العراق: القوى السياسية بين توطين الأزمة وإرادة الحل
حسين درويش العادلي
بين يدي المؤتمر الخامس للمصالحة الوطنية
تأريخ
الدولة العراقية سلسلة أزمات متناسلة، وانهيارها في 2003 نتيجة حتمية
لمسلسل أزماتها بفعل سوء مرتكزاتها وسياساتها التي استندت على التمييز
والاستبداد والمغامرات. إنّ اسقاط النظام كشف طبيعة الأزمة العراقية،
كشف انها أزمة دولة وليست
أزمة تغيير
نظام سياسي بآخر، وجميع الأزمات الحالية في مظهرها الأمني والسياسي
والمجتمعي، وفي طبيعة تداخلاتها الإقليمية والدولية.. إنما تؤكد حقيقة
أنّ الأزمة أزمة دولة بجميع مكوناتها من إقليم جغرافي ونظام سياسي
ومجتمع طبيعي وهوية وطنية. بغض النظر عن النتائج التي ترتبت على طريقة
تغيير النظام وما أوجدته من تحديات إقليمية ودولية هائلة، وبغض النظر
عما أفرزت من إرهاب وجريمة وفساد وفوضى.. إلاّ أنّ ما تم إنتاجه بعد
التغيير- على يد معظم القوى السياسية- كان تأسيسا لحزمة أزمات موروثة
ومستحدثة زادت الواقع تأزماً،.. فكل شيء غدا أزمة: هوية الدولة أزمة،
شكل نظامها السياسي أزمة، الانتماء والولاء والتعايش والتماسك الوطني
أزمات، إدارة السلطة وتوظيف الثروة أزمات وأزمات، الدستور والقوانين
والثقافة أزمات وأزمات وأزمات،.. لقد أفرزت الأزمات خطر الانهدام الكلي
لبنية المجتمع والدولة، ما لم يتم تدارك الأزمة وتداعياتها.
مناشئ الأزمة
أولاً: فشل
مشروع الدولة الوطنية، بسبب الفشل بإنتاج المجتمع كجماعة إنسانية،
والفشل بإنتاج الدولة كجماعة سياسية.
فشل مشروع
الدولة الوطنية العراقية الحديثة يعود بالدرجة الأساس لفشل المدارس
البنيوية (العقائدية السياسية) المتعاقبة على حكم العراق والمشتغلة في
ميادين السلطة والثقافة والدين والاقتصاد.. الخ. وهو فشل بنيوي حطّم
مرتكزات بناء الدولة وحوّلها إلى مجرد سلطة متفرعنة على المستوى
السياسي، وإلى مجرد جماعات متناحرة على المستوى الاجتماعي، وإلى مجرد
عصبيات وعصبويات منغلقة على المستوى الثقافي.
يعود فشل
مشروع الدولة بالأساس إلى إقصاء المواطنة كوحدة بناء وولاء للجماعة
السياسية المشكّلة للدولة، حيث تم اعتماد الوحدات العرقية والطائفية
والجهوية بدلاً عن المواطنة في تنظيم علاقة الدولة برعاياها وفيما
بينهم، الأمر الذي أدى إلى فشل تماسك الجماعة السياسية المنتجة للدولة
من خلال ارتداد المواطنين إلى هوياتهم الطائفية والعرقية الضيقة
وثقافاتهم الفرعية المنقطعة،.. وهو ما أدى إلى فشل مشروع الدولة،
فعندما تفشل الدولة بالاعتراف بمواطنيها على قدم المساواة.. سيرتدون
إلى الوراء للبحث عن الاعتراف،.. وهو ما أدى إلى إحياء الهويات الفرعية
على حساب الهوية الوطنية الكلية.
