العالم دون إسلام .. لو لم يكن هناك إسلام، هل كان سيغيب صدام الحضارات؟

 

 

تأليف: غراهام فولر- قراءة حسن البراري

 

 

ثمة ما يشير إلى أن موضوعي الإسلام والإرهاب هما الموضوعان الأكثر نقاشاً في الغرب عندما يتعلق الأمر بالشرق الأوسط، ولا سيما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول وتبلور ظاهرة الإسلامو- فوبيا في الغرب. والإسلامو- فوبيا هو مصطلح يعبر عن الموقف السلبي من والتمييز ضد والخوف من الإسلام، وظهر في عقد الثمانينيات، لكنه شاع بعد أحداث الحادي عشر في الولايات المتحدة. ويتم الربط بين الإسلام السياسي والإرهاب العالمي بشكل غير نقدي وغير تمحيصي لدى الكثير من المحللين والاستراتيجيين في الغرب. وتبلغ السذاجة حداً منقطع النظير عندما يتم النظر إلى الدين الإسلامي كمتغير مستقل كاف لشرح العنف والإرهاب في الشرق الأوسط وبمعزل عن الظروف والعوامل الأخرى. وبالتالي توحي مقولة ((العالم بدون إسلام)) وكأنها تعبير عن تفكير رغائبي لتقديم الحل الشافي للإرهاب وعدم الاستقرار في العالم من الطبيعي إذن أن نطرح أسئلة كثيرة تتعلق بانعكاس غياب الإسلام. فمثلاً، لو لم يكن هناك إسلام، هل كان سيغيب موضوع تصادم الحضارات؟ وهل كانت المسيحية ستكون مسيطرة على العالم؟. وهل كان الشرق الأوسط سيكون ديمقراطياً وسلمياً؟. وهل أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول ما كانت لتحدث؟. فافتراض أن الإسلام هو مصدر العنف والإرهاب وسبب في غياب الديمقراطية يعني من جملة ما يعني أن الإجابة عن الأسئلة الثلاثة السابقة هي بالإيجاب.

وكتب غراهام فولر في مجلة ((الفورين بوليسي)) التي تصدر في الولايات المتحدة مقالاً بعنوان ((العالم بدون إسلام))، إذ جاء كموضوع غلاف لعدد هذا الشهر. وهذا ما أثار ردي وتعليقي هنا على مقالته التي أقل ما يمكن أن توصف به، هو أنها موضوعية ومتوازنة ومنصفة للإسلام. وغراهام فولر هو نائب سابق لمدير مجلس الاستخبارات الوطني في وكالة المخابرات الأمريكية، وكان مسؤولاً عن استشراف المستقبل على المدى الطويل، وعاش في خمس دول عربية لمدة أربعة عشر عاما. وآخر ما كتب هو كتابه عن مستقبل الإسلام السياسي عام 2003.

قبل التعليق على مقالة غراهام فولر الممتعة، لنستعرض في البداية المقاربتين الفكرتين السائدتين بين النخب الفكرية في الولايات المتحدة والمتعلقتين بكيفية التعامل مع الإسلام السياسي. المقاربة الأولى هي مقاربة المواجهة والاصطدام (Confrontationlist Approach) والمدرسة الثانية هي مدرسة الاستيعاب (Accom- ModationistApproach)وكلتا المقاربتين ممثلتان جدياً بين نخب الولايات المتحدة القريبة من دوائر صنع القرار. ويحاول كل من أنصار هذين التوجهين التأثير في الإدارات الأمريكية المتعاقبة. وكلتا المدرستين تؤمنان بأن الديمقراطية إنما تؤدي إلى الاعتدال وتخفيف الصراع. ومرد هذا الاعتقاد يعود إلى الفيلسوف الألماني (كانت) ونظرية السلم الديمقراطي. فالدول الديمقراطية، ولأسباب بنوية متعلقة بالنظام السياسي ومعيارية متعلقة بمنظومة القيم والأخلاق، لا تدخل في حروب مع بعضهما البعض، بيد أن هناك موضوعين اثنين يفرقان بين هاتين المقاربتين وهما: التفاؤل أو التشكك من إمكانية نجاح الديمقراطية في المجتمعات المسلمة، وبخاصة عندما يصل الإسلاميون إلى السلطة والموضوع الثاني هو حول ماهية الأجندة السياسية للإسلاميين حال وصولهم السلطة ويشبه الجدل الحالي المتعلق بالموقف من الإسلام السياسي الجدل الذي ساد أثناء الحرب الباردة والذي تمحور حول الموقف من الشيوعية. الفارق في هذه الحالة، هو أن الإسلام يحل محل الشيوعية كخطر ومصدر تهديد استراتيجي على المصالح الحيوية للولايات المتحدة.يجادل أنصار المدرسة الأولى أمثال برنارد لويس، جيلز كيبيه، ودانيال بايب، وروبرت ساتلوف، وجوديث ميلر، بأن الإسلام يتعارض مع الديمقراطية. فالشمولية الإسلامية هي تماماً كالشمولية الشيوعية من حيث معاداة كليهما للديمقراطية والغرب ويلخص برنارد لويس هذا التوجس في مقولة ((شخص واحد وصوت واحد ولمرة واحدة)) بمعنى أن الإسلاميين يستعملون الديمقراطية كسلم للوصول إلى السلطة وبعدها لن تجري انتخابات لأنهم سيستأثرون بالسلطة ولا يسمحون بتداولها. لكن، هل كان الشرق الأوسط سيكون ديمقراطياً لو لم يكن هناك إسلام؟. وإذا كان الجواب بالإيجاب عندها يمكن طرح سؤال: لماذا تأخرت إسبانيا المسيحية والبرتغال في عملية الديمقراطية حتى نهاية السبعينيات؟. وماذا عن روسيا المسيحية؟

