هل أصبحت الصين نموذجاً يجب أن يحتذي به العرب؟
د. السيد ولد أباه
تحتفل الصين هذه السنة بالذكرى الستين للثورة الشيوعية،
التي قادها الرئيس الراحل ماو تسي تونج، مبتهجة أنها واصلت نموها
الاقتصادي بوتيرة عالية، وتغلبت على تأثيرات الأزمة المالية العاتية
التي هزت العالم مؤخراً.
وكما هي العادة، يطل علينا كتاب ومحللون عرب يروجون
"للنموذج الصيني"، مستدلين بمكاسب العجلة الاقتصادية الصينية على صحة
ووجاهة المسلك التنموي والاجتماعي الصيني، في مقابل النماذج الغربية
التي لم تزد بلداننا إلا فقراً وتخلفاً. وحتى التجربة السياسية الصينية
القائمة على الحزب الواحد وإلغاء الحريات العامة، تُقدم من هذا المنظور
خياراً بديلا من الفوضى والتفكك، في حين لم تجلب الديمقراطية المصدرة
أميركياً إلى العراق سوى الفتنة والتمزق وتلاشي الكيان الوطني الجامع.
يتزامن ترويج النموذج الصيني فكرياً مع اختراق صيني
متزايد وسريع عربياً وأفريقياً.ففي نوفمبر 2006 انعقدت في بكين القمة
الأفريقية- الصينية الأولى بمشاركة عشر دول أعضاء في الجامعة العربية،
وتمخض اللقاء عن إعلان شراكة استراتيجية واقتصادية مكينة بين الجانبين.
وقد نشأت داخل كبريات المدن الأفريقية أحياء صينية كاملة، في ما يشكل
مشروعاً استيطانياً طويل الأمد تحت غطاء الاستثمار الصيني في القارة
السمراء. وحسب الأرقام المعلنة، يزيد عدد الصينيين المقيمين في أفريقيا
على 200 ألف، إلى حد أن أول صحيفة منشورة باللغة الصينية في أفريقيا
ظهرت في نيجيريا.
ولا يخفي الفرنسيون امتعاضهم وقلقهم من الاختراق الصيني
المتسارع لمناطق نفوذهم التقليدية في القارة. وقد صرح وزير التعاون
الفرنسي "ألان جوانديه" مؤخراً أن بلاده تتعرض حالياً لخطر التهميش
والإقصاء في أفريقيا لصالح الصينيين، معتبراً أن تركيز فرنسا على قيم
الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، قد عزلها في القارة السوداء،خصوصاً
في المناطق النفطية والمعدنية التي يتحكم فيها رؤساء دول مستبدون وجدوا
ملاذاً في التحالف مع الإمبراطورية الشيوعية.
أما في البلاد العربية، فقد تشكلت صورتان متعاقبتان
للصين في الوعي السياسي: صورة النموذج الماركسي الملائم للمجال الجنوبي
العالم ثالثي، وصورة نموذج التنمية المستقلة القادرة على كسر المنظومة
الرأسمالية من الداخل وتحقيق التوازن الاستراتيجي المطلوب مع القوى
الدولية الغربية (الولايات المتحدة وأوروبا).
برزت الصورة الأولى لدى التيار الماوي الذي تميز بنشاطه
الفكري والسياسي في العديد من الساحات العربية، وتميز المفكر
والاقتصادي المصري المعروف سمير أمين بالترويج له في نظريته المشهورة
حول "المركز والأطراف"، في الوقت الذي قام تيار "ماوي" نشط في المغرب
العربي (عبر البوابة الفرنسية).
والفكرة الرئيسية التي استند إليها "الماويون" العرب هي
أن الماركسية الصينية تتميز بخاصيتين أساسيتين هما:النزعة الوطنية
المستقلة في مواجهة الصراع القطبي بين معسكرين مهيمنين يتقاسمان النظام
الدولي هما في نهاية المطاف معسكران غربيان بالمعنى الواسع للعبارة،
والاستراتيجية التنموية الاجتماعية الرابطة عضوياً بين العالم الريفي
(الذي كان مركز الثورة الصينية) والفضاء الصناعي المتمحور حول الصناعات
الخفيفة. فالعالم العربي أقرب من حيث أوضاعه التاريخية والتنموية
للحالة الصينية، كما أن الفكر "الماوي"، الذي هو خليط من المنهج الجدلي
والحكمة الصينية التقليدية أقرب للروح الشرقية وأسهل نفاذاً إلى عامة
الناس. ومن ثم ندرك الإقبال الواسع الذي حظي به كتيب "ماو" الصغير
"الكتاب الأحمر" لدى التيار الماركسي العربي. والكتاب الذي هو أكثر
الكتب توزيعاً في العالم بعد الإنجيل، هو عبارة عن استشهادات متنوعة من
خطابات وخطب الزعيم الصيني، وقد ترجم إلى العربية منذ مطلع الستينيات
وانتشر انتشاراً مذهلا في أوساط "اليسار" العربي.
