أراء علماء الأزهـر الشـريف في معاوية : أبو رية مثالاً
إعـداد : المهندس محمد الصـادقـي
معاوية بن أبي سفيان :
هو معاوية بن أبي سفيان بن أمية بن عبد شمس ، وأمه هند بنت عتبة ابن
أبي ربيعة بن عبد شمس وهي أم أخيه عتبة بن أبي سفيان ، أما يزيد ومحمد
وعنبسة وحنظلة وعمرو فمن أمهات شتى . ومعاوية مطعون في دينه وقد كان في
الجاهلية زنديقا ، وأصبح بعد الاسلام طليقا . " وقد ورث عن أبيه قوته
وقسوته وكيده ودهاءه ومرونته كذلك ، ولم تكن أم معاوية بأقل من أبيه
تنكرا للاسلام وبغضا لأهله وحفيظة عليهم ، وهم قد وتروها يوم بدر فثأر
لها المشركون يوم أحد . ولكن ضغنها لم يهدأ وحفيظتها لم تسكن ، حتى
فتحت مكة فأسلمت كارهة كما أسلم زوجها كارها " وكما أسلم كذلك ابنها
معاوية بعد إسلام أبيه كارها . وهند هذه هي التي أغرت وحشيا بحمزة عم
النبي حتى قتله ثم أعتقته ، ولما قتل حمزة بقرت بطنه ، ولاكت كبده ،
وفعلت فعلاتها بجثته ! وإذا كان معاوية قد ورث بغض على عن آبائه - مما
حدثناك عنه ، فإن هناك أسبابا أخرى تسعر من نار هذا البغض ، منها أن
عليا قتل أخاه حنظلة يوم بدر ، وخاله الوليد بن عتبة وغيرهما كثيرين من
أعيان وأماثل عبد شمس . ومن أجل ذلك كان معاوية أشد الناس عداوة لعلي
يتربص به الدوائر دائما ، ولا يفتأ يسعى في الكيد له سرا وعلانية ،
قولا وعملا .
انصراف معاوية إلى أولاد على بعد قتل أبيهم :
ولم يشبع نهم الحقد الأموي قتل الامام علي ، بل صرف معاوية كيده وبغيه
أول الامر إلى الحسن رضي الله عنه الذي كان يزاحمه بحقه في الخلافة وما
زال يراوغه بكيده حتى تخلص منه بالسم. ومات معاوية قبل أن يلحق الحسين
بأخيه الحسن ، وهما ريحانتا النبي صلى الله عليه وآله وترك ذلك لابنه
يزيد .
الإغتيالات : بعض منْ سمهم معاوية :
عبد الرحمن بن خالد بن الوليد وذلك عندما شاور أهل الشام فيمن يعقد له
من بعده فقالوا له : رضينا بعبد الرحمن بن خالد وكان أهل الشام يحبونه
، فشق ذلك على معاوية وأسرها في نفسه ثم مرض عبد الرحمن بعد ذلك فأمر
معاوية طبيبا يهوديا - وكان مكينا عنده . أن يأتيه فيسقيه سقية تقتله ،
فأتاه فسقاه فانخرق بطنه فمات. وعلى أثره مات عبد الرحمن بن أبي بكر
الصديق بالسم ، وكان سبب ذلك أم معاوية حينما كان يدعو إلى بيعة يزيد
قال له عبد الرحمن هذا :
أهرقلية إذا مات كسرى كان كسرى مكانه ؟ لا نفعل والله أبدا ، فبعث
إليه معاوية بمئة ألف درهم ، فردها عبد الرحمن وقال :
" أبيع ديني بدنياي " .
وما لبث أن مات فجأة بموضع يقال له الحبشي ! ( جبل بأسفل مكة ) وحمل
إلى مكة فدفن فيها.
وممن سمهم معاوية كذلك مالك بن الأشتر الذي ولاه الامام علي على مصر
وكان سمه في عسل ولذلك قال عمرو بن العاص في ذلك إن لله جنودا من عسل .