يعتقد أنصار هذه المدرسة أن الصراع بين الغرب والإسلام ليس فقط على المصالح السياسية والمادية، وإنما هو صراع حضاري. وهنا يبرز البروفيسور الأمريكي المعروف صموئيل هنتنغتون في نظرية صراع الحضارات التي جاء بها في عام 1993. باختصار الإسلام بالنسبة لهم حل مكان الشيوعية كخطر وتهديد وليس تحدياً فقط. ويتوصل أنصار هذه المدرسة إلى جملة من التوصيات التي على حكومة الولايات المتحدة اتخاذها لمواجهة هذا الخطر الجديد. ويستحضرون مفاهيم من الحرب الباردة لرفع منسوب القلق لدى الشعب ولتحذيرهم من التهديد الإسلامي لدفع أصحاب القرار لمواجهة واحتواء هذا الخطر. ويعتبر بعضهم أن هناك خطراً من نوع آخر مصدره الإسلام الأصولي وصل إلى شواطئ الولايات المتحدة بسبب المسلمين المقيمين في أمريكا.

لذلك يوصي بعضهم بمنع دخول الأصوليين الإسلاميين إلى الولايات المتحدة حتى لا يتفاقم هذا الخطر. وعادة ما يشيرون إلى التفجيرات الإرهابية التي حدثت في لندن وقام بها مسلمون من بريطانيا كدليل على استفحال خطر الجالية المسلمة في الغرب ويطالب دانيال بايب على سبيل المثال بمحاربة وهزيمة الإسلام. وفي سياق مواجهة الإسلام، تزداد المطالبة من حكومة الولايات المتحدة في ألا تضغط على الدول الشرق أوسطية الحليفة للتنازل لجهات حقوق الإنسان أو مطالبي الإصلاح لأن ذلك سيفيد الإسلاميين. والمتابع لكتاباتهم يجد أن أغلبهم لا يميز بين التوجهات الإسلامية المختلفة إذ ينظر إليهم كمجموعات وإن اختلفت فهي تشترك في نفس الهدف. وأكثر من ذلك، يتحدث بعض المحافظين الجدد عن الفاشية الإسلامية كعدو في حرب عالمية ثالثة قادمة.