أما النموذج الثاني، فليتقي في ترويجه نمطان من
المثقفين العرب: فلول الماركسيين العرب المتشبثين بآخر تجربة ماركسية
باقية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي والمعسكر الشرقي، وبعض الباحثين في
الشأن الآسيوي الذين يروجون النموذج التنموي الآسيوي في شموليته بديلا
عن تجارب الانفتاح الليبرالي المتعثرة.
فالصنف الأول يستدل باستمرارية التجربة الصينية على
قدرة الماركسية على التجدد الذاتي والتأقلم مع التحولات التقنية
والصناعية واللعب على تناقضات المنظومة الرأسمالية، في حين يستنتج
الصنف الثاني من التجربة نفسها مؤشرات تحول قلب الاقتصاد العالمي إلى
الدائرة الآسيوية، مع ما يعنيه هذا التحول من تغير جذري في تركيبة
النظام الدولي. ولقد بدا بالفعل بعض الكتاب العرب منذ التسعينيات
يروجون للنموذج الصيني الجديد من منطلق التأكيد على ترابط استراتيجيتي
الممارسة النظرية المستقلة والتنمية الذاتية المستقلة (عادل حسين وأنور
عبدالملك....).
والغائب في الكتابات العربية هو الغوص في التجربة
التحديثية الصينية من حيث الخلفيات التاريخية والفكرية، مما يفسر
الموقف الانبهاري المتسرع السائد (على غرار موضة الافتتان بالنموذج
الياباني، التي راجت في العقدين المنصرمين وتخصصت أقلام معروفة في
تسويقها).
والمعروف أن التجريبية التحديثية الصينية، بدأت في
ثلاثينيات القرن التاسع عشر، وحققت نتائج باهرة في العقدين الأولين من
القرن العشرين قبل أن تنهار إثر الفوضى العارمة التي عصفت
بالإمبراطورية الصينية، ولم تنته إلا مع ثورة 1948.ويدرس الباحث
والسياسي الصيني "جين غوانتاو" في كتاب مشترك مع زوجته صدر بعنوان
"الرفاهية والأزمة" المسار التحديثي الصيني الذي اصطدم في بدايات القرن
العشرين بإشكالية يواجهها اليوم تتمثل في مصاعب التوفيق بين تنمية
اقتصادية سريعة وفعالة، والحفاظ على التماسك الاجتماعي والسلم الأهلي.
فالإمبراطورية الصينية حافظت تاريخياً على الأمن
الداخلي والتماسك الاجتماعي من خلال آليتين متمايزتين هما: التركيبة
البيروقراطية المنظمة والتراتبية المرتبطة مباشرة بالحكم الإمبراطوري،
وقدرة الثقافة الكونفوشيوسية على توحيد وربط المكونات الجزئية التي
ينقسم إليها المجتمع.
ومن الواضح أن الحزب الشيوعي الصيني الذي لا يزال يرفع
الشعار الماركسي (دون مضامين فعلية) يضطلع بدور السلطة الإمبراطورية
المطلقة، في الوقت الذي شجعت القيادات الإصلاحية ما بعد المرحلة
الماوية الرجوع للتقاليد الكونفوشيوسية القائمة على مبادئ الطاعة
المطلقة والنظام الصارم، مع تشجيع نزعة قومية استعلائية تستند إلى
التراث المحلي الغني وإلى عقود مذهلة من النمو خلقت أغنى طبقة رأسمالية
في العصر الراهن.
فالصين التي كانت إلى حدود القرن الخامس عشر مركز
الحداثة الكونية(باكتشافاتها المعروفة للورق والبارود والطباعة) حققت
دون شك طموحها للحاق بالغرب، الذي شكل أفق النخب التحديثية منذ القرن
التاسع عشر. ولا يبدو أنها مهددة بسيناريو التفكك السوفييتي، نتيجة
لغياب التركة التنويرية المشتركة مع الثقافة الأوروبية (انعدام معايير
الذاتية الفردية ومفاهيم الحرية والتميز المرتبطة بها). ولهذا السبب
ذاته، فإن هذا النموذج القائم على السلطوية المطلقة والجماعية القامعة
للإرادة والتحرر غير قابل للتصدير وغير مغر للاستنبات والتجريب، على
عكس ما يعتقد بعض مروجيه من العرب.
وكل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور نصا ودون
تعليق.
المصدر:alittihad-26-10-2009
|