إن فشل
الدولة كجماعة سياسية، صاحبه وبالعمق فشل المجتمع كجماعة إنسانية، وهو
ما أدى إلى التضحية بهما معاً. إنَّ المقاربة هنا تقول: انّ المجتمع
يُنتج دولة، والجماعة تُنتج سلطة، والمجموعات تُنتج سلطات،.. والإختلاف
جوهري بين ما تُنتجه هذه الأشكال من سياسة وثقافة، وبالنتيجة من انتماء
وولاء،.. من هنا يمكن الحكم بأنَّ الفشل بإنتاج الدولة يكمن في الفشل
بإنتاج مجتمع. إنّ مدارسنا الفكرية والسياسية لم تنجح بإنتاج مجتمع
مدني صاهر ومعبر عن جميع مكوناته وشرائحه.. فالدولة نتاج مجتمع، ولا
يمكن إنتاج المجتمع الوطني إلاّ على وفق حزمة من قيم المساواة والتكافؤ
والعدالة والحرية وعلى وفق مبادئ المواطنة والديمقراطية والتعددية
والسلم والتنمية،.. فهذه القيم والمبادئ هي الأسس القادرة على انتاج
مجتمع متوحد فعّال، وبإقرارها واحترامها وتفعيلها سياسياً وقانونياً
وثقافياً تنتج الروح الكلية للمجتمع على تنوع مكوناته، وعلى أرضية هذه
الروح الكلية الناتجة عن الكل والمحققة لمصالح الجميع تنتج الهوية
والخصوصية المجتمعية بالتبع، وهو ما يشكّل الأساس الطبيعي لقيام
الدولة، باعتبار أنّ الدولة هي الجماعة السياسية الوطنية.
فيما لو فشل
المجتمع بإنتاج ذاته على أسس المواطنة والعدالة والمساواة والتعايش..
فسيبقى مجتمعاً تقليدياً في بُنيته، يستند على مفهوم وثقافة وولاء
الجماعة الإثنية والطائفية والعرقية والجهوية الضيقة التي لا ترى غير
إطارها الخاص ولا تدافع إلاّ عن مصالحها الذاتية،.. وبالنتيجة سيتم
تغليب الجماعة على المجتمع كمفهوم واستحقاق، وهو ما يؤدي بالضرورة إلى
تغليب السلطة على الدولة، فالسلطة هنا مركز للحكم الضيق المستند إلى
عرق معين أو طائفة خاصة على حساب باقي الأعراق والطوائف، وهو ما يؤسس
لسلطة الجماعة لا دولة المجتمع. ومع غياب الدولة لحساب السلطة، وغياب
المجتمع لحساب الجماعة.. تتعدد مراكز السلطة بتعدد الجماعات الإثنية
والطائفية، ثم تتعدد السلطات بتعدد مراكز القوة والنفوذ والمصالح داخل
الجماعة الإثنية أو الطائفية الواحدة،.. والناتج قيام سلطات بعدد
المجموعات داخل الجماعة الطائفية والعرقية،.. وهو ما سيؤدي ليس فقط إلى
تفكك الدولة وتلاشي وحدة السلطة بل سيقود أيضاً إلى تكريس السلطات
المتكثرة بكثرة المجموعات التي ستطغى لتبتلع المجتمع كهيئة ودور. إن
انهدام وتشيؤ المجتمع بشقيه الإنساني والسياسي، لا يقضي فقط على الدولة
كجماعة سياسية، بل على المجتمع أيضاً كجماعة إنسانية،.. وستكون المحصلة
خلق مجتمع اللا دولة ودولة اللا مجتمع.
ثانيا: تضارب رؤى وإرادات ومشاريع إعادة إنتاج المجتمع والدولة.
صاحب وما
زال عملية سقوط الدكتاتورية في 2003 تضارب مريع في رؤى وإرادات ومشاريع
إعادة إنتاج المجتمع والدولة هويةً ونظاما، على مستوى فرقاء العملية
السياسية ومَن هم خارجها، وعلى مستوى رؤى ومشاريع الدول ذات الصلة
والتأثير على الواقع العراقي،.. ولأسباب عديدة: تاريخية وراهنة، ذاتية
وموضوعية، وطنية وخارجية، ناجمة عن أخطاء أو خطايا، عن وعي أو جهل،..
نتج لدينا تضارب وتناقض مريع جراء حرب الرؤى وصراع الإرادات وتناطح
المشاريع،.. وما نعيشه هو دليل تزاحم القوى وصراع الأجندات في إعادة
بناء العراق.
لا يمكن
للمجتمع التوحد والاستقرار ولا يمكن للدولة التماسك والبقاء فيما لو
افتقدا وحدة التصور وتناغم الإرادة للبدء بمشاريع البناء السياسي
والاجتماعي والاقتصادي والثقافي،.. وبالتبع لا يمكن الحديث عن هوية
الدولة وشكل النظام وطبيعة المجتمع مع فقدان وحدة التصور والإرادة.
