلسفة المبادلات الحرة التي ظهرت لدى أغلب الدول السائرة في طريق النمو في الآونة الأخيرة على ما يلي:

أ- يتعين قبل فتح الحدود على مصراعيها أن تجتمع أولا شروط التنمية الاقتصادية داخليا، بحيث بينت الأبحاث الاقتصادية بأن استفادة الدول السائرة في طريق النمو من تحرير المبادلات مرتبط أشد الارتباط بحصولها على وسائل تمكنها من الوصول إلى السوق العالمية بفضل بنيات تحتية مناسبة وخدمات جمركية ومصرفية فعالة كما إنتاج يتناسب مع السوق العالمية.

ب- على الدول السائرة في طريق النمو أن تحتفظ بهامش سياسي كامل، لكي تتمكن من بلورة سياسات تنموية من صلب اختيارها، بحيث يمكن أن نشبهها تماما بتلك الحرية التي استفادت منها البلدان المتقدمة عندما كانت في وضع يشبه وضع البلدان السائرة في طريق النمو. وتجدر الإشارة إلى مفارقة كبيرة، نظرا لكون المعايير الخاصة بالاستثمارات وموانع التصرف في حقوق الملكية الفكرية ( التصرف في براءات الاختراع)، وما يجري في قطاع المبادلات والخدمات العالمية تفي كلها بصعوبات أصبحت جد قاسية منذ 15 سنة، ما يقلل فعليا من سيادة دول الجنوب السياسية، ويضيق كثيرا هامش الحرية الموجود لديها.

إذ ليس من الصعب تلمسه إن لم يكن هو ما نستشفه بالفعل من نتائج دورة أوروغواي التي أتت غير مشجعة لبلدان الجنوب، حيث قدمت الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي تنازلات شكلية لا تسمن ولا تغني من جوع في قطاع الفلاحة، بينما حصلت بالمقابل على تنازلات كثيرة من قبل دول الجنوب في مجال خفض الحقوق الجمركية... الأمر الذي حذا بالمدير العام لمنظمة التجارة العالمية الحالي الاعتراف بأن حصيلة دورة أوروغواي غير متوازنة ( أنظر خطاب باسكال لامي في مجلس الأمم المتحدة الاقتصادي والاجتماعي، يونيو 2007) ومن ثم لم تقبل الدول السائرة في طريق النمو انعقاد دورة جديدة من المفاوضات في الدوحة (2003) إلا بكثير من التردد والامتعاض، شريطة أن تضع الدورة في حسبانها تحقيق هدف إعادة التوازن في الميزان التجاري العالمي، وهو ما يفسر أصلا ورود تسمية برنامج الدوحة للتنمية، إذ اعتبرت دول الجنوب أن الوقت قد حان لكي تحصل بدورها على تنازلات أحادية الجانب من طرف دول الشمال حول الملفات ذات الصلة بالتجارة في المنتوج الفلاحي، ودون الاضطرار إلى تقديم مقابل لذلك في قطاعات تسيل لعاب دول الشمال ( حق الوصول إلى الأسواق غير الفلاحية (Non Agricultiral Market Access = NAMA)، لاسيما دعواتها المتكررة من أجل فتح الحدود في وجه تجارة الخدمات أو عدم سن قواعد جديدة توسع من حرية الدولة الوطنية في مجال التدخل لحماية صناعتها المحلية. مما يفسر اعتراض دول الجنوب الشديد والمستمر حول هذه النقطة الأخيرة في مفاوضات سنغافورة الخاصة بالاقتصاد وسياسة المنافسة من ناحية، أو ما يتعلق بالاقتصاد والاستثمارات من ناحية أخرى. بالإضافة إلى مطالبة الدول الغنية آنذاك بشفافية عروض الأسواق العمومية والواقع أن الإجماع الذي حصل حول هذه الفلسفة من قبل دول الجنوب لا يمكن الاستهانة به، كونه يساعد في البحث على إجماع مقبول عندما تتضارب مصالحها فيما بينها..لكن هذا العامل لا يمكنه لوحده أن يفسر ما قلناه بصدد تأثيرها المتزايد في التجارة العالمية. إذ غالبا ما لا حظنا أنه أثناء انعقاد مفاوضات تجارية متعددة الأقطاب، يلجأ العديد من أعضاء منظمة التجارة العالمية إلى خلق تكتلات للدفاع على مصلحة مشتركة، حيث أحيانا يلاحظ حضور دول غنية إلى جانب دول فقيرة في نفس التكتل، كما حصل مثلا في مجموعة (Cairns) التي ضمت عن دول الجنوب ( ماليزيا، البرازيل، جنوب إفريقيا، الأرجنتين، بوليفيا، الشيلي، كولومبيا، كوستاريكا، غواتيمالا، اندونيسيا، باكستان، أوروغواي، بيرو) بينما ضمت من الدول الغنية ( كندا، استراليا، ونيوزيلندا الجديدة) تكتلت فيما بينها للدفاع عن مبدأ فتح أسواق الفلاحة في الغرب أمام منتوجات دول الجنوب، ووقفت ضد الدعم الذي تحصل عليه صادرات المواد الزراعية في بلدان الشمال.