ولا نحصي من تخلص منهم معاوية بالسم . وهذه سنة الحكام الطغاة في كل
زمان ، ولعلك لا تنسى أن عبد الرحمن بن أبي بكر كان في حرب الجمل مع
عائشة أخته وكان هو وعبد الرحمن بن خالد مع معاوية في حرب صفين ، ولكن
الطغاة لا يبالون شيئا عند طغيانهم ، ومن العجيب أن عائشة لم تغير
موقفها في تأييد معاوية وقد قضى على أخوين لها . عبد الرحمن هذا ، ومن
قبله محمد بن أبي بكر ، وكان ولاه الامام علي مصر فقتلوه ومثلوا به
أبشع تمثيل فألقوه بعد قتله في جيفة حمار وألقوا به في العراء . ومن
أعجب العجب أن عائشة لم يفثأ من غليان حقدها ولم يطفئ من نار غيظها أن
قتل علي وخلا الجو لها ، واستولى على الملك من تؤثرهم بحبها ، فقد وقفت
من الحسن موقفا يدل على الخسة يشاركها في ذلك بنو أمية ، ذلك أنه بعد
أن سمه معاوية وشعر بدنو أجله وأرسل إلى عائشة أن تأذن له بأن يدفن مع
جده ، ففزعت وأسرعت فركبت بغلا واستنفرت بنى أمية ، وكان على المدينة
حينئذ مروان بن الحكم فاشتملوا بالسلاح وقالوا :
لا يدفن مع النبي ، فبلغ ذلك الحسن عليه السلام فأرسل إلى أهله : أما
إذا كان هذا فلا حاجة لي فيه ، ادفنوني إلى جانب أمي ، فدفن إلى جانب
أمه فاطمة عليها السلام .
هل معاوية هـو أول منْ هدم شورى السقيفة ؟
مما لا خلاف فيه ولا نزاع ، أن معاوية كان باغيا ، وأنه كان أول من هدم
ركن الشورى في الاسلام وتبعه قومه ، ومن أجل ذلك كثر كلام الناس في
الانكار عليه وعلى قومه. ولا بأس من أن نورد هنا ذروا قليلا مما قالوه
يكون كنموذج . وسنجعل في صدر ما ننقله ما جاء في صحيح البخاري عنه .
عقد البخاري في كتابه فصلا بعنوان ( فضائل الصحابة ) ذكر فيه ما جاء عن
النبي في فضل كبار الصحابة
ولما وصل إلى معاوية قال : ( باب ذكر معاوية ) ولم يقل باب مناقب
معاوية ! أو باب فضائل معاوية ! كما يقول في غيره . ولم يذكر في الباب
إلا حديثا واحدا بأنه أوتر بركعة ، وقول ابن عباس فيه إنه فقيه . على
أن هذا الحديث لا يكفي للدلالة على فقهه ! ولكنها السياسة ! ومن يدرينا
إن كان ابن عباس قد قال هذه الكلمة !
على أن شهادة ابن عباس هذه لا تكفى لاثبات فضله .
قول عائشة في تولي معاوية الملك :
وجاء الحافظ ابن حجر ليشرح الحديث فقال ( تنبيه ) ( 1 ) . قول عائشة في
تولى معاوية الملك : عن الأسود ، قلت لعائشة :
ألا تعجبين لرجل من الطلقاء ينازع أصحاب محمد الخلافة ؟
قالت : وما يعجب !
هو سلطان الله يؤتيه البر والفاجر ! قد ملك فرعون مصر ( 2 ) ! !
قول الشافعي :
وروى أبو الفداء عن الشافعي أنه أسر إلى الربيع ، أن لا يقبل شهادة
أربعة من الصحابة وهم : معاوية وعمرو بن العاص والمغيرة وزياد .
قول الحسن البصري في معاوية :
وإليك كلمة جامعة في معاوية قالها الحسن البصري :
روى الطبري أن الحسن كان يقول :
" أربع خصال كن في معاوية ، ولو لم يكن فيه منهن إلا واحدة كانت موبقة
: انتزاؤه على هذه الأمة بالسفهاء حتى ابتزها أمرها بغير مشورة منهم ،
وفيهم بقايا الصحابة وذوو الفضيلة ، واستخلاف ابنه بعده سكيرا خميرا ،
يلبس الحرير ويضرب الطنابير ، وادعاؤه زيادا ، وقد قال رسول الله :
الولد للفراش وللعاهر الحجر ، وقتله حجرا وأصحابه ، ويل له من حجر
وأصحابه ! ويل له من حجر وأصحابه " . وكان السبب في قتل حجر بن عدي أنه
كان يرد على المغيرة بن شعبة عامل معاوية على الكوفة شتائمه لعلي رضي
الله عنه ، وكان معاوية قد أمر ولاته وعماله - كما بينا - بشتم علي رضي
الله عنه وعيب أصحابه وإقصائهم ، ووقع بينه وبين المغيرة كذلك ما وقع
بسبب إنكاره على فعلاته . ثم فعل حجر مثل ذلك مع زياد الذي تولى الكوفة
بعد المغيرة ، فكبر على زياد أن يعارضه أحد ، فأمر بسجنه ومعه أحد عشر
من أصحابه وادعى أنه شتم الخليفة ! ودعا إلى حربه ! وأتى بشهود يؤيدونه
في قوله ، ثم أرسله هو وإخوانه إلى معاوية - وعلى أن شريحا قد شهد بأن
حجرا يقيم الصلاة ، ويؤتى الزكاة ، ويديم الحج والعمرة ، ويأمر
بالمعروف وينهى عن المنكر . وأنه حرام الدم والمال ، فإن معاوية لم
يستمع لشهادة شريح وبعث إلى من مع حجر يعرض عليهم البراءة من على
واللعن له وإلا قتلهم ! فقالوا لسنا على ذلك ، فحفروا لهم القبور
وأحضرت الأكفان ، وقام حجر وأصحابه للصلاة عامة الليل فلما كان الغد
قدموهم فقتلوهم . ومما قاله معاوية لأحدهم : يا أخا ربيعة ما تقول في
علي ؟ فقال له : دعني ! لا تسألني فهو خير لك ، قال : والله لا أدعك !
