الفكرة القائلة إنه يجب الاختيار بين العلوم والدراسات الإنسانية خاطئة
آلان برينكلي
يجب عدم هدر نصف القدرات العقلية
في ذروة
السنوات التقدمية في مطلع القرن الـ20، قلة من الأمور كانت أكثر جاذبية
من الآمال المعلقة على المعرفة العلمية. ففي عالم كان يكافح للتكيف مع
سرعة تطور الصناعة ومع الهجرة الواسعة النطاق والنمو المديني الفوضوي،
بدا أن العلم والتكنولوجيا يوفران حلولا لكل المشاكل تقريبا. وقد كرست
الجامعات والكليات الحديثة نفسها بشكل شبه كامل للعلوم والتكنولوجيا
والهندسة. وبات الكثير من الأمريكيين يعتقدون أن الحقائق العلمية ليست
قادرة على حل المشاكل العلمية فحسب، إنما يمكنها أيضا إصلاح عالم
السياسة والحكومة وقطاع الأعمال. لكن حربين عالميتين وكسادا كبيرا
زعزعت ثقة الكثير من الناس بأن الخبرات العلمية وحدها قادرة على جعل
العالم مزدهرا ومنظما. في أعقاب الحرب العالمية الثانية، انصرف العالم
الأكاديمي بحماسة جديدة إلى دراسة العلوم الإنسانية، التي بدت للكثير
من الأكاديميين الطريقة المثلى للحرص على استمرارية الديموقراطية
ومقاومة الاستبداد. وانتشر الأكاديميون الأمريكيون في معظم بقاع العالم
بدعم من مؤسسة "فورد"، وبرنامج فولبرايت، ووكالة المعلومات الأمريكية
لتشجيع تعليم الآداب والفنون في محاولة للدفاع عن الحريات
الديموقراطية.
في عصرنا،
أصبح التحدي التعليمي الأكبر في أمريكا يتمثل في تحسين طرق تعليم
المواد الأربع الأساسية: العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات.
وثمة قلق شديد ومبرر من تخلف الولايات المتحدة عن بقية بلدان العالم
المتقدم في هذه المجالات الأساسية. ويبدو أن الهند والصين واليابان
وغيرها من البلدان أصبحت تحتل مواقع ريادية في مجال التكنولوجيا.
في الوقت
نفسه، فإن العلوم الإنسانية مع أنها لا تزال واسعة الشعبية في جامعات
وكليات نخبوية تشهد حالة من التدهور، ولعل ذلك محتم. إن العلوم
الإنسانية لا تحظى بتمويل كاف على الإطلاق، ليس فقط من قبل الحكومة
والمؤسسات المعنية بدعم التعليم بل أيضا من قبل المؤسسات الأكاديمية
نفسها. والأكاديميون المختصون بالعلوم الإنسانية يتقاضون عادة أدنى
الأجور بين بقية أفراد الهيئة التعليمية في معظم المؤسسات، وغالبا ما
لا يحظون بتقدير كاف لأنهم لا يجتذبون المنح ولا يوفرون خبرات يمكن
الاستعانة بها في معظم المهن غير الأكاديمية.
لا شك في
أنه يجدر بقطاع التعليم الأمريكي أن يقوم بتدريب المزيد من العلماء
والمهندسين وتعليم المبادئ العلمية للجميع. فمعظم قلق السياسيين بشأن
حال الجامعات الأمريكية اليوم يتمحور حول افتقارها إلى تعليم يهيئ
الطلاب "للعالم الحقيقي", وهذا يعني تهيئتهم لوظائف مهنية وعلمية. لكن
الفكرة القائلة إنه يجدر بالمؤسسات وطلابها الاختيار بين الدراسات
الإنسانية والعلمية خاطئة. لا يمكن لمجتمعنا أن يستمر من دون معرفة
علمية وتكنولوجية، لكننا بحاجة ماسة أيضا إلى العلوم الإنسانية. العلوم
والتكنولوجيا تعلمنا ما يمكننا أن نحققه، لكن التفكير المبني على
العلوم الإنسانية يمكن أن يساعدنا على فهم ما يجب أن نفعله.
إن العلوم
الإنسانية ليست مجرد وسائل للتوصل إلى مكافآت جمالية وإلهام فكري،
فبالرغم من أهمية هذه الأهداف. فالعلوم والتكنولوجيا تصبو إلى حلول
واضحة للمشاكل (بالرغم من صعوبة التوصل إلى هذه الحلول)، في حين أن
العلوم الإنسانية تتطرق إلى المسائل المبهمة والارتياب والتشكيك, وهي
من ركائز مجتمع معقد ومتنوع وعالم مضطرب.
ليس مفاجئا
أن الكثير من أعظم علمائنا ملتزمون إلى حد كبير أيضا بالمعرفة والقيم
النابعة من العلوم الإنسانية. وكذلك يجب ألا يفاجئنا أن الكثير من
مجالات العلوم الإنسانية تعتبر الأدوات العلمية ضرورية لإتمام عملها.
ففي جامعتي، على كل الطلاب أن يأخذوا حصصا في العلوم الإنسانية، لكن
عليهم أيضا تطوير مهاراتهم وثقافتهم العلمية. وقد طور الكثير من معاهد
الفنون الجميلة مناهج مماثلة. فبين الأكاديميين، لا يتعايش العلماء
والمختصون بالعلوم الإنسانية فحسب بل غالبا ما يتعاونون. ومعظم
الجدالات بشأن القيمة النسبية لهذه المضامير المختلفة تحدث في عالم
السياسة التعليمية ليس إلا.
من شبه
المستحيل تخيل مجتمعنا من دون التفكير في الإنجازات المدهشة التي حققها
العلماء والمهندسون لبناء عالمنا المعقد. لكن حاولوا تخيل عالمنا من
دون الأعمال المدهشة أيضا التي حددت ثقافتنا وقيمنا. فطالما كنا بحاجة
إلى كلا المضمارين، ولا نزال.
برينكلي،
أستاذ في التاريخ حاصل على منحة آلان نيفينز، وهو العميد السابق لجامعة
كولومبيا.
المصدر:newsweek-
24/11/2009
|