مؤدى هذه العملية فتح المجال أمام تكوين تكتلات تجمع بينها وحدة الجغرافية، بخلاف تلك الدول التي انتظمت حول أهداف موضوعية (المجموعة الإفريقية، الدول الفقيرة، بخاصة منها تلك الدول (32 دولة) التي يبلغ متوسط الدخل الوطني الخام 900 دولار، يجمع بينها الاتفاق حول العديد من شروط تحقيق التنمية ولقد ترتب على هذه التكتلات تسهيل عملية المفاوضات بتقديم خلاصات تتضمن العديد من وجهات النظر المتقاربة، كما تحمل في طياتها الدفاع عن مصالح بطريقة مشتركة، أي أكثر مما يمكن لدولة بمفردها أن تحققه. لكن أبرز صورة ظهرت جلية مع هذه التكتلات في المؤتمر الوزاري المنعقد في كانكون (2003)، حيث ظهر إلى الوجود قطب ( مجموعة 20) رأى النور في 20 غشت - آب 2003 يعبر عن مصالح دول الجنوب، بمبادرة من البرازيل وكرد فعل على الاتفاقية الأمريكية الأوروبية حول الفلاحة التي تم التوقيع عليها منذ أيام خلت. إذ انحصر اهتمام مجموعة الدول العشرين حول الفلاحة في البداية، ثم ما لبث أن وصل القطب الجديد إلى 23 دولة، بما فيه أكبر الدول الصاعدة (مصر، جنوب إفريقيا، برازيل، تشيلي، الصين، الأرجنتين، بوليفيا، اكوادور، غواتيمالا، تايلاند، اندونيسيا، المكسيك، نيجيريا، باكستان، براغواي، بيرو، زيمبابوي، تنزانيا، فنزويلا، الفلبين)ولعل هذا التكتل ساهم بقسط وافر في إعادة صياغة خريطة التحالفات داخل منظمة التجارة العالمية، بخاصة ظهور مجموعات دولية عديدة من أبرزها: مجموعة 90 (تضم بلدان فقيرة ذوات دخل منخفض (900 دولار) والمجموعة الإفريقية، بلدان إفريقيا، دول الكاريبى والمحيط الهادي (منها 46 دولة تمثل مجموعة (ACP) ترتبط باتفاقيات تفضيلية مع الاتحاد الأوروبي عبر اتفاقية كوتونو سنة 2000 التي حلت محل اتفاقية لومي) كما برز إلى الوجود مجموعة 33 حول الهند واندونيسيا والفلبين التي تعارض فتح أسواقها الفلاحية ولم يلبث أن تأجج سوق التحالفات بعد فترة طويلة من تأجيل متكرر يعرض خلاصة للمفاوضات حول برنامج الدوحة للتنمية، حيث استطاعت مجموعة 20 بلباقة أن تجمع حولها مجموعات الدول السائرة في طريق النمو الأخرى، منذ أن ظهر إلى الوجود إعلان 11 يونيو 2007 الذي صاغته المجموعة ووقعت عليه تنسيقية تضم مجموعة 33، ومجموعة الدول الأكثر فقرا. ثم مجموعة دول الكاريبي (Caricom) والمجموعة الإفريقية، كما كبرى الدول الإفريقية الأربعة المصدرة للقطن. بالإضافة إلى مجموعة (NAMA) ، وهي تضم ( تونس، مصر، جنوب إفريقيا، الأرجنتين، البرازيل، اندونيسيا، ناميبيا، الهند، فنزويلا، الفلبين)، تعارض كلها مبدأ فتح أسواق بلدان الجنوب في وجه البضائع الصناعية، أي ما يمثل أغلب الدول السائرة في طريق النمو كيفما كانت مصالحها ومن ثم يمكن القول إن هذه المجموعات يمكن أن نلمس عبرها الخطوط العريضة فيما تتوخاه إجمالا بلدان الجنوب من برنامج الدوحة للتنمية، هدف يظل أصحابه ينعتونه بالمتوازن في المفاوضات حول قطاع الفلاحة من جهة، وبين هذه الأخيرة والملفات الأخرى المسطرة في برنامج الدوحة من جهة أخرى.