قال : أشهد أنه كان من الذاكرين الله كثيرا ، ومن الآمرين بالحق ،
والقائمين بالقسط والعافين عن الناس ، قال : فما قولك في عثمان ؟ قال :
هو أول من فتح أبواب الظلم وأغلق أبواب الحق . قال : قتلت نفسك ! قال :
بل إياك قتلت ! فأمر بقتله شر قتلة ، فدفن حيا .
وفي الإستيعاب لابن عبد البر وأسد الغابة ، أن حجرا قال لمن حضره من
أهله ، لا تنزعوا عنى حديدا ، ولا تغسلوا عنى دعا ، فإني لاق معاوية
على الجادة ، رضى الله عن حجر وإخوان حجر . وهو حجر بن عدي الكندي
الملقب بحجر الخير - كان من فضلاء الصحابة وفد على النبي وشهد القادسية
.
معاوية وكيف كان يحكم لما كان معاوية على ما وصفنا ، وأن أئمة السنة
والشيعة قد أجمعوا على أنه كان باغيا على أمير المؤمنين المرتضى على ،
وترتب على بغيه عليه سفك دماء غزيرة ، وفتن ومعاص كثيرة ، لم يخلص
المسلمون من شرها إلى هذا اليوم ، والظاهر أنها ستبقى إلى يوم القيامة
، وأنه أول من هدم ركن الشورى في الاسلام وبايع لابنه يزيد بالقوة
والجبروت - لما كان كذلك كله فقد اضطر إلى تأييد ملكه بضروب الرهبة
والرغبة فمن عارضه أو وقف في سبيله ، أرداه ونكل به ، إن بالسم ، كما
فعل بالحسن وعبد الرحمن بن أبي بكر ، وعبد الرحمن ابن خالد بن الوليد ،
والأشتر النخعي وغيرهم ممن لا يمكن إحصاؤهم كما بيناه آنفا ، وكل هؤلاء
قد ماتوا بالسم ، أو بالقتل كما فعل بحجر بن عدي ومن معه ، ومن أرضاه
ورضى به وبحكمه وناصره على بغيه ، أغدق له من نواله ورفع من مقامه ،
كما صنع مع أبي هريرة والمغيرة بن شعبة وعمرو بن العاص وغيرهم .
معاوية يهدم بناء الحكم الاسلامي الصحيح :
وما اقترفه معاوية ودولته من بغى وعصيان وفتن لم يقف وصفه في المشرق
فحسب ، بل امتد إلى ما وراءه من بلاد المغرب ، وإليك كلمة حكيمة
للفيلسوف ابن رشد الحفيد وهي لا تحتاج إلى شرح أو تفسير . قال هذا
الفيلسوف الكبير وهو يتكلم عن الحكم والسياسة :
" إن أحوال العرب في عهد الخلفاء الراشدين كانت على غاية من الصلاح
فكأنما وصف أفلاطون حكومتهم لما وصف في ( جمهوريته ) الحكومة الجمهورية
الصحيحة التي يجب أن تكون مثالا لجميع الحكومات ، ولكن معاوية هدم ذلك
البناء الجليل القديم ، وأقام مكانه دولة بنى أمية وسلطانها الشديد ،
ففتح بذلك بابا للفتن التي لا تزال إلى الآن قائمة قاعدة حتى في بلادنا
هذه ( الأندلس ) ". هذا ما قاله الفيلسوف ابن رشد في معاوية ودولته ،
وفى هامش صفحة 185 التي مضت قول أحد كبار علماء الألمان في أن معاوية
هو الذي حول نظام الحكم الاسلامي عن قاعدته الديموقراطية إلى عصبية .
إلخ .
وقال سفيان الثوري : الأئمة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعمر بن عبد
العزيز وما سوى ذلك فهم منتزون ( أي متغلبون ).