المدرسة الثانية هي مختلفة كلياً عن المدرسة الأولى. فهم يميزون بين أعمال المعارضة الإسلامية وبين الأقلية المتطرفة التي توظف العنف. وينتقدون تركيز الإعلام والحكومة والأكاديميا على أعمال الأقلية المتطرفة وتغاضيهم عن القوى الإسلامية المعتدلة. فهم يرون أن التقليد الإسلامي يمتاز بالمرونة وليس الجمود. وهم يشككون بجدية الحكومات المسلمة والحكومات الغربية في الموقف من موضوع الدمقرطة. فهذا روبين رايت من ((لوس أنجلوس تايمز)) يتهم إدارة بوش بتفضيل ((دولة أمن وشرطة)) على دولة إسلامية في الجزائر. ويظهر أصحاب هذه المدرسة فهماً عالياً وراقياً أفضل من المدرسة الأخرى عندما يتعلق الأمر بسبب نشوء الإسلام السياسي وصعود الحركات الإسلامية المختلفة. وهم يعيدون ذلك إلى التطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وليس إلى أيديولوجيا راديكالية جامدة وغياب الديمقراطية ليس مرده عوامل داخلية، وإنما للتدخل الغربي والاستعمار الذي كان له الأثر الأكبر في استمرار الوضع التسلطي والشمولي في المجتمعات المسلمة. بمعنى أنهم على خلاف أنصار المدرسة الأولى يؤمنون بإمكانية الديمقراطية وأن الإسلاميين أكثر مرونة مما يعتقد، وبالتالي لا ضير في أن يتسلموا الحكم إن وصلوا بصناديق الاقتراع.

هناك جملة من التوصيات التي توصي بها هذه المدرسة. فالمطالبة هنا ألا تعارض الولايات المتحدة تطبيق هذه الدول للشريعة الإسلامية وألا تعارض نشاطات الحركات الإسلامية. فبقدر ما يمثل صعود الحركات الإسلامية تحدياً فإن ذلك يخلق فرصاً كبيرة للإصلاح وإيجاد حكومات أكثر تمثيلا. وعلى الولايات المتحدة بالتالي الاعتراف وقبول أو على الأقل التسامح مع وجود اختلافات كبيرة بين الغرب المسيحي والإسلام. ثم على الغرب دعم الجهود الديمقراطية حتى لو وصل الإسلاميون للسلطة وعودة إلى موضوع المقالة وهو ((العالم بدون إسلام)). فالمعروف أن غراهام فولر ينتمي إلى مدرسة أمريكية في التعامل مع الإسلام السياسي تمتاز بالمرونة والقدرة على التكيف بدلاً من المواجهة. ولو غيرنا عنوان مقالته في مجلة ((الفورين بوليسي)) وقلنا: هل كان العالم سيكون أفضل حالاً بدون إسلام؟

وهل كان مجرى التاريخ سيأخذ منحى آخر؟. السؤالان افتراضيان وكأننا نقول: ماذا كان سيحدث لو أن هتلر لم يصعد إلى الحكم في ألمانيا؟. لا شك بأن هناك صعوبة على الإجابة عن هذه الأسئلة لأنها غير علمية في الدرجة الأولى. ومع ذلك لا ضير في محاولة الإجابة عن هذا التساؤل لأننا سنركز على ديناميكية حركة التاريخ وبالتالي قد نصل إلى إجابات شافية.كان الإسلام سيكون المشكلة لو أن العالم كان سيأخذ منحى سلمياً آخر بدون إسلام. وهذا ما يجيب عنه غراهام فولر الذي يؤكد أنه ما كان ليتغير الكثير. ويبدأ غراهام فولر بموضوع العرقية. فالأعراق المهيمنة في الشرق الأوسط هي العرب، الكرد، الأتراك، الفرس، اليهود، البربر والبشتون، وبالتالي فالصراع كان سيحدث على كل الأحوال بين هذه الأعراق. وكان المغول سيدمرون الحضارة في آسيا الوسطى والكثير من الشرق الأوسط في القرن الثالث عشر وكان الأتراك سيسطرون على أناضوليا والبلقان حتى فيينا ومعظم الشرق الأوسط. فهذه صراعات كانت على قضايا القوة والسلطة والتأثير والتجارة وجدت حتى قبل ظهور الإسلام. بمعنى أننا لم نكن بحاجة إلى الإسلام لإظهار أسباب الصراعات التاريخية. فالصراع هو سابق على الإسلام. وهنا يبدو أن ثيوسيديدس وتغطية لحروب البيلوبوتيزية هو الشاهد الأمثل على أن الصراع بسبب اختلال موازين القوة هو ما أشعل الحرب المدمرة بين إسبارطة وأثينا في فترة سبقت الإسلام بقرون وبطبيعة الحال، يمكن القول لولا ظهور الإسلام لبقي الشرق الأوسط في مجمله مسيحيا. لكن هل كان هذا سيمنع نشوء الحروب واندلاعها بين الفينة والأخرى؟. وهل كانت العلاقة بين الغرب والشرق ((المسيحي)) ستكون حالة من الانسجام عندئذ؟. فهل أوقفت مسيحية الحبشة الطليان المسيحيين من الاستعمار؟. وهل كان الغرب المسيحي سيمتنع عن إظهار قوته في الشرق الأوسط لتحقيق الهيمنة الاقتصادية والجيواستراتيجية لو أن الشرق بقي مسيحياً؟. المعلوم أن الحملات الصليبية على منطقة الشرق الأوسط كانت مدفوعة بالمصالح الاقتصادية والسياسية والاجتماعية ولم يكن علم أو راية المسيحية إلا غطاء أو رمزاً قوياً للتأطير والحشد وذلك لإضفاء البركة والشرعية على مشروع علماني بحت للغزاة الصليبيين. وعلاوة على ذلك، لم يستقبل مسيحيو الشرق الأوسط الإمبرياليين الغزاة لأنهم مسيحيون. فالإسلام وحده لم يكن العامل الوحيد الذي كان وراء مقاومة المشروع الاستعماري ولو نظرنا إلى أمريكا اللاتينية المسيحية لرأينا شدة مقاومتها للهيمنة الأمريكية على النفط والسياسة والاقتصاد.