حقيقة التوازن في مفاوضات قطاع الفلاحة

ومثلما يتوقف نجاح برنامج الدوحة للتنمية في كثير من حذافيره على مدى وصول المنتظم الدولي إلى اتفاقية حول الفلاحة، فإن هذا الملف يظل على أهمية بمكان بالنسبة لدول العالم الثالث، لأن الإجراءات الحمائية المفروضة من الدول الغنية على أسواق فلاحتها، ثم الدعم المالي المقدم إلى فلاّحيها، يؤديان إلى خلخلة السوق العالمية لصالحها. وهي بطبيعة الحال كلها إجراءات ضد قواعد المنافسة الشريفة. وبالتالي تعتبر من لدن دول الجنوب رمزا للإجحاف الكبير الذي يطال سوق المبادلات العالمية. ومن ثم يفترض أن يندرج تصحيحها في أي اتفاقية معقولة حول أسواق الفلاحة إدراج النقاط التالية:

- تبحث مجموعة 20 التقليص من حجم المساعدات المقدمة للمزارعين في دول الشمال (دعم مالي مباشر، تأمين حماية اجتماعية، والتنمية القروية) واتخاذ تدابير جديدة في تحديد تلك المساعدات وتقليصها، بخاصة الدعم الذي ينجم عنه خلل في مبادلات الفلاحة الدولية.

هذا على الرغم من غموض مفهوم "الدعم" في الاقتصاد السياسي والعلاقات الدولية، ثمة تصنيف لأنواع الدعم المقدمة للقطاع الفلاحي في دول الشمال، يمكن أن تمثل في ثلاثة علب: العلبة الأولى يطلق عليها العلبة الخضراء (green box) تخص المساعدات ( مجمل النفقات الاجتماعية التي ليس لها علاقة مباشرة مع الإنتاج الفلاحي)، وهي لا تساهم في خلخلة التوازن أو ذات أثر سيئ على المبادلات العالمية، بينما العلبة البرتقالية (amber box) تخص المساعدات التي لها آثار مباشرة على الأثمان والإنتاج وتصب في صالح المزارعين في دول الشمال دون سواهم من المزارعين في دول الجنوب. في حين إن العلبة الزرقاء (blue box) تتعلق بالدعم والمساعدات التي لها تداعيات محدودة ( مثلا التعويض المالي نظير الحد من الإنتاج في بعض المواد الزراعية..) ويتضح من مجمل الإجراءات المأمولة في اتخاذ تدابير صارمة في دول الشمال، نظير أن يقابله من دول الجنوب القيام بإصلاحات زراعية وتقديم الدعم الكامل للفلاحين الفقراء بغاية تصحيح الخلل، كما الإيفاء بضمانات التخلي عن جملة من التدابير المنحرفة (box shifting)، يتبعه تقليص حاد في مساعدات الولايات المتحدة الأمريكية لمنتجي القطن المحليين. إذ اتخذت قضية القطن كما نعلم جميعا قيمة رمزية كبرى، نظرا لما يحيط بها من إجحاف واضح ورهانات يمكن أن تحبط أي مفاوضات في المستقبل.