كيف يصف الدكتور أحمد أمين الحكم الأموي ؟:
قال الدكتور أحمد أمين وهو يتكلم عن الحكم الأموي :
" فالحق أن الحكم الأموي لمن يكن حكما إسلاميا ، يسوى فيه بين الناس ،
ويكافأ فيه من أحسن عربيا كان أو مولى ، ويعاقب فيه من أجرم عربيا كان
أو مولى ، ولم يكن الحكام فيه خدمة للرعية على السواء ، إنما كان الحكم
حكما عربيا ، والحكام فيه خدمة للعرب على حساب غيرهم ، كانت تسود العرب
فيه النزعة الجاهلية لا النزعة الاسلامية ، فكان الحق والباطل يختلفان
باختلاف من صدر عنه العمل ، فالعمل حق إذا صدر عن عربي من قبيلة ! وهو
باطل إذا صدر عن مولى أو عربي من قبيلة أخرى .
معاوية في كتاب : معاوية في الميزان للعقاد :
وإذا بلغنا إلى هنا من الكلام عن معاوية وكيف كان يحكم ، فإنا نردف ما
قلناه بكلمات وجيزة اقتطفناها من كتاب " معاوية في الميزان " ، للكاتب
العالم الأستاذ عباس محمود العقاد ، لا لنؤيد بها ما قلناه ، وإنما
لنبين أن ما نقوله هو الحق الذي لا يمارى فيه إلا جهول أو ذو هوى ، أو
متعصب ، وقد جئنا بهذه الكلمات كما جئنا من قبل بكلمات أخرى لنصير
العلم والحرية العلامة الدكتور طه حسين .
موقف معاوية من وحدة الأمـة :
قال العقاد وهو يتكلم عن ناحية من سياسته ، وهي ناحية التفريق بين
الناس :
كانت له حيلته التي كررها وأتقنها وبرع فيها واستخدمها مع خصومه في
الدولة من المسلمين وغير المسلمين ، وكان قوام تلك الحيلة ، العمل
الدائب على التفرقة والتخذيل بين خصومه ، بإلقاء الشبهات بينهم ،
وإثارة الإحن فيهم ، ومنهم من كانوا من أهل بيته وذوي قرباه ، كان لا
يطيق أن يرى رجلين ذوي خطر على وفاق ، وكان التنافس ( الفطري ) بين ذوي
الاخطار مما يعينه على الايقاع بينهم . ومضى معاوية على هذه الخطة التي
لا تتطلب من صاحبها حظا كبيرا من الحيلة والروية - فلو أنه استطاع أن
يجعل من كل رجل في دولته حزبا منابذا لغيره من رجال الدولة كافة لفعل !
ولو حاسبه التاريخ حسابه الصحيح لما وصفه بغير مفرق الجماعات ، ولكن
العبرة لقارئ التاريخ في زنة الأعمال والرجال أن نجد من المؤرخين من
يسمى عامه حين انفرد بالدولة ( عام الجماعة ! ) لأنه فرق الأمة شيعاً ،
فلا تعرف كيف تتفق إذا حاولت الاتفاق ، وما لبث أن تركها بعده تختلف في
عهد كل خليفة شيعا شيعا بين ولاة العهود . وليس أضل ضلالا ، ولا أجهل
جهلا من المؤرخين الذين سموا سنة ( أحد وأربعين هجرية ) بعام الجماعة
لأنها السنة التي استأثر فيها معاوية بالخلافة فلم يشاركه أحد فيها ،
لان صدر الاسلام لم يعرف سنة تفرقت فيها الأمة كما تفرقت في تلك السنة
، ووقع فيها الشتات بين كل فئة من فئاتها كما وقع فيها ، إذ كانت خطة
معاوية في الامن والتأمين قائمة على فكرة واحدة وهي التفرقة بين الجميع
، وسيان سكنوا عن رضا منهم بالحال ، أو سكنوا عجزا منهم عن السخط
والاعتراض ، وكان سكونهم سكون أيام أو كان سكون الأعمار والأعوام .
وعلل العقاد جميع أعمال معاوية بعلة : المصلحة الذاتية ، أو مصلحة
الأسرة والعشيرة. وأرجع العقاد ذلك إلى حكم الوراثة فقال : تميزت لبني
أمية في الجاهلية وصدر الاسلام خلائق عامة يوشك أن تسمى - لعمومها
بينهم - خلائق أموية ، وهي تقابل ما نسميه في عصرنا بالخلائق الدنيوية
أو النفعية ، ويراد بها أن المرء يؤثر لنفسه ولذويه ولا يؤثر عليها
وعليهم في مواطن الايثار.