فالشرق الأوسط بدون إسلام كان سيكون معنياً بإيجاد حركات وطنية معادية للاستعمار لانتزاع السيطرة والتحكم في شؤونهم بدلاً من الخضوع للمحتل والمستعمر الغريب. بمعنى أن التجربة التاريخية للشعوب المختلف تقترح علينا بأنه لا يوجد سبب واحد يجعلنا نعتقد أن رد الشرق الأوسط على الاستعمار كان سيكون مختلفاً بوجود الإسلام ولو أخذنا تجربة اليهود في الاضطهاد، لرأينا بأن الغرب المسيحي هو الذي ارتكب المجازر ضدهم، وأن معاداة السامية والمشكلة اليهودية هما صناعة أوروبية بامتياز. لم تحدث الهولوكوست على أيدي المسلمين، وإنما على أيدي أوروبا المسيحية. بمعنى أن إلصاق تهمة العنف للإسلام إنما تضليل لحقيقة الأشياء. فمذابح اليهود في أوروبا وانتشار مظاهر معاداة السامية وظهور الصهيونية كانت ستدفع اليهود باتجاه البحث عن مخرج وإقامة دولة لهم في فلسطين، الأمر الذي كان سيضعهم في صدام مباشر مع السكان الأصليين، وهنا الحديث عن الفلسطينيين بصرف النظر عن دينهم. فالصراع الفلسطيني- العربي الإسرائيلي، لم يجر بسبب الإسلام. فقد قامت الحركة الصهيونية بإقامة دولة لليهود في فلسطين واقتلعت ما يقارب من ثلاثة أرباع المليون لاجئ قبل وخلال وبعد حرب عام 1948وجزء كبير من اللاجئين هم مسيحيون. ومنذ أن حرم الفلسطينيون حق تقرير المصير لغاية هذا اليوم، وهم يطالبون سلمياً وأحياناً من خلال توظيف العنف بحقهم الوطني في إقامة الدولة. ويبقى الصراع الفلسطيني الإسرائيلي على الأرض هو لب وجوهر الصراع العرقي والوطني. والحقيقة أن الصراع اشتد بين الحركة الوطنية الفلسطينية العلمانية بقيادة بعض المسيحيين مثل جورج حبش ونايف حواتمة، ولم ينضم العامل الديني إلا في أواخر عقدين مع الانتفاضة الأولى وظهور حماس. لم تكن العلاقة الإسرائيلية الفلسطينية هادئة قبل ظهور الإسلاميين والجميع يتذكر حرب لبنان عام 1982، التي شنتها إسرائيل للتخلص من منظمة التحرير الفلسطينية. والحقيقة تبقى بأن أهم رموز القومية العربية من المفكرين هم مسيحيون أمثال ميشيل عفلق الذي تلقى تعليمه في فرنسا. ومع ذلك أسس البعث العربي وقام بدور كبير في مقارعة الاستعمار والإمبريالية وإسرائيل ويبين غراهام فولر، بأنه لولا ظهور الإسلام لبقي العرب على ما كانوا عليه قبل ظهور الإسلام. ولبقي العرب في أغلبهم ملتزمين بالمسيحية الأرثوذوكسية الشرقية.