- أما فيما يتعلق بحق الوصول إلى أسواق بلدان الشمال الفلاحية، ترى مجموعة 20 بأن المفاوضات يجب أن تأخذ في نتائجها بعين الاعتبار الفرق بين اقتصاديات فلاحة جنوبية واقتصاديات فلاحة دول الشمال، تمنح بموجبه شروط تفضيلية وامتيازات للأولى. منه خفض حقوق الجمرك وتقليص الإجراءات الحمائية الغربية التي عادة ما تقف حجر عثرة في وجه صادرات بلدان الجنوب. كما التزام بلدان الجنوب بخفض قليل في الضرائب عن تلك المستخلصة في الدول المتقدمة ثم الحصول على إعفاءات ضريبية في بعض المنتوجات الخاصة ( تختارها دول الجنوب بمحض إرادتها)، علاوة على إدراج بند حمائي يتوفر بموجبه لبلدان الجنوب الحق في إعادة استخلاص حقوق الجمرك إذا تم إغراق أسواقها بالبضائع من طرف دول الشمال.

- وبالنظر إلى ما يخص ملف دعم الصادرات الذي عادة ما تلجأ إليه دول الاتحاد الأوربي، فإن الدول السائرة في طريق النمو تطالب بضرورة منعه تطبيقا للالتزامات التي قطعتها عليها دول الشمال في مؤتمر هونغ كونغ في شهر ديسمبر 2005.

- وفي الأخير تدعم الدول السائرة في طريق النمو بعض المطالب الأخرى، بخاصة تلك القاضية بفتح كامل للأسواق الغربية أمام صادرات بلدان العالم الثالث ( يخص المطلب مجموعة الدول التي يقل دخل أفرادها العام عن 900 دولار) كما هو مسطر في برنامج الكل مسموح به، ما عدا السلاح المقترح من الاتحاد الأوروبي، بحيث ينسحب على جميع خطوط التعرفة الجمركية وليس على %97 في المئة أو %98 في المئة منها فحسب مما يعني إعفاؤها الشامل من حقوق الجمرك، كما تأمل أيضا أن تأخذ دول الشمال الغنية بعين الاعتبار جملة المشكلات التي يتعرض لها عدد من البلدان التي لحقت أخيرا في منظمة التجارة العالمية، خاصة تلك التي تستورد جزءا كبيرا من الإنتاج الزراعي من الخارج، ودعم موقفها بالحصول على مساعدات من أجل تنويع محاصيلها، يعقبه فتح أسواق بعض الدول المتقدمة في وجهها، ودون نسيان معالجة مشكلات بعض المنتوجات الزراعية القادمة من الدول المدارية.