العقاد والتزييف في تاريخ معاوية :
الذين يزيفون التاريخ
: ثم التفت العقاد إلى الذين يزيفون التاريخ فقرعهم بهذا التقريع
الأليم فقال :
وإنما المحنة الشائعة من أولئك النهازين المتطوعين الذين يقبلون العملة
الزائفة ، ويرفضون ما عداها ، ويجاهدون من يكشف هذا الزيف ويقومه
بقيمته الصحيحة ، ثم تكثر العملة الزائفة في الأيدي حتى يوشك أن تطرد
العملة الصحيحة وتحيطها بالريبة والحذر ، ولا ينفع المحك الناقد في هذه
الحالة ، لان المحك الناقد لم يسلم قبلها من التزييف. وبعد أن تكلم عن
الذين يزيفون تاريخ معاوية ، وبين حرصهم على مطاوعة أهوائهم ، كأنهم من
صنائع الدولة في إبان سلطانها ، وبين عطاياها المغدفة ، قال : ولولا
أننا نأبى أن نضرب الأمثلة بالأسماء لذكرنا من هؤلاء المؤرخين
المعاصرين من يتكلم في هذا التاريخ كلاما ينضح بالغرض ويشف عن المحاباة
بغير حجة.
أقسام الموقف من معاوية :
الناس مع معاوية : إن قيام الدولة الأموية على ما بيناه من قبل قد جعل
الناس مع معاوية على ثلاثة أقسام :
قسم :
أحب الهدى والحق لا يخشى في الله لومة لائم ، ولا يبالي في سبيل الحق
ونصرته شيئا . وهؤلاء قد أدوا حق الصحبة النبوية على أكمل ما يكون
الأداء .
وقسم :
آثر السلامة وعطل فريضة مقاتلة الباغي والاخذ على يده ، وفريضة الامر
بالمعروف والنهى عن المنكر كما أمر الله - ومن هذا القسم عبد الله بن
عمر ، ومحمد بن مسلمة
وعبد الله بن سلام - وغيرهم - وهؤلاء الثلاثة لم يبايعوا عليا .
وقسم :
رضى الضلال والباطل وتشيع له واتبع ما يهوى وما يريد فناصروه وأيدوه ضد
على رضي الله عنه ، إن برواية أحاديث يرفعونها إلى النبي تشيد بذكره
وذكر قومه وتحط من قدر على ! ومن هذا القسم أبو هريرة ، إن بذلك أو
بغيره من عدد النصرة الكيدية والحربية ، ومن هذا القسم : عمرو بن العاص
وابنه عبد الله بن عمرو ، والمغيرة بن شعبة ، وأبو موسى الأشعري ويعلى
ابن أمية وغيرهم ، ولكل من هؤلاء جميعا غرض يسعى له ، ويرمى إليه .
ولنذكر بعض من كانوا من القسم الأول ، الذين قاموا بحق الامر بالمعروف
والنهى عن المنكر ، أما الذين حاربوا بسيوفهم فهم فوق الاحصاء .
موقف
بعض الصحابة من معاوية :
عبادة بن الصامت :
فمن الاجلاء الذين أنكروا على معاوية وسخطوا عليه ، وهو في أوج سلطانه
( عبادة بن الصامت ) الخزرجي أحد نقباء الأنصار . كان معه يوما فقام
خطيب يمدح معاوية ويثني عليه ، فقام عبادة بتراب في يده فحثاه في فم
الخطيب ! فغضب معاوية ، فقال له عبادة :
إنك لم تكن معنا حين بايعنا رسول الله بالعقبة ، وكان من هذه البيعة ،
أن نقوم بالحق حيث كنا ، لا نخاف في الله لومة لائم ، وقال رسول الله :
إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب . ولما اشتد غضب معاوية
على عبادة رحله إلى عثمان ، وقال : إنه أفسد الشام : وقال عبادة لعثمان
لما رحله إليه معاوية : سمعت رسول الله يقول :
سيلي أموركم بعدي رجال يعرفونكم ما تنكرون ، وينكرون عليكم ما تعرفون
! فلا طاعة لمن عصى ، ولا تضلوا بربكم . وفى رواية لابن عساكر أنه قال
لعثمان بعد ذلك :
فوالله الذي نفس عبادة بيده ، إن فلانا ( يعنى معاوية ) لمن أولئك .
فما راجعه عثمان بحرف . وكان يقول - وهو بالمدينة : تستعمل الصبيان
وتقرب أولاد الطلقاء . هذا ما فعله عثمان بعبادة ، فانظر البون البعيد
بين عمر وبين عثمان فإن عبادة هذا عندما أنكر على معاوية في عهد عمر
وقال لمعاوية :
لا أساكنك بأرض ، ورحل إلى المدينة قال له عمر :
ما أقدمك ؟
فأخبره بأفعال معاوية ، فقال له عمر : ارحل إلى مكانك ، فقبح الله أرضا
لست فيها وأمثالك ، فلا إمرة له عليك. ولعبادة هذا موقف آخر سنبينه لك
قريبا .
