ينادون بضرورة رجوع العلم إلى الدين...عقلاء الغرب يبحثون عن التعلم مع الإيمان

 

العلم يطرق باب الدين في الغرب

تأصلت العلوم الاجتماعية في الغرب في أجواء الصراع بين الدين والحياة؛ ونمت وترعرعت على مبدأ التنصل من الدين على اعتبار أن الدين هو المُناقض الأول والأخير للـ"منهج العلمي"، والمُخالف الأعظم للـ "دقة" و" الموضوعية". ومن ثم، لم تخل العلوم الاجتماعية الغربية من ذلك المنهج "التنصلي" الذي اعتبره الباحثون الغربيون بمثابة المنهج الأليق بالبحث العلمي.

تلك كانت القاعدة في الفكر الغربي عموماً؛ ولكن كما نعلم فإن لكل قاعدة شواذ. وقد شذ بالفعل القليل من عقلاء الغرب عن ذلك المنهج الذي لم يكن علمياً أو موضوعياً، بل كان وجدانياً وانفعالياً من الدرجة الأولى. بلغةٍ أخرى،"لقد بدأ بعض العقلاء في الغرب يدركون مدى التدمير الذي أحدثه الفصام التام بين الدين والعلم وبين الدين والحياة" (محمد قطب، "حول التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية، دار الشروق، 2006).

ومن ضمن هؤلاء العقلاء، الأمير "تشارلز" ولي عهد بريطانيا الذي قال مُصرحاً: "إننا - نحن أبناء الغرب – نحتاج إلى معلمين مسلمين يعلموننا كيف نتعلم بقلوبنا كما نتعلم بعقولنا" (عن جريدة "الشرق الأوسط"، عدد 6592، 1/12/1996).

وقد بدأ صوت هؤلاء العقلاء يتصاعد تدريجياً – ليس فقط من خلال كلمات أولياء العهد – بل أيضاً من خلال دراسات الباحثين، وأقلام الصحافيين، والأفكار التي باتت تُروج على ألسنة الغربيين أنفسهم. وقد رصدت كاتبة هذا المقال عدة أمثلة، موضحةً من خلالها بروز هذا التوجه، ونزوله إلى أرض الواقع الغربي.

فكرة "الإله الخفي"

إن انتشار فكرة "الإله الخفي" أو Hidden God في الغرب إنما يدل على فشل الإنسان الغربي في تجاهل أو تجاوز العنصر الرباني الذي يكمن داخله، وهو ما يمنع النموذج العلماني الحداثي من التحقق بالكامل، كما يشير الدكتور "عبد الوهاب المسيري" في مقاله "الحداثة المنفصلة عن القيمة والإله الخفي" (الجزيرة. نت، 8/3/2007). "فالإنسان مهما بلغ من إلحادٍ ومادية، فإنه لا يقبل بالمادة المتغيرة كإطار مرجعي، وإنما يبحث دائماً عن أرض ثابتة يقف عليها، وعن كليات متجاوزة للأجزاء".

ثورة في نظرية التطور الإنساني

في 19 مارس 2007، نشرت مجلة "نيوزويك" الأمريكية مقالاً تحت عنوان "العلم الجديد للتطور الإنساني". قام المقال على فرضية محورية تقول: إن علم التطور الإنساني يشهد حالياً ثورته الخاصة. فعلى الرغم من اعتيادنا على النظر إلى نشوء الإنسان عبر سلسلة واحدة، فإن العلم الجديد يرى أن المسألة أعقد من ذلك بكثير؛ وأكثر عمقاً مما يفترضه العلم العلماني الغربي.

نظرية النظم ومراجعة العلم

وفي منتصف القرن العشرين، وبالتحديد في عام 1957، قام المُنظر الأمريكي "لودفيج برتالانفي" بتقديم نظريته الجديدة – نظرية النُظم – التي نقض بها الفكر العلماني الغربي المادي البحت. لقد ضربت النظرية الجديدة أهم مبادئ الفكر العلماني الغربي؛ وهي المبادئ التي تتلخص في التالي: الحتمية العلمية أو السببية المنضبطة التي تُبسط العلاقات السببية بين المُتغيرَين دون النظر إلى أسباب أخرى غير مرئية؛ التصور الآلي الستاتيكي للعالم الذي يُنظر إليه باعتباره مادة بحتة يصدر عنها كل شيء، بل مادة خالية من الغرض والهدف والغاية.

إن التوجه الذي رصدناه أعلاه – والذي لا يمثله إلا قلة من النخبة الغربية – يضرب كما نلحظ في ثقافة "التبسيط". فهو يضرب في ثقافة "التبسيط" التي تقول أن الإنسان يستطيع العيش دون إله ورب؛ وهو يضرب في ثقافة "التبسيط" التي تقول أن الإنسان نشأ من سلالة القرود، وأن مرجعه إلى المادة التي لا هدف منها ولا غاية؛ وهو يضرب في ثقافة "التبسيط" التي تؤمن بالأسباب المرئية المحسوسة فقط، ولا تؤمن بالأسباب غير المرئية والمحسوسة.

مراجعة علم العلاقات الدولية

على الرغم من أن الحضارة الغربية لا تُخفي موقفها السلبي من الدين، إذ تقول صراحةً – كما يوضح "محمد قطب" في كتابه "حول التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية" – "إن الحياة البشرية قد مرت في ثلاثة أطوار؛ طور السحر والخرافة، وطور التدين، وطور العلم"، إلا أن ما نشهده اليوم هو انحسار – ليس كبيراً ولكنه واضح – لموجة الإلحاد تحت مطارق العلم ذاته الذي تشبثت به الحضارة الغربية ليُخلصها من سلطان الدين ذاته. "فالعلم اليوم هو الذي يرد الناس إلى الحقيقة التي أرادوا أن يهربوا منها"؛ وهي أن الدين من الثوابت التي تشتمل عليها الفطرة.