شريطة أن يسدل الستار على الخطوط العامة حول المفاوضات الفلاحية، يمكن أن تفتح ملفات أخرى تخص الوصول إلى الأسواق غير الفلاحية وقطاع الخدمات وما يتعلق بالمعايير الدولية وإجراءات التقنين. لذا فإن التشديد القائم من دول الشمال حول حق الوصول إلى أسواق بلدان الجنوب نظير التنازلات التي ستقدم من لدن قطاعها الفلاحي غير إن الاختلافات بين مجموعة 20 ( عادة ما تدعم موقف مجموعة (NAMA=11 دولة) والدول الغنية لا يمكن التقليل من أهميتها على الرغم من وجود عدة اقتراحات تخص التقليص من حقوق الجمرك وقسمتها على ثلاثة ( حل "سويسرا" في مؤتمر هونغ كونغ) فإنه ليس ثمة اتفاق حول المُعامل الجبري المطبق في حسابات خفض الحقوق الجمركية الفعلية بين الدول المتقدمة والدول السائرة في طريق النمو أما فيما يخص ملف القوانين والمعايير ثمة موقفان جديران بالعرض، إذ تولي الدول السائرة في طريق النمو أهمية كبرى لمشكلة التصرف في براءات اختراع الأدوية الصيدلية ( وهو ما يخص اتفاقية احترام حقوق الملكية الفكرية) والسماح لها بصنع أدوية مطابقة لها، مما يفرض التفكير جديا في ضرورة الوصول إلى حل قانوني، نظرا لحساسية بالغة تتعلق بالصحة العمومية.

إذ لهذه المشكلة قيمة سياسية ورمزية تعلو كثيرا على قيمته التجارية على الرغم من أهمية هذه الأخيرة. لكن المشكلة ما زالت تراوح مكانها، بالقياس إلى ما تريد دول الاتحاد الأوروبي مثلا، كأن يشمل التقنين جميع القطاعات، بينما لا ترى الدول السائرة في طريق النمو ضرورة قصوى وبالعودة إلى ملف الخدمات يلاحظ أن الاختلافات حوله أقل حدة من ملف الأسواق غير الزراعية وملف المعايير والقوانين. إذ تظل طموحات الطرفين أقل جموحا. هذا على الرغم من أن الدول السائرة في طريق النمو استطاعت أن تفرض موقفها حول مواضيع حساسة، منه مثلا الحصول على وعد ـ محدود ـ بفتح الدول المتقدمة أسواق عملها أمام عمالة دول الجنوب في إطار بعض الورشات أو في قطاعات خدماتية محددة زمنيا ( يلاحظ في هذا الإطار تشديد من الهند حول هذا المطلب).

ما مدى صلابة " جبهة" دول الجنوب في منظمة التجارة العالمية؟

بإيجاز شديد، من المهم الوقوف على نقطتين أساسيتين في هذا الإطار:

- أولا، يشكك عدد من المفاوضين في صلابة هذه الجبهة، ويرون أنها عرضة لاختلافات في المصالح واختراقات ظرفية قد لا يصمد معها كثير من دولها أمام العديد من الإغراءات من هذا الطرف أو ذاك. ناهيك أن أول ما يطرح على بساط البحث في هذا الموضوع، الارتفاع الهائل في حصة الصين من المبادلات العالمية، ما يدفع في نظر البعض أن تتشكل مصالح مشتركة أو ظرفية بين بعض بلدان دول الجنوب والدول المتقدمة في وجه ذلك لاحقا. لكن الحديث عن ذلك في الوقت الحاضر ما يزال مبكرا للخوض فيه، بحيث ما نلاحظه اليوم يقتصر على مطالبة الدول الغنية الصين بالتخلي عن دعمها المقنع ومطابقة سياستها النقدية، بينما تستغل الدول السائرة في طريق النمو هذا الموقف ـ ارتفاع صادرات الصين ـ للامتناع عن تقليص حقوق الجمرك الصناعية.

ناهيك عن أن الصين من ناحيتها تلعب دورا خفيا في المفاوضات الجارية ( فهي عضو في مجموعة 20 وعضو أيضا في مجموعة 33) ولا تأنف من دفع عدد من دول الجنوب لمشاكسة الكبار، بحيث تحملت عددا من التنازلات تفوق ما يمكن أن تقبله الدول السائرة في طريق النمو لكي يتم قبولها في منظمة التجارة العالمية ومن ثم فهي ليست في موقف دفاعي إذا استثنينا الملف الفلاحي حيث تتخوف من أن يظهر تقليص جديد في حقوق الجمرك تراها مسبقا جد ضعيفة. بيد تعلم الدول الأخرى السائرة في طريق النمو علم اليقين أن الصين هي المستفيد الأول من انخفاض الإجراءات الحمائية الجمركية في الأسواق غير الزراعية سواء في دول العالم الثالث والدول المتقدمة على نحو سيان.