أبو ذر الغفاري :
وممن أنكروا على معاوية كذلك ، أبو ذر الغفاري الذي قال فيه النبي
:
" ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر " .
أنكر على عثمان أن يعطى مروان بن الحكم والحارث بن الحكم ، وزيد بن
ثابت الأنصاري ما أعطاهم من مئات الألوف من الدراهم ، وتلا قول الله "
والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب
أليم " . وجرت بينه وبين عثمان محاورة في ذلك فأمر عثمان بأن يحلق
بالشام فلم يلبث هناك بعد ما رأى من فعلات معاوية ما رأى ! أن ينكر
عليه ، فأراد معاوية أن يقطع لسانه بثلاثمائة دينار ! فكان جوابه ، إن
كان هذا من عطائي قبلتها ، وإن كانت جعلة فلا حاجة لي فيها ! ولما بنى
معاوية قصر ( الخضراء ) بدمشق قال له :
يا معاوية إن كانت هذه الدار من مال الله فهي الخيانة ، وإن كانت من
مالك فهذا هو الاسراف ، وكان يقول : والله لقد حدثت أعمال ما أعرفها !
والله ما هي في كتاب الله ولا سنة نبيه ، والله إني لأرى حقا يطفأ
وباطلا يحيا ، وصادقا يكذب ، وأثرة بغير تقى . وكان الناس يجتمعون عليه
، فنادى معاوية ، أن لا يجالسه أحد . ولما اشتد إنكاره عليه كتب إلى
عثمان : أن أبا ذر قد أفسد على الشام ! فكتب عثمان إلى معاوية :
أحمل جندبا على أغلظ مركب وأوعره ، فوجه معاوية من سار به الليل
والنهار ، ولم يكد يصل إلى المدينة حتى تسلخت أفخاذه وكاد يهلك ، ولما
قابل عثمان وذكر له ما يفعله معاوية ، أمر بتسييره إلى الربذة ، فلم
يزل بها حتى مات سنة 31 - 32 رضي الله عنه وأرضاه .
ودخل سعد بن أبي وقاص على معاوية فلم يسلم عليه بالامرة !
فقال معاوية :
لو شئت أن تقول غيرها لقلت ! قال سعد : فنحن المؤمنون ولم نؤمرك ، فإنك
معجب بما أنت فيه ، والله ما يسرني أنى على الذي أنت عليه ، وأنى هرقت
عليه محجمة دم (3).
قيس بن سعد مع معاوية :
وأرسل قيس بن سعد إلى معاوية كتابا قال فيه : أما بعد فإنك وثن ابن وثن
، دخلت الاسلام كرها ، وخرجت منه طوعا . ولم يقدم إيمانك ، ولم يحدث
نفاقك .
سعد بن أبي وقاص مع معاوية :
وأخرج مسلم في صحيحه والترمذي ، أن معاوية قال لسعد بن أبي وقاص : ما
يمنعك أن تسب أبا تراب ! فقال :
أما ذكرت ثلاثا ، قالهن له رسول الله فلن أسبه ، لان تكون لي واحدة
منها ، أحب إلى من حمر النعم :
سمعت رسول الله يقول له ، وقد خلفه في بعض مغازيه ، وهي تبوك فقال له
على : يا رسول الله خلفتني مع النساء والصبيان ، فقال له رسول الله :
أما ترضى أن تكون منى بمنزلة هارون بن موسى إلا أنه لا نبي بعدي ،
وسمعته يقول يوم خيبر :
لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله ، فتطاولنا
لها ، فقال : ادعوا لي عليا فأتى به أرمد ودفع الراية إليه ففتح الله
عليه ، ولما نزل : " قل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم . . " الآية ، دعا
رسول الله عليا وفاطمة وحسنا وحسينا وقال : " اللهم هؤلاء أهلي " وذلك
بعد أن أدار عليهم الكساء رضي الله عنهم جميعا وأرضاهم .
أبو قتادة الأنصاري :
ولما قدم معاوية المدينة لقيه أبو قتادة الأنصاري فقال له معاوية :
تلقاني الناس كلهم غيركم معشر الأنصار ، ما منعكم ؟
قال : لم يكن معنا دواب .
فقال معاوية : فأين النواضح ؟
قال أبو قتادة : عقرناها في طلبك وطلب أبيك يوم بدر ! !
قال : نعم يا أبا قتادة .
ومما قاله أبو قتادة لمعاوية يومئذ أن رسول الله قال لنا : إنا نرى
بعده أثرة ، قال معاوية : فما أمركم عند ذلك ؟
قال : أمرنا بالصبر ، فقال : اصبروا حتى تلقوه !
