فلتكن الحقيقة رائدنا

 

علي يوسف المتروك

 

أحمد الله الذي لا يحمد على مكروه سواه: أحمده بأن رواة الأحاديث والمؤرخين، وأصحاب السنن والأسانيد، لا يعيشون بيننا في الكويت هذه الأيام، وإلا لوجدوا من يأخذ بتلابيبهم ويجرهم إلى المحكمة، بتهمة سب الصحابة والنيل منهم والتشهير بهم، وكان حظي ما ذكرت أن تناولتني بعض الأقلام، محتجة على اتهامي معاوية بدس السم للإمام الحسن، وخطأي انني لم أذكر المصادر التي وردت في كتب التاريخ والسير عن هذه الحادثة، متناسيا ان هناك من نصب نفسه مدافعا عن معاوية، ومتحيزاً له لا لأن معاوية مصيب أو مخطئ أو بريء أو مذنب، إنما بفعل العناد والعصبية، حتى بلغ الأمر بأحدهم أن يقول ما معناه إن كنت تتهم معاوية بسم الإمام الحسن فهو يتهم علي بن أبي طالب بقتل عثمان، فأي نقاش ممكن أن يتم، وأي حوار ممكن أن يجرى في ظل هذا التشنج، والتعصب والتجزئة والإرهاب الفكري المنظم المكمم للأفواه وكأننا لسنا أبناء ملة واحدة وحتى لا يرتفع صوت فوق صوت من ينظر ويبرر لقضايا وأمور حدثت بالفعل، وقد زخرت بها كتب السير والتاريخ، وتحدث عنها شهود عصرها حين حدوثها ممن عاصر تلك الأحداث، وعايشها، ونقلها المؤرخون في كتبهم وأسانيدهم، فهو كمن يريد أن »يغطي السماء بمنخل« كما يقول المثل الكويتي القديم.

إن إضفاء صفة القداسة على جميع الصحابة أمر يجافي طبيعة البشر، فالصحابة رضوان الله عليهم كانوا بشرا كغيرهم من الناس، تنطبق عليهم النواميس الاجتماعية، وتجرفهم في تيارها أرادوا ذلك أم كرهوا، فالمسلمون الذين كانوا يكافحون الظلم والترف والتعالي في أيام الإسلام الأولى جاءهم المال والترف بعد الفتوحات الإسلامية، فغير من أوضاعهم إلى غير ما كانوا عليه في بداية الدعوة، ألم يقل الله سبحانه وتعالى: (إن الإنسان ليطغى إن رآه استغنى)، وقد تعامل القرآن الكريم مع المسلمين بمن فيهم الصحابة بروح من الواقعية، فمدح بعضهم وذم آخرين، كقوله تعالى: (وما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب)، وقال سبحانه وتعالى في آية أخرى: (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله) وقال سبحانه وتعالى: (وقليل من عبادي الشكور) وقال سبحانه وتعالى (وأكثرهم للحق كارهون)، ونزلت سورة كاملة بالمنافقين والمتثاقلين عن القتال والقرآن الكريم فيه الكثير من الآيات الدالة على هذا المعنى في الوقت الذي مدح المؤمنين الأوائل بآيات كثيرة دلت على مكانتهم وجهادهم.

يقول أبويوسف في كتاب الخراج ص55 إلى 56 عندما جاءوا بغنائم فارس إلى عمر رضي الله عنه كشف عنها فرأى فيها ما لم تر عيناه مثله من الجواهر واللؤلؤ والذهب والفضة فبكى مستشرقاً المستقبل فقال له عبدالرحمن بن عوف: »هذا من مواقف الشكر فما يبكيك يا أمير المؤمنين؟«، فقال عمر: أجل ولكن الله لم يعط قوما هذا إلا ألقى بينهم العداوة والبغضاء.

لقد أدرك عمر رضي الله عنه بثاقب بصره، أن الاسلام مقبل على النزول بعد صعوده وأنه سيصبح دولة كسائر الدول تجبى لها الأموال وتحشد في سبيلها الجنود، ومن المؤسف أن نرى المؤرخين لا يلتفتون إلى هذا المعنى ولا يأخذونه بعين الاعتبار.

ويقول علي »ع« في كلمة مأثورة: »من ملك استأثر« وهذه كلمة أخرى تشير إلى ما كان الإسلام مقبلا عليه من استئثار وطغيان، فقد نشأت في الاسلام الملكية الكبيرة المتوارثة، وكثر العبيد، وظهرت طبقة ثرية تفوق ما كان عليه أغنياء قريش قبل الاسلام.