ثالثاً: إنعدام أو ضعف الحواضن الأساس لإعادة إنتاج المجتمع والدولة
من بنى اقتصادية وخدمات وأمن.
لا يمكن
الحديث عن أي إعادة لإنتاج المجتمع والدولة وسط انهيار النظام
الاقتصادي والخدماتي وافتقاد أرضية الأمن بمعناه الإنساني الشامل.
للدولة ثلاث
وظائف أساسية لنجاحها: الاعتراف بمواطنيها على قدم المساواة، والحماية
لهم من خلال احتكارها للقوة، وتوفير الخدمات على تنوعها،.. وفيما لو
فشلت الدولة بأي من وظائفها فلن تتماسك. كما ليس للمجتمع من البقاء
والتكامل فيما لو انهارت منظومات الاقتصاد والخدمات والأمن التي بها
ومن خلالها تقوم وتتقوم الحياة على تنوعها.
رابعاً: كونية القضية العراقية على أساس تدويل قضاياها وملفاتها
إقليمياً ودولياً.
بسبب فشل
الأنظمة المتعاقبة على حكم العراق في تحديات البناء والبقاء السياسي
والاجتماعي والاقتصادي والأمني... تعددت وتراكمت وتداخلت الأزمات
العراقية واستفحلت لتغدو حزمة أزمات متداخلة ومتشابكة وممتدة، وبالذات
تداخلها مع قضايا الإقليم الشرق أوسطي المتنوع والقلق والمضطرب في
نظامه السياسي والاقتصادي والاجتماعي والأمني،.. ناهيك أيضاً عن
المحاور الدولية التي تخوض صراع المصالح على أرضه من خلال التعامل مع
ملفات الأزمة السياسية والأمنية والاقتصادية،.. لقد استحالت الأزمات
العراقية إلى قضية كونية بكل ما للقضايا الكونية من ثقل وتشعب وتعقيد
داخلي وإقليمي ودولي،.. وعلى أساس نتائج إدارة ملفات الأزمة سيتحدد نوع
العراق الجديد كدولة ومجتمع على مستوى الهوية والنظام.
خامساً: التوازن السلبي بين القوى السياسية المنتجة للقرار السياسي على
مستوى الدولة.
فقد أنتج
هذا التوازن فقدان عامل الحسم في إدارة الأزمات وحسمها، وقد ساعد في
ذلك قانون إدارة الدولة والاتفاقات التوافقية بين الكتل السياسية
ونتائج عملية المحاصصة التي عطلت الحياة السياسية وانسيابيتها.
سادساً: الانشقاقات الاجتماعية الكبرى التي يشهدها العراق لأسباب
طائفية وعرقية وسياسية.
والتي عمل
لها بقايا النظام المباد ومراكز الإرهاب وقوى الجريمة وبؤر التخلف
والعديد من المراكز الأجنبية، ما أنتج تعطيل وتحييد دور الشعب في حسم
التداعيات على أكثر من صعيد.
سابعاً: تمركز الإرهاب في العراق كقوة تعطيل وتخريب للبديل السياسي
والحضاري المراد إنتاجه بعد التاسع من نيسان 2003.
فالإرهاب
أعقد من كونه تمركزاً لجماعات تكفيرية هنا وهناك، بقدر ما هو ستراتيجية
محكمة تغذيها ثلاثة عوامل لإفشال التجربة العراقية، وهي: حواضن الإرهاب
الإقليمية والدولية المنتجة للفتاوى والتنظيمات، والمؤسسات الدينية
والعلمانية المحلية والإقليمية على حد سواء، والمال والإعلام المضاد.
كما لا يمكن
إغفال جملة من المناشئ الأخرى التي انتجت هذا الواقع المأزوم، في
طليعتها: سلبية معظم القوى المعادية لتغيير النظام وتوظيفها للجريمة
والإرهاب وتدمير بنى المجتمع والدولة. وأيضاً دور معظم قوى التغيير في
توظيفها للذاكرة التأريخية الطائفية في العمل السياسي، وابتلاع الأحزاب
للدولة، وشخصنة المسؤوليات العامة.
تتضافر هذه
العوامل وما تفرزه من استحقاقات لخلق خطورة الواقع العراقي ليس وطنياً
فحسب بل إقليمي ودولي. وتزداد الخطورة مع تكاثر الأزمات وتعقيدها بسبب
التقادم والتراكم وقصور الرؤية وسوء التعاطي والإستهانة بمدياتها
الكارثية.