الحكم بن عمرو الغفاري مع معاوية :
وكان الحكم بن عمرو الغفاري - وكان يقال له الحكم بن الأقرع واليا من
قبل زياد على خراسان فكتب إليه زياد :
إن أمير المؤمنين معاوية كتب إلى ، أن يصطفى له الصفراء والبيضاء ( 4 )
فلا تقسم بين الناس ذهبا ولا فضة ، فكتب إليه الحكم : بلغني أن أمير
المؤمنين كتب :
أن يصطفى له البيضاء والصفراء وإني وجدت كتاب الله قبل كتاب أمير
المؤمنين ! وإنه والله لو أن السماوات والأرض كانتا رتقا على عبد ثم
اتقى الله لجعل الله له مخرجا ، والسلام عليكم ، ثم قال للناس اغدوا
على مالكم ، فغدوا فقسمه بينهم ، وقال الحكم :
اللهم إن كان لي عندك خير فاقبضني إليك ، فمات بخراسان ( بمرض ) رحمه
الله ورضى عنه وهكذا يكون الرجال .
أسامة بن زيد مع معاوية :
وقال معاوية لأسامة بن زيد :
رحم الله أم أيمن كأني أرى ساقيها !! ، وكأنهما ساقا نعامة ، فقال
أسامة : كانت والله خيرا من هند ( أم معاوية ) وأكرم ، فقال معاوية :
وأكرم أيضا ؟
فقال : نعم ، قال الله عز وجل : إن أكرمكم عند الله أتقاكم .
الأحنف ومعاوية :
بين الأحنف ومعاوية : قام رجل من أهل الشام خطيبا بين يدي معاوية ومعه
وجوه الناس فكان آخر كلامه أن لعن عليا ، فأطرق الناس وتكلم الأحنف
فقال :
يا أمير المؤمنين ، إن هذا القائل ما قال آنفا لو يعلم أن رضاك في لعن
المرسلين للعنهم ! فاتق الله ودع عنك عليا ، فلقد لقي ربه ، وأفرد في
قبره ، وخلا بعمله ، وكان والله ما علمنا المبرز بسبقه ، الطاهر خلقه ،
الميمون نقيبته ، العظيم مصيبته ، فقال له معاوية :
يا أحنف ، لقد أغضيت العين على القذى ، وقلت بغير ما ترى ، وأيم الله
لتصعدن المنبر فلتلعننه طوعا أو كرها ، فقال له الأحنف :
يا أمير المؤمنين ، إن تعفني فهو خير لك ، وإن تجبرني على ذلك فوالله
لا تجرى به شفتاي أبدا ، فقال :
قم فاصعد المنبر ، قال الأحنف أما والله - مع ذلك - لأنصفنك في القول
والفعل قال :
وما أنت قائل يا أحنف إن أنصفتني ؟
قال : أصعد المنبر فأحمد الله بما هو أهله ، وأصلي على نبيه صلى الله
عليه وسلم ثم أقول :
أيها الناس ، إن أمير المؤمنين معاوية أمرني أن ألعن عليا ، وإن عليا
ومعاوية اختلفا فاقتتلا ، وادعى كل واحد منهما أنه بغى عليه وعلى فئته
، فإذا دعوت فأمنوا رحمكم الله ، ثم أقول :
اللهم العن أنت وملائكتك وأنبياؤك وجميع خلقك الباغي منهما على صاحبه ،
والعن الفئة الباغية ، اللهم العنهم لعنا كثيرا ، أمنوا رحمكم الله ،
يا معاوية ، لا أزيد على هذا ولا أنقص منه حرفا ولو كان فيه ذهاب نفسي
. فغص معاوية بريقه وقال :
إذن نعفيك يا أبا بحر. وسمع الأحنف رجلا يقول :
ما أحلم معاوية ! فقال :
لو كان حليما ما سفه الحق .
مالك الأشتر ( النخعي ) مع معاوية :
وكتب سعيد بن العاص إلى عثمان ، وكان واليا من قبله على الكوفة : إني
لا أملك من الكوفة مع الأشتر ( النخعي ) وأصحابه الذين يدعون القراء ،
وهم السفهاء ، شيئا ، فكتب إليه أن سيرهم إلى الشام ، فخرج المسيرون من
قراء أهل الكوفة فاجتمعوا بدمشق فبرهم معاوية وأكرمهم ، ثم إنه جرى
بينه وبين الأشتر قول حتى تغالظا ، فحبسه ثم أخرجه من الحبس ، ولما
بلغه أن قوما من أهل دمشق يجالسون الأشتر وأصحابه ، كتب إلى عثمان :
إنك بعثت إلى قوما أفسدوا مصرهم وأنغلوا ، ولا آمن أن يفسدوا طاعة من
قبلي ، ويعلمونهم ما لا يجدونه حتى تعود سلامتهم غائلة واستقامتهم
اعوجاجا .
