العولمة...إن لم تدخلوها طوعاً سندخلكم كرهاً !
السيد يسين
العولمة...والمراجعة الشاملة
هل العولمة
هي عصر المراجعة الشاملة للمذاهب السياسية والاقتصادية، وللسياسات
الثقافية والانتماءات الأصيلة للشعوب؟ يبدو أن الإجابة على هذا السؤال
المحوري هي بـ"نعم"! وهناك في هذا المجال إجماع بين المفكرين والباحثين
من مختلف البلاد على أن سقوط الاتحاد السوفييتي السابق ودول الكتلة
الاشتراكية حوالى عام 1989، كان تاريخاً فارقاً في مسيرة القرن
العشرين. بل إنني في عديد من المقالات والدراسات السابقة اعتبرتُ هذا
التاريخ هو النهاية الفعلية للقرن العشرين!
وذلك لأن
السقوط المدوِّي للإمبراطورية السوفييتية قضى بضربة واحدة على نظام
دولي متكامل! صحيح أنه كان نظاماً حافلاً بالصراعات السياسية بين
الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأميركية أساساً، بل وزاخراً
بالحروب الإقليمية في هوامش النظام وليس في قلبه، ولكنه كان نظاماً
دولياً يقوم على مبدأ توازن الرعب النووي! بمعنى أنه في ظل امتلاك كل
من الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأميركية للسلاح الذرى، فهذه
الحقيقة في حد ذاتها هي التي ستمنع نشوب حرب عالمية فعلية.
ضغوط
العولمة، في الواقع، أشبه ما تكون بنوع من الاستعمار الجديد، وقد أدت
في النهاية إلى الانتقاص من سيادة الدول.
وإذا
استعرنا العبارة الدقيقة التي صاغها فيلسوف ما بعد الحداثة الفرنسي
"بودريار" والتي قال فيها إن "الخطاب عن الحرب حل محل الحرب ذاتها"
فمعنى ذلك أن التهديد بالحرب، بل والبرامج الإلكترونية الخاصة باحتمال
نشوب حرب ذرية وكيفية مواجهتها، كانت كافية لشل النزعات العدوانية لدى
الزعماء السياسيين المتطرفين، والقادة العسكريين المتشددين في كلا
البلدين.
سقط إذن
العالم الثنائي القطبية الذي دار فيه الصراع الدامي بين الاتحاد
السوفييتي والولايات المتحدة الأميركية، وحل محله النظام الأحادي
القطبية الذي تنفرد فيه الولايات المتحدة الأميركية بالساحة العالمية.
وقد أدى ذلك
إلى حركة مراجَعة كبرى في ميدان العلاقات الدولية على مستوى النظريات
العلمية، وأهم من ذلك على مستوى السلوك الدولي ذاته. لأنه كان على كل
دولة في العالم أياً كانت القارة التي تنتمي إليها، أن تعيد حساباتها
وتراجع توجهاتها وتعيد صياغة استراتيجياتها في ضوء الوضع الجديد، الذي
كان بمثابة الانقلاب الشامل.
خذ على سبيل
المثال أزمة حلف الأطلسي الذي كان موجهاً أساساً لمواجهة التهديد
السوفييتي. تساءل قادته ما هي وظيفة الحلف بعد أن سقط العدو؟ ليس ذلك
فقط بل إن "حلف "وارسو ذاته والذي كان هو المعادل الموضوعي -إن صح
التعبير- لحلف الأطلسي، سقط أيضاً!
دامت أزمة
حلف الأطلسي أكثر من ثلاث سنوات أمضاها قادته في البحث عن عدو بديل
للعدو الذي سقط واختفى! وبعد عديد من الاجتهادات قرر قادة الحلف
الانتقال إلى جبهة التعاون السياسي والاقتصادي في مجال الشرق الأوسط،
ومع الدول العربية على وجه الخصوص. وقد عبَّرت عن ذلك "مبادرة اسطنبول"
التي هي أشبه بمعاهدة تضمن التزام حلف الأطلسي بالدفاع عن الدول
الخليجية وفق اتفاقات عسكرية تتضمن التسلح والتدريب، بالإضافة إلى
اتفاقيات اقتصادية وسياسية.
وما سبق كان
مجرد أمثلة بارزة على العبء الخاص الذي ألقي على عاتق الدول، لمراجعة
سياساتها بعد سقوط الاتحاد السوفييتي.
ولعل مما
ضاعف من أهمية المراجعة الشاملة بروز العولمة باعتبارها الظاهرة
المهيمنة على مناخ القرن الحادي والعشرين، بتجلياتها السياسية
والاقتصادية والثقافية والاتصالية. برزت العولمة في الوقت الذي انحدرت
فيه مكانة الماركسية والاشتراكية بعد ثبوت عجزهما عن تحقيق برنامج
التغيير الاجتماعي الراديكالي على مستوى العالم. وحلت محلهما
"الليبرالية الجديدة" باعتبارها عقيدة العصر الجديد.
وهذه
العقيدة تؤمن أساساً بالحرية المطلقة للسوق، وتلتزم بمبدأ حرية
التجارة. وفي هذا الإطار ضغطت الولايات المتحدة الأميركية والمنظمات
الدولية، كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وقبل ذلك كله منظمة
التجارة العالمية، على الدول النامية التي كانت تطبق سياسات اشتراكية
تقوم على التخطيط في ظل قطاع عام قوي وشامل، لكي تلغي مبدأ التخطيط
وتنسف القطاع العام من خلال برامج شاملة للخصخصة، وإفساح المجال
الاقتصادي كله بدون أي استثناء للقطاع الخاص الوطني والأجنبي على
السواء، وإلغاء كل القيود على حرية التجارة.
