تسرق أحلام النهوض والتنمية...دراسة عن الفساد المالي والإداري

 

 

الفساد الإداري والمالي وسرقة حلم البلدان النامية في النهوض والتنمية

البيانات والأرقام الصادرة عن منظمة الشفافية الدولية، وغيرها من المؤسسات المعنية بالشفافية ورصد الفساد الإداري والمالي، تؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن الفساد الإداري والمالي قد استشرى في العالم. وللأسف تأتي البلدان العربية والإسلامية في ذيل قائمة الشفافية الدولية تلك مع قيم الإسلام الراقية.

صحيح أنه لا ينبغي الثقة في الأرقام والبيانات الصادرة عن المنظمات الدولية بشكل عام ومنظمة الشفافية الدولية بشكل خاص. ذلك أنه لا يستبعد أن تقوم بخدمة أهداف سياسة وتتلاعب بنتائج تحرياتها وأبحاثها عن الشفافية بما يسمح لها أن تصور البلدان الخارجة عن بيت الطاعة الأمريكي بصورة بلدان رخوة وفاشلة حينا وبلدان فاسدة إداريا وماليا حينا آخر. ومع ذلك لا ينبغي نفي وجود الفساد في البلدان العربية والإسلامية، والشك في دقة تلك البيانات قد يعيد النظر في ترتيب تلك البلدان في قائمة الشفافية الدولية غير أنه لا يخرجها من خانة البلدان التي تتدنّى فيها الشفافية والمصداقية.

التساؤل الذي يطرح نفسه هنا هو: لماذا يستشري الفساد في العالم المعاصر؟ وهل تكمن أسباب ذلك في انتشار التيارات العلمانية والمادية، والابتعاد عن الدين والقيم الدينية، وسيادة قيم السوق بشكل عام والسوق الاحتكاري بشكل خاص أم أن استشراءه يرتبط بالمتغيرات الدولية التي حدثت في نهاية القرن الماضي وما ترتب عليها من فساد النظام الدولي بل وفساد العالم وقيمه، وذلك بسبب انفراد الولايات المتحدة بالسيطرة على العالم وإرغامه على تبني أيديولوجية السوق وقيمه الفاسدة تحت لافتات نهاية الأيديولوجيا ونهاية اليوتوبيا بل ونهاية التاريخ بالمفهوم الهيجلي، وما أدى إليه ذلك من نهاية الحلم بعالم أفضل. ثم إنه لماذا يستشري الفساد في البلاد العربية والإسلامية رغم انتماء أهلها إلى الإسلام؟ وما أثر استشراء الفساد في التنمية بالبلدان النامية ؟ وأخيرا هل يقتصر الفساد على القطاع العام  كما يدعي رافعو ألوية الإصلاح على الطريقة الغربية وأتباع أيديولوجية السوق" السوقة "؟

دارس ومتتبع قضية الفساد يدرك أن أسبابه تكمن في الآتي:

1. الاحتكار وسيادة القيم الطبقية:

الاحتكار هو أصل الفساد في الحياة الاجتماعية. فحين يقع الاحتكار تنحرف الحياة والمجتمعات الإنسانية عن القواعد الطبيعية، وتنشأ الطبقات والطبقية ويتفشى الظلم الاجتماعي وتختفي القيم والقواعد التي كانت سائدة في الفطرة الأولى، وتحل محلها قيم طبقية جديدة تحتقر الضعيف والفقير وتعتبرهما فاشلين وغير جديرين بالحياة، وتصبح القوة والقوة الاقتصادية هي القيمة الوحيدة التي تحوز التقدير والثناء والإعجاب. عندها يصبح الضعيف على استعداد لأن يعمل أي شيء من أجل امتلاك القوة والقوة الاقتصادية بالذات ليحوز الإعجاب والتقدير بغض النظر عن نبل الوسيلة، ثم إن أولئك الذين هم في أعلى الهرم الاجتماعي سيكونون على استعداد لعمل أي شيء من أجل البقاء في القمة  ودون الأخذ في الاعتبار نبل الوسيلة أيضا، وحين ينقسم المحتكرون إلى محتكرين للسلطة ومحتكرين للثروة يسعى محتكرو الثروة إلى إفساد ذمم محتكري  السلطة من اجل بقائهم في أعلى الهرم الاجتماعي ويستمريء محتكرو السلطة ذلك النمط من الفساد والإفساد ليحافظوا على بقائهم في أعلى هرم السلطة.

2. الابتعاد عن الدين والقيم الدينية:

شكّل الابتعاد عن الدين والقيم الدينية وسيادة العلمانية والقيم المادية أحد أهم أسباب استشراء الفساد في العالم بشكل عام وفي البلدان الغربية بشكل خاص، حيث عمد أولئك الذين كسبوا معارك السوق إلى التنظير لليبرالية والعلمانية ومبادىء المجتمع المدني. وفي كل هذه الأطر النظرية تم استبعاد الدين؛ فالليبرالية تعد الدين قيداً على الحرية، والعلمانية ترى أنه لا ينبغي الركون إلى الدين لحل أي من المشكلات التي تواجه الإنسان، وتدعو إلى الركون إلى العلم وحده، ومبادىء المجتمع المدني تستبعد أي مرجعية عند ممارسة السيادة والتشريع والإدارة من خارج الفرد والمؤسسات الديمقراطية والإدارية بما في ذلك مرجعية الدين والأعراف القبلية والعشائرية. وأدى استبعاد الدين والقيم الدينية إلى سيادة قيم السوق التي تعلي من شأن الربحية واكتساب القوة الاقتصادية التي لا مكان فيها لقيم الصدق والأمانة والشفافية، فتلك القيم لا قيمة سوقية لها الأمر الذي عزز من سيادة الفلسفة البرجماتية بدلالتها النفعية وأكسب الفاسدين قيمة اجتماعية. فالناس في المجتمعات التي سادت فيها القيم النفعية والأنانية لم تعد تسأل عن مصدر الثروة، ولا يهمها ذلك الأمر الذي أدى إلى استشراء الفساد.