الأزمة وموقف القوى السياسية
يعيش العراق
خطر الانهدام الكلي على خلفية تفشي الأزمات واستفحال تشظياتها داخلياً
وخارجياً رغم محاولات الاحتواء من قبل المخلصين،.. وهنا فموقف القوى
السياسية هو الأساس المنتج للوحدة أو التشرذم، وسيحكم التأريخ على
ارادتها وفعلها تجاه تحدي بقاء المجتمع والدولة،.. وليس هناك من
استثناء لأية قوة سياسية مشتغلة بالمصير الوطني، الكل داخل وخارج
العملية السياسية معنيون باخراج العراق من محنة الإنهدام انساناً
ومجتمعاً ودولة، ولا مكان للتنصل.
عملية
المصالحة والوفاق الوطني هما الحصن الأخير الذي يجب انجاحه على أرضية
المسؤولية التاريخية والولاء الوطني والتنازلات البناءة بين الفرقاء
السياسيين الوطنيين، فمن غير المسموح إفشال الوفاق الوطني تحت أي
ظرف. مؤتمر المصالحة المنعقد حالياً في ربوع بغداد فرصة لتفعيل
الإرادة والخيار والولاء الوطني، ليكن تأسيساً لعهد جديد بين القوى
السياسية المعنية بالهم الوطني، ورائداً في بلورة مشتركات الإنقاذ،
وجريئاً في اعادة إنتاج الحياة السياسية كأسس ومبادئ وسياسات وآليات
لإحتواء خطر الإنهدام الكلي.
القوى
السياسية أمام تحد مصيري لا يطال وطنيتها وقدرتها على إنقاذ البلاد
فحسب بل يتصل أيضاً بوجودها كقوى قادت البلاد إلى السمو أو الهاوية،..
وهذا وذاك يتوقف على إدراكها لعمق وخطورة الأزمة الحالية ومديات
الكارثة التي ستحل فيما لو ساد العجز والفشل في إخراج العراق من واقعه
الماساوي.
إنطلاقاً من
ذلك، تتطلب الأزمة العراقية تعاطياً نوعياً من قبل القوى السياسية
الوطنية، تتمثل:
أولاً-
الارتفاع لمستوى الأزمة، وعياً وتخطيطاً وأداءً بمستوى كونية القضية
العراقية بكل تشعباتها وتداخلاتها الداخلية والإقليمية والدولية، وأدنى
قصور وتقصير في الوعي والتخطيط والأداء سيحطم القضية، وسيتحطم الإنسان
والدولة والوطن موضوعات القضية.
ثانياً -
تضامنية أطراف الأزمة، بما تعنيه من تناغم رؤى وحلول جميع الأطراف
الداخلة والمتصلة بالأزمة لمستوى حجم القضية ولمستوى الإدارة الكونية
لها، فلا يمكن إدراك النجاح فيما لو ساد التقاطع أو تخلف أي طرف وتقدم
الآخر، وفيما لو تضاربت رؤاهم وحلولهم أيا كان طرف الأزمة.
ثالثاً:
اشتراطات النجاح في تجاوز الأزمة، في طليعتها، السلم كأساس في إدارة
الخلاف، وعراقية الإرادة، والاستعداد للتنازل، والتحرر من الشخصنة
والإقصاء، والإحتكام الى الشعب في تقرير المصير الوطني. كما لا مناص من
اقصاء المحاصصات السياسية الطائفية، ونبذ تخندق الهويات الفرعية
المؤسسة على الولاء الضيق، والتحرر من سياسة ابتلاع الدولة لصالح سلطة
العرق أو الطائفة أو الحزب، وإشاعة قيم التعايش والتسامح على أرضية
الإعتراف بالآخر واحترام خياراته وخصوصياته.
على القوى
السياسية الاختيار: اما الإستسلام لإنهدام المجتمع والدولة وهو ما
سيقود لا محالة إلى التجزئة والتقسيم،.. وإما تحدي الانهدام من خلال
اعتماد مصالحة شاملة تعيد إنتاج المجتمع والدولة على وفق قواعد العدالة
والحقوق والحريات،.. وهو ما سيقود إلى الوحدة والسلام.
وكل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر
المذكور نصا ودون تعليق.
المصدر:alsabaah-20-3-2008
|