وروى المسعودي في مروج الذهب ، أن معاوية حبس صعصعة بن صوحان العبدي و
عبد الله بن الكواء اليشكري ورجالا من أصحاب على مع رجال من قريش فدخل
عليهم
يوم فقال : ناشدتكم الله إلا ما قلتم حقا وصدقا ، أي الخلفاء رأيتموني
؟ فقال ابن الكواء :
لولا أنك عزمت علينا ما قلنا ! لأنك جبار عنيد لا تراقب الله في قتل
الأخيار ، ولكنا نقول :
إنك ما علمنا واسع الدنيا ضيق الآخرة تجعل الظلمات نورا ، والنور ظلمات
. وبعد محاورة طويلة مع ابن الكواء تكلم صعصعة فقال : تكلمت يا ابن أبي
سفيان فأبلغت وليس الامر على ما ذكرت ! أنى يكون الخليفة من ملك الناس
قهرا ودانهم كبرا ، واستولى بأسباب الباطل كذبا ومكرا ، أما والله ما
لك في يوم بدر مضرب ولا مرمى ، ولقد كنت أنت وأبوك في العير والنفير
ممن أجلب على رسول الله صلى الله عليه وآله وإنما أنت طليق ابن طليق ،
أطلقكما رسول الله صلى الله عليه وآله فأنى تصلح الخلافة لطليق ، فقال
معاوية ، لولا أنى أرجع إلى قول أبى طالب حيث يقول :
قابلت جهلهم حلما ومغفرة * والعفو عن قدرة ضرب من الكرم لقتلتكم .
أبو أيوب الأنصاري مع معاوية :
وقدم أبو أيوب الأنصاري على معاوية فأجلسه على السرير وحادثه وقال : يا
أبا أيوب : من قتل صاحب الفرس البلقاء التي جعلت تجول يوم كذا وكذا !
قال : أنا إذ أنت وأبوك على الجمل الأحمر معكما لواء الكفر ، فنكس رأسه
وتنمر أهل الشام وتكلموا ، فقال معاوية :
مه أو قال : ما نحن عن هذا سألناك !
ودخل عليه مرة فقال له : صدق رسول الله سمعته يقول : يا معشر الأنصار
إنكم سترون أثرة فاصبروا ، ولما عاده ابنه يزيد وهو في الحبس قال له :
هل لك من حاجة ؟
قال : ما ازددت عنك وعن أبيك إلا غنى .
أبو أيوب الأنصاري مع معاوية :
أبو أيوب الأنصاري على معاوية: روى ابن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن قال
: أخبرني المسور بن مخرمة أنه وفد على معاوية ، قال :
فلما دخلت سلمت ، فقال : ما فعل طعنك على الأئمة يا مسور ؟
قال . قلت : دعنا من هذا ، وأحسن فيما قدمنا له !
قال : والله لتكلمني بذات نفسك ؟
قال : فلم أدع شيئا أعيبه عليه إلا بينته له فقال : لا أتبرأ من الذنوب
! فما لك يا مسور ذنوب تخاف أن تهلك إن لم يغفرها الله لك ؟
عمرو بن العاص مع معاوية :
ملحة : قال معاوية لعمرو بن العاص : هل غششتني مذ نصحتني ؟ قال : لا ،
قال : بلى ، يوم أشرت عليّ بمبارزة علي ، وأنت تعلم من هو !
فقال عمرو : دعاك رجل عظيم الخطر إلى المبارزة ، فكنت من مبارزته على
إحدى الحسنيين ! أما إن قتلته ، فقد قتلت قتال الاقران ، وازددت شرفا
إلى شرفك ، وخلوت بملكك ، وأما إن قتلت فتتعجل مرافقة الشهداء
والصديقين والصالحين : قال معاوية :
لهذه أشد على من الأولى ، فقال عمرو ، أفكنت من جهادك في شك فتكون منه
الساعة ! قال : دعني عنك الآن .
وكان علي رضي الله عنه قد طلب من معاوية أن يبارزه فخنس وجبن وقد عيروه
بذلك ، ولكن ماذا يصنع وهو أعلم بنفسه من غيره . ولا نمضي في هذا الباب
لان الأمثلة كثيرة جدا تملأ كتبا ، إن من الرجال وإن من النساء
الفضليات ، مثل سودة بنت عمارة الهمدانية ، وبكارة الهلالية ، والزرقاء
بنت عدى ، وأم سنان بنت خيثمة ، وعكرشة بنت الأطرش ، وما لا يحصى عددهن
.
المصدر : نصاً ودون تعليق من كتاب : شيخ المضيرة أبو
هريرة لمحمود أبو رية المتوفى عام 1385هـ ـ منشورات مؤسسة الأعلمي
للمطبوعات - بيروت – لبنان – الصفحات : 174 - 200 .
|