- ثانيا إن تضارب المصالح بين دول الجنوب يظل قائما، بحيث يرغب عدد من الدول الصاعدة أن تفتح البلدان السائرة في طريق النمو أسواقها أمام بضائعها. لكن هذه الأخيرة ما زالت تمانع في ذلك. فالدول الفقيرة التي تحظى بامتيازات في الدول المتقدمة تضمن بموجبها تدفق صادرات بضائعها الفلاحية في أسواقها، يمكن أن تصبح ضحية إذا ما تم فتح الأسواق الفلاحية كليا، مما يعني تقليص هامش أرباحها وعائداتها. إذ يلاحظ أن الهند مثلا تطالب بفتح الأسواق كليا على مصاريعها، بينما نجد دولة البرازيل على النقيض من ذلك ( ضد فتح سوقها). ويمكن أن نكرر عدداً من أمثلة تضارب المصالح بين دول الجنوب غير أنه على الرغم من هذه الاختلافات، ما تزال جبهة دول الجنوب قائمة في منظمة التجارة العالمية، ما دام أن الوصول إلى اتفاق بين دول الجنوب ودول الشمال لا يلوح في الأفق ( حول خفض الدعم للمزارعين في الغرب وحول فتح الأسواق الفلاحية في دول الشمال من جهة ، وفتح الأسواق الفلاحية والصناعية في دول الجنوب)، أي ما يعتبره باسكال لامي مدير منظمة التجارة العالمية ب"مثلث المفاوضات" الذي لا يمكن من دونه أن تنجح مفاوضات الدوحة والواقع يعتبر الخبراء أن تشكيل جبهة بين الدول السائرة في طريق النمو، عقَّد كثيرا المفاوضات، إن لم يكن قد أطلق العنان للمزايدات من كل حدب وصوب، مما يجعل دول الشمال أمام خيارين أحلاهما مر: ارتفاع أكلاف ( جمع تكلفة) حصة دول الشمال إذا ما رغبت في إنجاح برنامج الدوحة التنموي أو أن تختار إفشاله، وهو أمر لا تسلم بدورها من تداعياته.

هذا دون أن نغفل بأنه إذا قمنا بتحليل مواقف الدول السائرة في طريق النمو سنجد أنها منخرطة قلبا وقالبا في منطق منظمة التجارة العالمية وفلسفتها، لكنها تحاول أن تصل إلى توافقات من موقع قوي. لذا فهي لا تبحث أن تجعل من المنظمة حطاما بقدر ما تسعى إلى إنقاذ اقتصادياتها من الليبرالية المتوحشة التي لا ترحم. لذا يطرح السؤال، كيف نفسر التعثر الحاصل في مفاوضات دورة الدوحة؟ وهل هناك أزمة وعي أم وعي مأزوم؟ ما يعني في نظر الكثير من الخبراء توجيه الأنظار من أزمة المفاوضات إلى أزمة النظام الاقتصادي العالمي بعامة، ومنطق العلاقات الدولية السائد حاليا بخاصة.

