نصائح الصحة والغذاء... بين "النسبية" والتوازن

 

د. أكمل عبد الحكيم 

 

 

لطالما أدرك الإنسان قوة العلاقة بين نوعية الغذاء وبين الصحة والمرض، وهي العلاقة التي أظهر الطب الحديث العديد من جوانبها من خلال البحث العلمي الدقيق. ولكن، ربما بسبب نوع من الثقة الزائدة بالنفس، اعتقد أفراد المجتمع الطبي أنهم قد كشفوا عن جميع جوانب هذه العلاقة، وأنهم قد سبروا جميع أغوارها. وهذا الاعتقاد بدأت الشكوك تحفُّه مؤخراً، في ظل تواتر الدراسات الحديثة التي تكشف يوماً بعد يوم عن جوانب لم تكن معروفة من قبل في العلاقة بين الغذاء وبين الصحة والمرض. وآخر تلك الدراسات، نشرت الأسبوع الماضي في إحدى الدوريات العلمية المتخصصة في الأمراض العصبية والنفسية، وأظهرت أن الخرَف أو عتَه الشيخوخة، يحدث بمقدار ثلاثة أضعاف لدى الأشخاص الذين تنخفض في دمائهم نسبة مادة "الفولات" (Folate) أو حمض "الفوليك"، وهو أحد أنواع فيتامين (ب). فمن خلال متابعة أكثر من خمسمائة سجين في أحد سجون كوريا الجنوبية، اكتشف العلماء أن المجموعة التي كانت تعاني في بداية الدراسة من انخفاض في مستوى "الفولات"، أصيب أفرادها في نهاية الدراسة بخرف الشيخوخة بمعدل يزيد على الثلاثة أضعاف مقارنة بأقرانهم. وهذا التأثير البالغ لـ"الفولات" على المخ ووظائفه، أشار إليه بداية الصيف الماضي تحليل مقارن لثماني دراسات طبية، حين أظهر الدور بالغ الأهمية لـ"الفولات" في خفض احتمالات الإصابة بالسكتة الدماغية بنسبة تتراوح ما بين 18% و25% إذا لم يكن الشخص قد أصيب سابقاً بالسكتة الدماغية. ويتواجد الفولات أو حمض الفوليك، والمعروف بفيتامين (B9)، في العديد من الخضروات الورقية، مثل السبانخ، ونبات اللفت الأخضر، والبازلاء، والبقوليات المجففة. وتتم حالياً إضافة فيتامين (B9) للعديد من الأغذية المعلبة، وخصوصاً حبوب الإفطار، مثل رقائق الذرة أو "الكورن فليكس". ومثل هذه الإضافات الاصطناعية، تخضع حالياً لجدل ونقاش حادين بين الخبراء والعلماء. حيث يرى المؤيدون لها، أن مثل هذه الإضافات يمكنها أن تساعد بشكل كبير على خفض بعض العيوب الخِلْقية التي تظهر عند الولادة، وخصوصا في العمود الفقري والحبل الشوكي. بينما يرى المعارضون أن مثل تلك الإضافات، من شأنها أن تؤدي إلى نقص فيتامين آخر هو فيتامين (B12)، وهو ما قد يؤدي بدوره إلى عواقب صحية وخيمة.

أما الخبر الآخر المتعلق بالعلاقة بين الغذاء والمرض، فسيحدث بلاشك تغييراً جوهرياً في النصائح الطبية التي يقدمها الأطباء بشكل يومي لمرضى النقرس، الذي يعرف أيضاً بـ"داء الملوك". وهذا المرض ينتج من جراء ترسب كريستالات حمض "اليوريك" في المفاصل، مسبباً تورماً مصاحباً بآلام حادة، وخصوصاً في الأطراف السفلية وفي مفاصل أصابع القدمين. وكانت الحكمة الطبية السائدة حتى الآن، هي نصيحة المريض بتجنب اللحوم الحمراء قدر الإمكان، بسبب أن العمليات الأيضية الناتجة عن هضم وتمثيل هذا النوع من اللحوم الحمراء، تؤدي إلى ارتفاع نسبة حمض "اليوريك" في الدم. ولكن في ظل تضاعف عدد حالات النقرس خلال العقود الأخيرة، ودون أن تترافق هذه الزيادة الهائلة بزيادة مماثلة فيما يستهلكه الفرد العادي من اللحوم الحمراء، سعى العلماء للبحث عن سبب آخر خلف هذه الظاهرة الصحية. وعلى ما يبدو أنهم قد وجدوا ضالتهم في المشروبات المحتوية على نسبة عالية من السكريات، وخصوصاً سكر "الفركتوز" أو سكر الفواكه، حسب دراسة نشرت مؤخراً في British Medical Journal. حيث خلصت الدراسة إلى أن الرجال الذين يتناولون اثنين أو أكثر من المشروبات عالية السكريات يومياً، تزداد لديهم احتمالات الإصابة بالنقرس بنسبة 85%، مقارنة بمن يتناولن أقل من مشروب واحد كل شهر. وهو ما يتوافق منطقياً مع دراسات سابقة، أظهرت أن سكر "الفركتوز" يرفع من مستوى حمض "اليوريك" في الدم، من خلال خفضه لقدرة الجسم على التخلص منه بسرعة. وهو ما يعني أن مرضى النقرس، ليس عليهم خفض ما يتناولونه من اللحوم الحمراء فقط، بل أيضاً من المشروبات والأطعمة المحتوية على سكر "الفركتوز". ولكن مثل هذه النصيحة تحمل في جانبها أثراً جانبياً غير مرغوب، يتمثل في أن سكر "الفركتوز" يتواجد بشكل رئيسي في الفواكه الطازجة، وفي عصائرها. وفي ظل الفوائد الصحية الجمة المعروفة لتناول الفواكه الطازجة، وخصوصاً على صعيد الوقاية من أمراض القلب والشرايين والسكتة الدماغية، يصبح من غير المستساغ توجيه النصيحة لمرضى النقرس بتجنب الفواكه.

ولذا ترى الجمعية البريطانية للأمراض الروماتيزمية، وفي ظل هذا التضارب، أن يقتصر خفض المتناول من سكر "الفركتوز" على حالات النقرس مستعصية العلاج، مع الاقتصار على تجنب الفواكه المحتوية على كميات كبيرة من "الفركتوز"، مثل التفاح والبرتقال، والاستعاضة بوجه عام عن العصائر بتناول الفواكه كاملة لما تمنحه هذه من إحساس بالشبع يغني عن تناول المزيد من العصائر.

ويظهر هذا التعارض والتضارب حول ما إذا كان يجب أو لا يجب إضافة حمض "الفوليك" للغذاء لتجنب خرف الشيخوخة والسكتة الدماغية والعيوب الخلقية، وحول ما إذا كانت تجب نصيحة مرضى النقرس بتجنب عصائر الفواكه تماماً أم بمجرد الاعتدال في كميات استهلاكها، مدى تعقيد العلاقة بين الغذاء وبين الصحة والمرض، ويؤكد مرة أخرى على قصِر فهمنا لطبيعة هذه العلاقة، وضعف إدراكنا لجميع جوانبها. ولذا تظل النصيحة الأساسية، والصالحة للغالبية العظمى من الأفراد، هي: الاعتدال في كميات الطعام، والتنويع في أصنافه قدر الإمكان، مع تجنب الأطعمة المحتوية على سعرات حرارية عالية لزائدي الوزن، وضرورة تناول مقادير كافية من الخضروات والفواكه الطازجة بشكل يومي.

وكل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور نصا ودون تعليق.

المصدر:alitihaad-7-2-2008