من أبرز هذه الدراسات تلك التي قدمها "جورج فيجل" و"باري روبين" و"جوناثان فوكس". ونستطيع أن نرصد بإيجاز رؤية "جورج فيجل"، رئيس مركز "السياسة والأخلاق العامة"، الذي يؤكد في بحثه (Religion and Peace: An Argument Complexified) علي أن العالم يتجه إلى اللا-علمانية unsecularization of the world، حيث ساد الدين - في أواخر القرن العشرين - كظاهرة اجتماعية في جميع أنحاء العالم. ففي الولايات المتحدة نفسها، ظهر المجتمع الأمريكي المتدين بالرغم من توقعات المفكرين العلمانيين بعكس ذلك. وفي الاتحاد السوفيتي السابق، لم يكن للشيوعية أن تسقط إلا من خلال جهود الكنائس الكاثوليكية في بولندا، ورومانيا، وبلغاريا. وفي العالم العربي اندلعت ظاهرة "الإسلام المسلح" وأكد نفسه بشدة. ومن ثم – والكلام لـ"فيجل" - نستطيع أن ندحض المقولة التالية: كلما ازداد التمدن والتحديث ازدادت العلمانية. فالدين له الآن دور فعال على الساحة الدولية؛ ولذلك، فعلينا استثماره في حل الأزمات السياسية بالوسائل السلمية.

أما "باري روبين"، فتتمثل وجهة نظره – من خلال بحثه (Religion and International Affairs) - في أنه كلما زادت المدنية والثقافة والتعليم، صار الناس أكثر حرصاً وبحثاً على هوية أو أيديولوجية تمثلهم. وكلما زادت الأزمات المصاحبة للمدنية، زاد الطلب على الدين كحل لتلك الأزمات.

وأما "جوناثان فوكس"، فقد انتقد – في بحثه (Religion as an Overlooked Element of International Relations) - الدراسات النظرية التي أهملت عنصر الدين في بنائها ، ورأى في ذلك خطراً على مصالح الدول الغربية.

وهو يري أن الدين يؤثر على العلاقات الدولية عبر ثلاثة طرق: 1) تأثر السياسات الخارجية بالتوجهات الدينية لدى صناع القرار 2) اعتبار الدين مصدراً للشرعية في تأييد الحكومة أو سحب الثقة منها 3) تخطي الأمور الدينية المحلية للحدود الدولية، ومن ثم تحولها إلى أمور دولية، وهو ما يسميه بالـ spillover effect.

وتُعلق الدكتورة "نادية مصطفى" – أستاذة علم العلاقات الدولية بكلية الاقتصاد العلوم السياسية بجامعة القاهرة – قائلةً ( في "التحديات السياسية الحضارية الخارجية للعالم الإسلامي: بروز الأبعاد الحضارية الثقافية"، الأمة في قرن – عدد خاص من حولية أمتي في العالم، الكتاب السادس، القاهرة: مركز الحضارة للدراسات السياسية، 2000-2001): "إنه إذا كانت عوامل القوة المادية الشغل الشاغل للغرب خلال القرون السابقة من صراعه مع الإسلام والمسلمين، فإن طبيعة المرحلة الراهنة من العلاقات الدولية تدفع على السطح بأولوية الاهتمام بالأبعاد الاجتماعية والحضارية"، خاصةً بعد ذيوع دراسات "هنتنجتون" في العقد الأخير من القرن العشرين، لتقلب النظرة العلمانية للعلاقات الدولية طوال القرن العشرين، وتجدد الاهتمام بالأبعاد الثقافية والحضارية في فهم العلاقة بين الغرب والإسلام. ولاسيما في ظل العولمة الراهنة التي تنبثق إيديولوجياً عن الليبرالية الجديدة، وعن سياسات القوى الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة. ولذا فليس من الغريب أن يتم استدعاء "صراع الحضارات" ليحل كمنظور بديل عن صراع سياسات القوى. "وقد تأتي أحداث 11 سبتمبر ثم حرب أفغانستان لتمثل قمة ما وصل إليه منحنى الرؤى المتبادلة بين عالم المسلمين وعالم الغرب، ومنحنى السياسات الغربية تجاه الأمة خلال العقد الأخير من القرن العشرين، وبذا تصبح أولى حروب القرن الجديد بمثابة مفترق طرق خطر بالنسبة لوضع الأمة الإسلامية في النظام الدولي".

وفي نهاية دراستها، تطرح الدكتورة "نادية مصطفى" سؤالاً مهماً: هل الصراع الحضاري هو الذي يصف حالة الصراع العالمي في بداية القرن الواحد والعشرين؟ وكيف ستواجه الأمة تجليات هذا الصراع الحضاري وعواقبه بالنسبة للبعد الحضاري الثقافي لتفاعلات الأمة على الصعيد الداخلي والبيني ومع الآخر؟ 

في النهاية، نستطيع القول،إن سمو الحضارة الإسلامية إنما ينبع من سمو منبعها.منبع التوحيد والاستسلام لخالق هذا الكون؛ مما يوجب طرح التساؤل الآتي: إذا كان المسلمون – أصحاب الرصيد الحضاري الإنساني الأسمى – بصدد صراعٍ حضاري، أليسوا هم الأولى في التصدي له؟ وأليسوا هم الأولى بنصرة الحضارة الأسمى لإنقاذ البشرية والإنسانية من الحضارة الأدنى.حضارة "الأنا" والبهيمية المطلقة التي حولت المخلوق إلى خالق؟ والعابد إلى معبود؟

وكل ذلك بحسب المصدر المذكور نصا ودون تعليق.

المصدر:taqrir