على ضوء ما تقدم، ومما لا شك فيه أن أزمة المفاوضات الحالية تتغذى تفاصيلها وتعقيداتها من الشك الحاصل في نظام عالمي متعدد الأقطاب، وبالتالي أنظمة المبادلات الدولية منهجا ونتيجة لذا إن كانت فلسفة منظمة التجارة العالمية رسميا تتمحور حول المبادلات الحرة، فإن وسيلتها في تحقيق ذلك تتمحور على ممارسة جد مختلفة، بحيث تظل مركنتيلية ( تجارية) محضة. ذلك أن نظرية التبادل الحر تؤكد وتبين منطقيا أن الدولة التي تفتح حدودها تستفيد دائما، كيفما كان موقف شركائها، على الرغم من عدم وجود معاملة بالمثل. بيد أن منهجية منظمة التجارة العالمية التي تلت اتفاقية الغات تخص تبادل الامتيازات بين دول يفترض تحقيق توازن عن طريق مفاوضات ثنائية أو متعددة الأقطاب في حالة وجود اختلافات بين دول كثيرة والواقع أن هذا الإجراء اعتبر بمثابة "مكر التاريخ"، حيث إن محاولة الجمع بين تنازلات متبادلة في إطار قواعد ومعايير كونية أدت إلى ليبرالية شاملة للمبادلات، ما لا يمكن على غراره أن يستفيد منه كل الشركاء أو أن يجعل منه هدف أي مفاوضات تجارية. و يبقى السؤال هل سيأتي النظام الحالي بالنتائج المرجوة إذا كانت المفاوضات ستجمع بين 150 دولة مرتبطة باتفاقيات ثنائية وإقليمية أو أنظمة تفضيلية بين هذا البلد أوذاك، أو بين هذه المجموعة وتلك؟ فمن دون شك إن تعقيدات المفاوضات في ظل تراجع سقف الطموحات يحفز الدول الكبرى أن تفضل اللجوء إلى مفاوضات ثنائية أو إقليمية على الدخول في مفاوضات متعددة الأقطاب والشركاء الدوليين، مما يفسر توجه الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي نحو تفضيل هذا النوع من المفاوضات والحال إن تعقيدات المفاوضات الحالية أصبحت تتقاطع مع هزالة ما هو منتظر مستقبلا منها، فالأرقام التي يتم تداولها تفرض الانتباه إلى نتائجها حول الاقتصاد العالمي، ما يعني مراجعة التقديرات المتوقعة والمنتظرة من نجاح مفاوضات الدوحة التي غالبا ما نفخ فيها لذا إن الدراسة الأخيرة التي تم إنجازها من طرف ساندرا بولاسكي بإيعاز من وقفية كارنيجي للسلام الدولي (Carngie Endowment for international peace) أحد أبرز دبابات التفكير الأمريكية تطرح الخلاصات التالية:

- في حالة تطبيق برنامج الدوحة للتنمية ونجاح المفاوضات في جميع ملفاته، من المنتظر أن لا يفوق المكسب العام 40 مليارا أو 60 ملياراً دولار، أي أقل من %0.2 بالمئة ( دون واحد بالمئة) من الدخل العالمي السنوي. بالإضافة لا يمكن أن نتوخى معه حصول قسمة عادلة في عائدات الأرباح بين جميع الدول، بحيث ستستفيد الصين بنسبة تتراوح بين %0.8 في المئة أو %1.2 في المئة منه في ناتجها الداخلي الخام، بينما سيكون الخاسر الأكبر دول جنوب الصحراء الإفريقية (%0 في المئة إلى %0.5 في المئة في ناتجها الخام).

هذا مع العلم أن تحرير أسواق القطاع الصناعي هو الذي سيحقق عائدات مالية مرتفعة (بنسبة %90 في المئة)، بينما تحرير الأسواق في القطاع الزراعي سيعود بالنفع على الدول المتقدمة بالدرجة الأولى، ثم من بعدها بعض الدول الصاعدة (برازيل، الأرجنتين، تايلاند) لكن من المتوقع تحمل خسارة كبيرة من طرف الدول السائرة في طريق النمو، بخاصة الدول الفقيرة (بنغلادش، شرق إفريقيا، وجنوب الصحراء الإفريقية) والواقع أن هذه النتائج ترجع في كثير من أسبابها إلى تراجع الامتيازات التي كانت تحصل عليها بعض الدول الفقيرة من فتح أسواق الدول المتقدمة أمام بعض صادراتها ومن ثم تفرض الدراسة الإحصائية الوقوف عند ملاحظة موضوعية، مفادها أن مفاوضات الدوحة لم تحرز أي تقدم ملحوظ بين 2001- 2006، بينما نعرف في ذات الوقت ارتفاع حجم التجارة العالمية بنسبة %10.5 في المئة سنة 2004 أعقبها تحقيق ارتفاع بلغ %6 في المئة سنة 2005 لكي يصل %8 بالمئة سنة 2006.