وثقافة المسيحية الأرثوذوكسية الشرقية تختلف جذرياً عن أخلاقيات أوروبا المسيحية بعد عصر التنوير التي ركزت على قيم العلمانية والرأسمالية وسمو الفرد. وعندها يكون السؤال هل كان من الممكن ألا يتعرض الشرق الأوسط المسيطر عليه من المسيحية الأرثوذوكسية الشرقية المعروفة بمعاداتها للغرب وللاستعمار والهيمنة الغربية؟. وهل كان الاحتلال الأمريكي للعراق مرحباً به لو أن المسيحية هي المسيطرة في الشرق الأوسط؟ فلم تقوم الولايات المتحدة كما يؤكد غراهام فولر بإسقاط صدام حسين من الحكم لأنه مسلم، بل لتحقيق مصالحها وهي تعرف أنه علماني. لا يوجد موقع في العالم يستقبل فيه الناس الغزاة الذين يقتلونهم بالترحاب. ويحدث أن الشعوب المحتلة تلجأ أحياناً إلى الأيديولوجيات لتبرير وتمجيد مقاومتهم للاحتلال. الدين بهذا المعنى هو أحد هذه الأيديولوجيات.

ومن هنا وفي الوقت الذي يجادل فيه غراهام فولر بأن العالم كان سيكون عنيفاً وغير مستقر بدون الإسلام، إلا أنه لا يمكن التقليل من دور الإسلام كدين وعامل موحد فوق الدولة الوطنية. وبدون شك أثر الدين على العلاقات الدولية بشكل ملحوظ ومن غير الممكن أن نتصور قدرة أفغانستان على دحر الاتحاد السوفييتي لولا قدرة الدين على خلق وإقناع الكثيرين للجهاد والتضحية في سبيل الله. فالإسلام يمنح المسلمين ذاكرة ثقافية أو حضارية ليلتفوا حولها ويتماهوا معها وقد ساعدت هذه الذاكرة على وجود حركات عابرة للدول خلقت وعياً إسلامياً وعربياً لمقاومة المستعمر. وتاريخياً تمكنت القوى الأوروبية المستعمرة من السيطرة على أمريكا اللاتينية أو أفريقيا بسهولة إذ تمكنت من تقسيم هذه الأقاليم لأنها افتقدت وجود ذاكرة جماعية تشجعهم على التوحد والتصدي للمستعمر الأجنبي. أما في الحالة العربية فلم تستطع القوى الأوروبية في لعبة فرق تسد أن تستمر دون الاصطدام بحركات عابرة للدول، وهنا يأتي دور العامل الإسلامي والقومي في مقاومة المشروع الاستعماري.