قبل أن أبين المصادر التي اعتمدت عليها في قضية دس السم للإمام الحسن، لابد أن أتحدث عن قضية لا تقل أهمية عن سم الإمام الحسن، وهي كالتالي: «بدعة سب الإمام علي بن أبي طالب(ع)».

قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث شريف: »من سب عليا فقد سبني« أخرجه الحاكم وصححه وأخرجه الإمام أحمد في مسنده صفحة 323 من الجزء السادس من مسنده من حديث أم سلمة عن عبدالله أو أبي عبدالله قال: دخلت على أم سلمة فقالت لي" أيسب رسول الله فيكم؟ قلت معاذ الله قالت: سمعت رسول يقول من سب عليا فقد سبني«.

وقال ابن عبدالبر الأندلسي في كتابه الاستيعاب في معرفة الأصحاب: قال رسول الله »صلى الله عليه وسلم«: »من أحب عليا فقد أحبني ومن ابغض عليا فقد أبغضني ومن آذى عليا فقد آذاني ومن آذاني فقد آذي الله وهذا حديث متواتر بالصحاح، وهناك مئات من الأحاديث تدور حول هذا المعنى، وقد جاء في الصحاح وتلك من البديهيات أن سباب المسلم فسق بإجماع أهل القبلة، وفي صحيح مسلم سباب المسلم فسق وقتاله كفر.

وقد استن معاوية سنة لم يسبقه احد إليها، وهي لعن علي بن أبي طالب وأهل بيته بعد كل صلاة على منابر المسلمين على مدى سبعين سنه وقد أصدر مرسوما إلى ولاته في مختلف الأمصار، أن برئت الذمة ممن يروي فضيلة في أبي تراب يعني (علي وأهل بيته) فقد روى أبو الفرج الأصفهاني وأحداث سنة 51 من تاريخ ابن جرير وابن الأثير أن عبد الرحمن بن حسان العنزي لما أبى أن يلعن عليا في مجلس معاوية أرسله إلى زياد بن أبيه وأمره أن يقتله قتلة ما قتلها أحد في الإسلام، فدفنه حياً، وجاء في شرح النهج المجلد الأول ص 463 أن قوما من بني أمية جاءوا إلى معاوية فقالوا له: انك بلغت ما أملت فلو كففت عن لعن هذ الرجل فقال: لا والله حتى يربو عليها الصغير ويهرم عليها الكبير، ولا يذكر له ذاكر فضلاً.

وعن عامر بن سعد بن أبي وقاص (فيما أخرجه مسلم في باب فضائل علي من صحيحه) قال: أمر معاوية سعد بن أبي وقاص فقال له: مامنعك أن تسب أبا تراب؟ فقال: أما ما ذكرت ثلاثا قالهن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فلن أسبه، لأن تكون لي واحدة منهن أحب إلى من حمر النعم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له وقد خلفه في بعض مغازيه فقال له: يا رسول الله خلفتني مع النساء والصبيان؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا انه لانبوة بعدي، وسمعته يقول يوم خيبر: لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله قال: (فتطاولنا لها) فقال: ادعو لي عليا، فأتي به أرمد فبصق في عينيه ودفع الراية إليه ففتح الله عليه (قال) ولما نزلت هذه الآية »قل تعالوا ندعو أبناءنا وأبناءكم« دعا رسول الله علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً فقال: اللهم هؤلاء أهلي.

وقال ابن الأثير في كاملة وابن جرير في تاريخ الأمم والملوك وأبو الفداء وابن الشحنه وكل من ذكر صلح الحسن ومعاوية، أنه لم يف له بإيقاف شتم علي، بل شتم علي على منبر الكوفة، بحضور كل من الحسن والحسين وقد ذكر هذه القضية أبو الفرج الأصفهاني المرواني في مقاتل الطالبيين وغير واحد من أهل السير والأخبار، وفي مسعاه ذلك طلب من الأحنف بن قيس أن يشتم عليا فلم يجبه إلى ذلك، وطمع في عقيل بن أبي طالب، فكلفه به فلم يفعل حسب ما جاء في تاريخ أبي الفداء في أحداث سنة 67 للهجرة ولم يوقف هذه السنة السيئة إلا عمر بن عبد العزيز رحمه الله.

وقد علم أهل الأخبار والسير، أن معاوية قام بقتل حجر بن عدي وأربعة عشر من أصحابه، لامتناعهم عن سب علي والبراءة منه، وقد تم قتلهم في منطقة خارج الشام تسمى مرج عذراء، ومكانهم معروف في بلاد الشام، ولمن يريد المزيد حول هذا الموضوع يراجع أوائل الجزء 16 من كتاب الاغاني لابي الفرج الاصفهاني، واحداث سنة 51 هجرية من تاريخ ابن جرير وابن الاثير، فقد كتبت ام المؤمنين عائشة رضي الله عنها تؤنب معاوية على اقدامه على هذه الجريمة بقولها: كيف تقدم على قتل حجر الصوام القوام ثم تذيل كتابها بالقول اين ذهب عنك حلم ابي سفيان.