أي أنه إذا كان منطق الليبرالية قد وصل مداه في منظمة التجارة العالمية وبلغ حدا تمنح بموجبه قوى اقتصادية أخرى ـ مصالح مصرفية كبرى والشركات العالمية ـ تأثيرا كبيرا في الاقتصاد العالمي، فإن هذا التأثير جلب معه غياب رجال الأعمال القوي إن لم يدفعهم للتنصل جملة وتفصيلا من إنجاح مفاوضات الدوحة وهو ما يفسر إلى حد كبير المشكلات التي يعانيها برنامج الدوحة للتنمية، على الرغم من أن الوصول إلى اتفاقية حول مفاوضات الدوحة والدفع بها إلى نهاية مسارها ممكن تقنيا.

على ضوء ما تقدم يمكن التأكيد من جديد أن مطالب الدول السائرة في طريق النمو والقاضية بفتح أسواق دول الشمال أمام بضائعها إن بدت هجومية في بلاغتها بالنسبة لدول الشمال، فإنها لا تعد حججا قوية تصب أيضا في صالح الدول المتقدمة. لاسيما إصرارها على الحفاظ على أسواقها وعدم تحريرها كليا. بالمقابل تحظى الدول المتقدمة بانفتاح محدود في أسواقها، بخاصة منها الواعدة وفي الأخير إن تحفظ الدول السائرة في طريق النمو المبالغ فيه تجاه تبني معايير وقوانين جديدة تقنن جميع مظاهر السوق العالمية يحتاج إلى مراجعة، تفرض اقتناع جميع المشاركين في المفاوضات بضرورة العودة عن الخلل في التوازنات الموروثة عن الاتفاقيات السابقة وتصحيح الاعوجاج أينما حصل ذلك أن تقديم تنازلات صغيرة من الطرفين يمكن بسهولة من الوصول إلى اتفاق (تصريح المدير العام للمنظمة في 2 يوليو 2007) لكن هذه التنازلات نعلم أن تكلفتها السياسية باهظة بالقياس إلى حجم الرهانات الواقعية المطروحة، أهمها أن الليبرالية ليست قدر البشرية ومن ثم يعزى تملص عدد من الفرقاء في دول الشمال من إنجاح مفاوضات دورة الدوحة وتفضيلها عقد اتفاقيات ثنائية عوض البحث عن اتفاق عالمي شامل، لا ترى في نتائجه غير تحقيق أرباح متواضعة وللخروج من نفق الأزمة التي طالت نرى من الضروري التوفر على إرادة سياسية تتجاوز جماعات الضغط الحمائية في دول الشمال والجنوب على حد سواء، إذ إن غياب هذه الإرادة السياسية من قبل المفاوضين هو ما يدفع حثيثا دورة الدوحة إلى الفشل التام. علاوة على ذلك، ليس صحيحا ما يروجه بعض المصالح المالية المتنفذة في دول الشمال عن دول الجنوب أن هذه الأخيرة تدفع نحو المواجهة بين الشمال والجنوب إن لم تكن عودة بلغة عالم ثالثية خشبية، لأن الدول السائرة في طريق النمو تريد نظاما عالميا متعدد الأقطاب في المصالح الاقتصادية كما العلاقات الدولية. وبالتالي فهي تحاول الوقوف في وجه من يريد تهميش مصالحها الحيوية من جهة، كما الابتعاد قدر الإمكان عن هؤلاء الذين لا يقدمون غير الرفض كما وقع من لدن المناهضين للعولمة في مدينة سياتل وكانكون من جهة أخرى غير أن عام 2008 يشي بقدر من التنازلات لصالح الدول النامية .

وكل ذلك بحسب المصدر المذكور نصا ودون تعليق.

المصدر:almajalah