3. الإحباط واليأس من إمكانية التغيير:-

منذ انهيار الاتحاد السوفيتي وانفراد الولايات المتحدة بالسيطرة على العالم، وانتشار مقولات نهاية الأيديولوجيا ونهاية اليوتوبيا ونهاية الحلم بعالم أفضل ونهاية التاريخ ساد مناخ من الإحباط واليأس من إمكانية التغيير دفع الكثير من المقهورين والمستضعفين والحالمين بعالم أفضل إلى حالة من الإحباط واليأس ترتب عليها سقوط العديد منهم في إحدى الحالات التالية:

أ.  إدمان الكحول والمخدرات.

ب. الفساد الإداري والمالي.

ج. الإفراط في ممارسة العنف ضد القوى المهيمنة.

4. تغليب الولاء العشائري والقبلي:

يشكل ضعف الولاء الوطني وقوة الولاء العشائري والقبلي أحد أهم أسباب استشراء الفساد الإداري والمالي في البلدان النامية  بشكل عام والبلدان العربية بشكل خاص، حيث يجيز الموظفون العموميون في تلك البلدان لأنفسهم نهب المال العام لمصلحة أبناء عمومتهم وقبائلهم وعشائرهم ولا يرون غضاضة في ذلك ويزيد من قتامة الصورة اعتماد معايير عشائرية وقبلية عند التعيين في الوظائف العامة والخاصة وعند التعاقد على المشروعات وهلم جرا.        

مظاهر الفساد:

تتمثل مظاهر الفساد المستشرية في العالم في تقاضي الرُّشَى، وتقديمها، سواء المنظور منها أو الخفي؛ والذي يتمثل في تبادل التسهيلات والخدمات الحكومية منها والخاصة، والتهرب من الضرائب أو المساعدة على ذلك، والمحاباة، والوساطة، والمساهمة في تمويل الدعاية الانتخابية مقابل تجيير مؤسسات الدولة لمصلحة الممولين، والاتجار في الجنس، والمخدرات، وتبييض الأموال، والتزوير، والكذب، والإساءة إلى الآخرين من أجل المال كاستخدام المبيدات والأسمدة الكيماوية بشكل يؤدي إلى الإضرار بالمستهلكين، وعدم التقيد بالمواصفات القياسية في إنتاج الغذاء والأعلاف، ودفن النفايات السامة والنووية في مناطق مأهولة بالسكان أو تسهيل ذلك، واستخدام مصانع لا تتوفر فيها المواصفات القياسية، وتسهيل توريدها وإنتاجها، والكذب على الناخبين، والكذب في تمرير السياسات العامة، واستغلال الوظيفة للإثراء أو للابتزاز الجنسي ..الخ. ومن ذلك نستنتج أن الفساد لا يقتصر على القطاع العام بل القطاع الخاص هو المسئول الأول عن الفساد، فملاك القطاع الخاص هم الذين يحتكرون الثروة وهم الذين جروا وزينوا للعاملين بالقطاع العام سبل الفساد وأفسدوا ذممهم ليستخدموهم في تسهيل إجراءاتهم غير القانونية وتسهيل تهربهم الضريبي، وبشكل عام تمكينهم من البقاء في أعلى الهرم الاجتماعي.     

آثار الفساد:

للفساد آثار بالغة السوء فهو بمنزلة الايدز الاجتماعي يضعف مناعة المجتمع ويجعله عرضة لكافة الأمراض الاجتماعية الأخرى، فحين يصبح المواطن على استعداد لبيع ذمته الوطنية والوظيفية فعلى الوطن السلام حيث يبدأ مسلسل تخريب الوطن وابتلاع موارده واستنزاف ثرواته، ورفع فاتورة تنميته وزيادة معدلات التضخم به وبيعه للأجنبي بثمن بخس ويُدفَع المؤهلون والشرفاء فيه أمّا إلى الهجرة وأمّا إلي السقوط في هوة الإحباط واليأس وما يترتب على ذلك من انتشار الإدمان على المخدرات والكحول وارتفاع معدلات الانتحار ومعدلات الجريمة ..الخ. وبشكل عام يؤدي الفساد الإداري والمالي في البلدان النامية إلى سرقة حلم الأمم النامية في النهوض والتنمية.     

خطوات العلاج:

تبدأ خطوات العلاج من القضاء على الاحتكار أس فساد الحياة الاجتماعية في العالم ويتمثل ذلك في العمل على إصلاح السوق والاقتراب به من سوق المنافسة الكاملة والابتعاد به عن أي صورة من صور الاحتكار بما من شأنه الحد من التفاوت الكبير في الثروات والحد من استخدام الغير والعودة إلى القيم الدينية والأخلاقية ونبذ التعلق بقيم السوق والحد من الهيمنة والإمبريالية اللتين تقودان إلى اليأس والإحباط وإعادة الأمل للحالمين بعالم أفضل وإعادة الاعتبار لقيم المساواة والعدالة واحترام حقوق الإنسان عمليا وليس صوريا، والركون إلى قوة القانون عوضا عن قانون القوة.

ختاما لا يمكن لنا في هذه العجالة الإحاطة بقضية الفساد الإداري والمالي، ولعل القارئ يجد في هذا العدد المكرس لهذه المشكلة إجابات شافية عن تساؤلاته أو حتى مجرد طرح التساؤلات حول القضية. 

وكل ذلك بحسب المصدر المذكور نصا ودون تعليق.

المصدر: alanbaa