وهذا يجب ألا يقودنا للقول إن الإسلام هو المسؤول عن العنف والإرهاب العالمي. وهذا ما يحاول المحافظون الجدد في أمريكا من إلصاقه إلى الإسلام بعد أن استطاع الإعلام الغربي من خلق ظاهرة الإسلامو- فوبيا. ويسلط الإعلام على المتطرفين الإسلاميين الذين يتبنون العنف لتغيير قواعد النظام الدولي متناسياً في الوقت نفسه أنه حتى الغالبية العظمى من حركات الإسلام السياسي تتبنى التغيير بالوسائل السلمية ولا تتبنى العنف وتشارك في اللعبة السياسية وتقبل بقواعد هذه اللعبة ومقولة إن أحداث الحادي عشر ما كانت ستحدث لولا الإسلام هي من المسلمات لدى بعض الدوائر المؤثرة في واشنطن. المشكلة في هذا التحليل أنه لا ينظر إلى أثر السياسة الأمريكية في الحركات السياسية بمختلف منطلقاتها الأيديولوجية. فهناك عقود من الغضب والاستياء العربي والإسلامي على السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط التي تحابي إسرائيل على حساب القضية الفلسطينية. فبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول وجه فريد زكريا السؤال التالي: لماذا يكرهوننا لهذا الحد؟. هل الإسلام هو مصدر المشكلة وسبب انتشار المشاعر المعادية للولايات المتحدة؟. دراسة شبلي تلحمي في كتاب المخاطر تبين أن السبب في انتشار هذه المشاعر هو السياسات الأمريكية في الإقليم وليس القيم الأمريكية. بمعنى أن التقدير السائد لا يرى في الغرب عدواً لولا دعم أمريكا لإسرائيل واحتلالها للعراق ولو رجعنا للتاريخ لوجدنا أن العرب أرادوا أن تكون الولايات المتحدة هي من يتولى الانتداب بعد الحرب العالمية الأولى وليس القوى الأوروبية الاستعمارية. وكان العرب ينظرون للقيم الأمريكية وبخاصة النقاط الـ 14 التي جاء بها ودرو ويلسون بإعجاب شديد. ولم تتغير مشاعر العرب والمسلمين تجاه الولايات المتحدة إلا بعد أن تم تجيير السياسة الخارجية الأمريكية لخدمة المشروع الصهيوني التوسعي في المنطقة. فغالبية العرب والمسلمين لا ترى مشكلة في القيم الأمريكية. فقد بينت دراسات مسحية كثيرة بأن الولايات المتحدة هي النقطة التي يرغب في الهجرة إليها شباب العرب والمسلمين. وهذا مؤشر على الإعجاب بقيم التعددية والحرية الفردية. لكن غالبية العرب تريد الصين مثلاً وليس الولايات المتحدة كقوى عظمى. السبب هنا الموضوع الإسرائيلي. وهنا تبرز مدرسة عربية واسعة تربط بين أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول وبين السياسات الأمريكية التي أنتجت المشاعر المعادية للولايات المتحدة وينتقد غراهام فولر تركيز الغرب على الإرهاب باسم الإسلام مذكراً أن العصابات اليهودية استعملت الإرهاب ضد الوجود البريطاني في فلسطين في الأربعينيات من القرن الماضي، وأن ثورة نمور التاميل في سريلانكا، هي التي ابتدعت فن السترة الانتحارية وقادت العالم لمدة عقد من الزمان في العمليات الانتحارية، فهم الذين اغتالوا رئيس وزراء الهند راجيف غاندي في منتصف الثمانينيات. كما أن الإرهابيين اليونانيين هم الذين نفذوا عمليات اغتيال ضد الموظفين الأمريكيين في اليونان. وأخيراً قام الجيش الإيرلندي بتوظيف الإرهاب ضد البريطانيين لعقود من الزمن. ويقتبس غراهام فولر بعض الأرقام للإرهاب في عام 2006، ليؤكد مقولته. فقد نفذ 498 هجوماً إرهابياً في دول الاتحاد الأوروبي عام 2006، (424 عملية من قبل جماعات انفصالية، و55 من قبل متطرفين يساريين، 18 من قبل مجموعات مختلفة، وواحدة فقط من قبل إسلاميين). ويتساءل غراهام فولر بعد هذا العرض بشكل استنكاري فيما إذا كان من الصعب تخيل أن يقوم العرب (المسلمون منهم والمسيحيون) بعد تعرضهم لغزوات صهيونية وتدخلات خارجية على شكل إمبريالية واستعمار وإطاحة ببعض الأنظمة التي لا تروق للغرب أن يستعملوا تكتيكات مماثلة؟!.

والسؤال هو: لماذا لم يحدث هذا في وقت مبكر؟. فلو أن الإسلام يعارض ويكره العصرنة، كما يؤكد نتنياهو في تفسيره لأحداث الحادي عشر، لماذا انتظر كل هذه العقود لمهاجمة الولايات المتحدة كما حدث في أحداث الحادي عشر؟. ولماذا قام بعض المفكرين الإسلاميين في بداية القرن العشرين بالمناداة بتبني العصرنة والحداثة مع الاحتفاظ بالثقافة الإسلامية؟. فمشكلة أسامة بن لادن في بداية نشاطاته ليست الحداثة وإنما التدخل الأجنبي ووجود قوات أجنبية على أراض عربية واحتلال فلسطين. وهنا ليس دفاعاً عن ابن لادن الإرهابي وإنما محاولة لدحض من يلصق الإرهاب بعقيدة الإسلام. فالإسلام قدم آلية مقاومة كما قدمت من قبله الماركسية وهي أيديولوجية مسؤولة عن عدد لا يحصى من العمليات الإرهابية. والحقيقة أن الذين يسعون للتخلص من الاستعمار ومقاومة النفوذ الأجنبي أو الاحتلال الأجنبي يبحثون عن رايات ينضمون تحتها، يبحثون عن رايات تنشر وتمجد قضية النضال. فتاريخياً قدم مفهوم صراع العمال راية ممتازة وقدمت الوطنية والقومية راية أخرى، والآن يقدم الدين راية إضافية وفعالة وبخاصة عندما يكون العدو من ديانة مختلفة. فالدين بهذا المعنى ليس مصدر المواجهة وإنما آلية.