وردا على من يشكك بقيام معاوية بدس السم الى الامام الحسن اليه هذه المصادر من كتب التاريخ والسير:

1- قال ابو الحسن المدائني: (كما في اوائل الجزء 16 من شرح النهج ص4 من المجلد 4 طباعة مصر) قال: كانت وفاة الحسن سنة 49هـ، وكان مريضا لمدة اربعين يوماً وكان عمره 47 سنة، دس اليه معاوية سماً على يد جعدة بنت الاشعث (قال) وقال لها: ان قتلتيه بالسم فلك مائة الف درهم وازوجك يزيد فلما مات الحسن عليه السلام وفّى لها بالمال ولم يزوجها من يزيد وقال: أخاف ان تصنعي بابني كما صنعت بابن رسول الله (ص)

2- ونقل المدائني عن الحصين ابن المنذر الرقاشي (كما في ص70 من المجلد4 من شرح النهج الحميدي طبع مصر ايضا) انه كان يقول: والله ما وفي معاوية للحسن بشيء مما اعطاه قتل حجر واصحابه وبايع لابنه يزيد وسم الحسن.

3- وقال ابو الفرج الاصفهاني المرواني في كتابه مقاتل الطالبيين ما هذا لفظه: واراد معاوية البيعة لابنه يزيد فلم يكن شيء اثقل عليه من امر الحسن بن علي، وسعد بن ابي وقاص فدس اليهما سما فماتا منه.

4- لم يقتصر معاوية على قتل مناوئيه حتى قتل اخص اوليائه واشدهم ملازمة له، عبد الرحمن بن خالد بن الوليد وكان عبد الرحمن رجلا شجاعا حسن الطلعة شغف به اهل الشام فقتله مخافة ان ترغب الناس به عن زيد وقصته مشهورة عند اهل الاخبار، مستفيضة بين اهل السير، فراجع ترجمة عبد الرحمن من الاستيعاب لابن عبد البر تجد التفصيل.

5- وروى ابن عبد البر الاندلسي وهو من علماء القرن الخامس في كتاب الا ستيعاب لمعرفة الاصحاب عن قتادة وابي بكر بن حفص: ان بنت الاشعث سقت الحسين بن علي السم: (قال): وقالت طائفة كان ذلك منها بتدسيس معاوية إليها.

7- روى الاستاذ المرحوم عباس محمود العقاد وهو من العلماء المعاصرين في كتابه ابو الشهداء الحسين بن علي (ص23 ) ما نصه (صالح الحسن معاوية على شروط.... وفّى له معاوية بالمعجل منها والتوى عليه بمؤجلها وزاد على ذلك كما تواتر في شتى الروايات انه اغرى امرأته جعدة بنت الاشعث بـ سمه، ووعدها ان يزوجها يزيد، ويعطيها مائة الف درهم، فوفّى بوعد المال ولم يف بوعد الزواج).

وفي نهاية هذا المقال الطويل، اود ان اوضح ان الهدف الاسمى من الكتابة هو اظهار الحقائق، التي سترت على مدى التاريخ لاغراض سياسية ليست بالضرورة تريد وجه الله والحقيقة، رغم ان الحقيقة ضالة المؤمن، لا يسترها زيف ولا تعصب ولا رياء، وبعد كل ما ذكرت من احاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في حق علي عليه السلام والسنة التي استنها معاوية بشتمه والمصادر الستة التي ذكرتها حول دس السم للحسن بن علي (ع)، (وهناك مصادر اخرى لم اذكرها اختصاراً للوقت)، اترك الحكم للقراء، فالحق واضح وضوح الشمس، يتناسق ويتفاعل مع الفطرة الانسانية التي فطر الله الناس عليها، وليس لها مساس بالوحدة الوطنية، او السلم الاهلي او الولاء لحزب الله او لإيران، وهذه حجة من لا حجة لديه، راجيا الا يزايد احد على احد بالوطنية، فالجميع يقفون على مسافة واحدة من هذا الوطن العزيز، والذي لا يمكن ان يخدش وحدته الوطنية او سلامه الاهلي نقاش هنا، او مقال هناك، فهو امنع من عقاب الجو، واكبر بكثير من المرجفين، من بياعي وموزعي انواط الوطنية والولاء حسب هواهم.

والله الموفق الى سواء السبيل.

وكل ذلك بحسب المصدر المذكور نصا ودون تعليق.

المصدر:alwatan-14-2-2008