ومعنى ذلك
أن على الدولة -في مجال مراجعة سياساتها- أن تستقيل من أداء وظائفها
التنموية التي كانت تقوم بها من قبل في مجال الإنتاج. بل إن الضغوط
الدولية لم ترحم دول العالم الثالث ولم تكتفِ بذلك، ولكنها تضغط حتى
تتخلى الدولة عن كل برامج الدعم للفقراء، وتسقط التزاماتها في الرعاية
الاجتماعية، وحتى في أشد المجالات حيوية بالنسبة للطبقات المتوسطة
والفقيرة، ونعني في ميادين التعليم والصحة! ومعنى ذلك أن مراجعة الدول
لمذاهبها السياسية ولتوجهاتها الاقتصادية تحت تأثير ضغوط العولمة، التي
هي في الواقع أشبه ما تكون بنوع من الاستعمار الجديد، قد أدت في
النهاية إلى الانتقاص من سيادة الدول.
ونحن نعرف
أنه منذ نشوء "الدولة- الأمة" الحديثة قامت الدول على أساس السيادة
المطلقة، ورفض أي تدخل في سياساتها الخارجية أو شؤونها الداخلية.
في ضوء
التطورات الكبرى التي ألمحنا إليها ترتبت نتيجة مهمة هي الانتقاص من
مبدأ سيادة الدولة. ويرى عديد من الباحثين المناصرين للعولمة أن مبدأ
السيادة -في ظل الظروف العالمية الجديدة- سقطت أهميته وآن له أن ينزوي
في إطار بالغ الضيق.
والدليل على
ذلك أن الدول الكبرى وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية ابتدعت
نظرية جديدة هي حق التدخل السياسي للقضاء على الأنظمة الديكتاتورية.
ومعنى ذلك أن الدولة -أياً كان نظامها- لم تعد محصَّنة، كما كان الحال
في الماضي. ومن ناحية أخرى فإن معاهدة منظمة التجارة العالمية ذاتها
وبحكم نصوصها، تنتقص فعلاً من حق السيادة. لأنها تمنع صانع القرار
السياسي من أن يسيطر على القرار الاقتصادي، وتلزمه باتباع قواعد
وإجراءات معينة إن خرج عنها تعرضت الدولة لتوقيع العقاب عليها وفقاً
لنصوص المعاهدة، وهي عقوبات قاسية اقتصادياً. ومن ناحية أخرى أدت
تفاعلات العولمة إلى ظهور اتحادات إقليمية متعددة تضم عدداً من الدول
من أبرزها "الاتحاد الأوروبي"، و"الآسيان" في آسيا، و"النافتا" في
أميركا الجنوبية.
وتشهد خبرة
الاتحاد الأوروبي، الذي قام كاتحاد اقتصادي أولاً ثم تحول إلى اتحاد
سياسي، أن سيادة الدول المنضمة إليه لم تعد مطلقة كما كان الحال في
الماضي. ومن هنا لا تستطيع أي دولة منضمة للاتحاد أن تضع سياساتها
الاقتصادية إلا في ضوء سياسة الاتحاد ذاته.
وإذا كانت
مختلف الدول قد قامت بعد سقوط النظام الثنائي القطبية وبروز الولايات
المتحدة الأميركية باعتبارها الزعيمة المطلقة للنظام الأحادي القطبية
الذي نشأ على أنقاضه بمراجعة سياساتها الدولية وتوجهاتها الاقتصادية،
فقد بقي عليها أن تراجع أيضاً مذاهبها السياسية.
وإذا كانت
الليبرالية الاقتصادية أصبحت هي العقيدة العالمية الاقتصادية السائدة
التي يتم الضغط على كافة دول العالم لكي تسير وفق توجهاتها، فإن
الديمقراطية السياسية على الطريقة الغربية أصبحت هي العقيدة العالمية
التي تطالب كل دولة في العالم أياً كان نظامها السياسي بتطبيقها!
ولعل ما
يكشف عن عمق هذا التحول كتاب "نهاية التاريخ" للمفكر الأميركي "فرانسيس
فوكوياما" الذي لقي رواجاً عالمياً. وذلك لأن هذا المفكر الذي استعار
فكره من أفكار الفيلسوف "هيجل" قد قرر أنه بعد سقوط الاتحاد السوفييتي،
الذي يعني في نظره سقوط الماركسية كأيديولوجية، أن التاريخ دار دورته
ووصلنا إلى نهايته، بمعنى أن الديمقراطية بعد انتصارها المدوِّي ستصبح
هي العقيدة السياسية العالمية إلى أبد الآبدين!
ومعنى ذلك
أن دول العالم جميعاً مدعوة لكي تسقط أنظمتها الشمولية والسلطوية لو
وجدت، وتدخل في إهاب الديمقراطية على الطريقة الغربية.
وأضافت
الولايات المتحدة الأميركية -من وجهة النظر العملية لهذه الفكرة- إن لم
تدخل الدول عالم الديمقراطية اختياراً فلابد من إدخالها بالقوة! هكذا
أدت العولمة إلى هذه المراجعات الجذرية في مجالات العلاقات الدولية
والنظم السياسية والمذاهب الاقتصادية.
وكل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر
المذكور نصا ودون تعليق.
المصدر:alittihad-13-3-2008
|