ونعود إلى السؤال المركزي وهو لو لم يكون هناك دين إسلامي فهل كان العالم سيكون أكثر أمناً؟. أتفق مع ما ذهب إليه غراهام فولر بأن الدين الإسلامي ليس مصدر الشر والعنف والصراع في العالم. وبالتالي فالنظام الدولي (الذي يتكون من دول) يمتاز بالأناركية أي الفوضوية وغياب سلطة عالمية تمنع نشوب النزاعات وتفرض على الدول التقيد بتنفيذ الاتفاقات. وهذه ميزة النظام الدولي منذ الأزل. وكتب عنها المفكر الإنكليزي هوبز واصفاً إياها بقانون الطبيعة وهو صراع الكل ضد الكل. وفي هذا النظام الفوضوي يكون الأمن هو القيمة الأساسية التي يبحث عنها الفرد والدولة. وحسب قوة الدولة، وفي هذا النظام الدولي الفوضوي تتراوح مصالح الدولة من مجرد البقاء العضوي والسياسي في مجتمع الدول إلى الهيمنة على بقية الدول حسب قوتها.

بمعنى أن الصراع هو سمة بارزة في علاقات الأمم منذ الأزل وسابق بقرون على ظهور الإسلام ولو نظرنا إلى الصراعات الدولية في القرن العشرين فقط، لوجدنا أن أشرس الصراعات دارت في أوروبا المسيحية في الحربين العالميتين الأولى والثانية. فالحرب العالمية الثانية لم يكن للعرب المسلمين أي مساهمة سوى أن بلادهم كانت مسرحاً لحروب عالمية طاحنة بين دول تتنافس على الهيمنة والسيطرة وقتل في الحرب الثانية أكثر من 50 مليوناً وحدثت محرقة قام بها هتلر العلماني (المسيحي) ضد اليهود، ثم ابتدع اليابانيون ظاهرة انتحار الطيارين الكميكاز لمنع أساطيل الولايات المتحدة من السيطرة على المحيط الهادي، ثم ألقيت قنابل نووية على اليابان. فأين هو الدين الإسلامي من كل ذلك؟. ثم أين العرب والمسلمون من الحرب الباردة؟ وماذا عن حرب كوريا التي قتل فيها أكثر من مليون إذ خسرت الولايات المتحدة لوحدها أكثر من 14 ألف قتيل. وجاءت بعد ذلك حرب فييتنام التي كلفت الولايات المتحدة الغالي والرخيص في سياق استراتيجيتها القائمة على احتواء الخطر الشيوعي وحسب ما كتب الاستراتيجي الشهير جورج كينان عام 1947، عندما كان سفيراً للولايات المتحدة في روسيا. وماذا عن الحروب الهندية الصينية؟. لو أردت أن أسرد الحروب والصراعات التي حدثت في القرن العشرين فقط لوجدت أن غالبها بين دول غربية مسيحية.

بكلمة، لا يمكن الإجابة عن سؤال افتراضي وهو كيف كان العالم سيكون بدون الدين الإسلامي؟. لكن من المؤكد أن مظاهر الصراع وانعدام الأمن هما السمتان الرئيسيتان للنظام الدولي منذ الأزل. هناك آيات قرآنية حضت على الجهاد لكن فقط عندما يكون المسلمون تحت الخطر. بمعنى أن الإسلام يؤيد الدفاع عن النفس وهذا حق مضمون للدول في القانون الدولي. البلاد العربية تتعرض إلى احتلالات وتدخل أجنبي تتم مقاومته من قبل حركات مختلفة ودول مختلفة وبأشكال مختلفة. الإسلام هو إحدى الرايات التي تنضم تحتها المقاومة، واختطاف الحركات الراديكالية للإسلام وتوظيف العنف لا يمثل الغالبية الساحقة من المسلمين. وأخيراً يمكن القول إن غراهام فولر أجاد في هذه المقالة في تقديم فهم عميق لديناميكية القوة والصراع والسلم في النظام الدولي في المنظور التاريخي.   

وكل ذلك بحسب المصدر المذكور نصا ودون تعليق.

المصدر:asuparty.net