العادات الغذائية السيئة... مسؤولية الأسرة والمجتمع

 

د. أكمل عبد الحكيم 

 

 

ليس بالخفي على أحد، مدى الأهمية البالغة التي تشكلها التغذية السليمة في الوقاية من الأمراض، وفي الحفاظ على الصحة، ورفع مستوى الأداء البدني والذهني. هذا الدور الحيوي للتغذية السليمة، يأخذ بعداً خاصاً عندما يتعلق الأمر بالأطفال. ليس فقط نتيجة احتياجاتهم الغذائية الخاصة، والمختلفة عن احتياجات البالغين، وإنما أيضاً لأن غالبية القرارات والخيارات المتعلقة بنوعية الغذاء، وكمياته، وأوقاته، تقع تحت نطاق سلطات الأبوين، وغيرهما من البالغين الذين يشرفون على رعاية الطفل وتربيته خلال سنوات حياته الأولى. وفي ظل تزايد السمنة بين الأطفال حول العالم، وخصوصاً في دول المنطقة، ونتيجة تفاقم العادات الغذائية السيئة بين الأطفال، تزايد الاهتمام بتحديد مسؤولية الأبوين عن نوعية غذاء أطفالهما، ودور مؤسسات المجتمع الأخرى، وخصوصاً التشريعية منها والتعليمية، في رفع المستوى النوعي لغذاء الأفراد، بالإضافة طبعاً إلى مسؤولية ممارسات صناعة الأغذية عن هذه المشكلة؟

بداية، لابد أن نستعرض هنا بعض جوانب المشكلة، وخصوصاً انتشار السمنة، وتزايد العادات الغذائية السيئة بين أجيال المستقبل. فبالنسبة للسمنة، يدرك الجميع أنها قد وصلت إلى حد الوباء العالمي وخصوصاً لدى الأطفال، حيث تصيب السمنة حالياً أكثر من اثنين وعشرين مليون طفل حول العالم. أما بالنسبة للعادات الغذائية السيئة، فقد ظهر مدى انتشارها، من خلال نتائج مسح أجرته الأسبوع الماضي الجمعية البريطانية للقلب (British Heart Foundation)، وخلص إلى أن الأطفال أصبحوا لا ينظرون لكيس من رقائق البطاطس، أو للوح من الشيكولاتة، أو قطع الحلوى، على أنها مكافأة أو معاملة خاصة، بسبب تواجد هذه الأطعمة في غذائهم اليومي بشكل ثابت. وهو ما حدا بالجمعية إلى مطالبة الحكومة بمنع حملات الدعاية والإعلانات للأطعمة المعروفة بالخردة أو القمامة (Junk Food)، بسبب تأثير هذه الحملات على إدراك ومفهوم الأطفال لمعنى الغذاء الصحي. وترى الجمعية المتخصصة في أمراض القلب والشرايين أن الأطعمة غير الصحية التي أصبحت تشكل جزءاً لا يستهان به من طعام الأطفال اليومي، تؤدي إلى انسداد وتصلب شرايينهم منذ طفولتهم، وتنتج عنها عواقب صحية خطيرة في المراحل اللاحقة من حياتهم ولكن بما أن بريطانيا، على عكس غالبية دول العالم وخصوصاً الدول العربية، توجد لديها قوانين تنظم حملات الدعاية الموجهة للأطفال، مثل منع إعلانات الأغذية المحتوية على كميات كبيرة من السكريات، أو الدهون، أو الأملاح، خلال البرامج الموجهة لمن هم دون سن السادسة عشرة، فهل ينجح المزيد من التنظيم الإعلامي في رفع مستوى نوعية الغذاء الذي يتناوله الأطفال؟ وهل مطالبة البعض بمنع جميع إعلانات الأغذية منخفضة القيمة الغذائية، سيؤدي إلى استبدالها بأغذية ذات قيمة غذائية مرتفعة؟ هذه الأسئلة تفتح الباب على مصراعيه في قضية توزيع المسؤولية عن التدهور النوعي في غذاء الأطفال، لتتناثر الاتهامات بين تقصير الأسرة، وبين تقاعس مؤسسات المجتمع عن أداء دورها، وبين ألاعيب صناعة الأغذية. فبالنسبة للأخيرة، يضج الكثير من الآباء بالشكوى، من أن محاولاتهم لتحسين غذاء أطفالهم، تصطدم بحملات الدعاية الموجهة للأطفال بالتحديد، وخصوصاً تلك التي تترافق بدعم من المشاهير والأبطال. فعلى سبيل المثال، تتضمن الكثير من حملات الدعاية الموجهة للأطفال شخصيات كرتونية، يعشقها هؤلاء، ويقضون جزءاً كبيراً من أوقاتهم في متابعتها على شاشات التلفزيون والاستمتاع بمغامراتها وأفلامها. ولذا، إذا ما استخدمت أي من تلك الشخصيات في حملة دعاية لغذاء غير صحي، يصبح من الصعب على الآباء إقناع الطفل بعدم تقليد بطله المفضل. ويضيف الآباء أن محلات السوبرماركت الضخمة، لا زالت تصر على وضع الحلوى والشيكولاتة عند "كاونتر" الدفع، وفي مستوى عيون الطفل، كي تغريه بمد يده وأخذها، ومن ثم إشعال أزمة بين الأبوين والطفل، تنتهي بالصراخ والبكاء، أو برضوخ الأبوين لرغبة الطفل.مثل هذه الملاحظات، تظهر أهمية دور الحكومة في تنظيم ممارسات صناعة الأغذية في ترويج منتجاتها للأطفال. فالخبرة السابقة أظهرت أن صناعة الأغذية لا تتورع عن أية ممارسة تحقق لها المزيد من المبيعات والربح، بغض النظر عن تبعات هذه الممارسات على صحة المجتمع وأفراده. ويقترح البعض أن مثل هذا التنظيم الحكومي لا يجب أن يقتصر على حملات الدعاية فقط، بل يجب أن يمتد لخيارات الفرد ذاته، من خلال فرض ضرائب خاصة على الأغذية السيئة، ثم استخدام عائد هذه الضرائب لدعم أسعار الأغذية الجيدة. مثل هذه التشريعات لا تتعارض مع ديناميكيات قوى السوق، أو حرية الشخص في الاختيار، باعتبار أن المجتمع ككل يتحمل في النهاية تبعات استهلاك الأفراد للأغذية الضارة صحياً، من خلال تكاليف العلاج والرعاية الصحية، عندما تؤدي الاختيارات الغذائية السيئة إلى مشاكل صحية خطيرة في المراحل اللاحقة من الحياة. هذا بالإضافة إلى أن مرض، أو إعاقة، أو وفاة هؤلاء الأشخاص مبكراً، تفقد المجتمع الاستثمارات التي وضعها في الفرد خلال سنوات حياته. ومثل هذا التوزيع للمسؤولية عن العادات الغذائية السيئة، لا يعفي الأسرة بأي شكل من الأشكال، من دورها المحوري في بناء ودعم العادات الغذائية الصحية لدى أطفالها. ولذا ربما كانت أفضل نقطة للبداية، وبعيداً عن تبادل اللوم والاتهامات، هي بدء حوار بين صناعة الغذاء، وبين مؤسسات المجتمع المختلفة، سواء التشريعية منها أو التعليمية، بالإضافة إلى الأسر والعائلات، للتوصل إلى الأسلوب الأمثل في التعامل مع هذه المشكلة المتفاقمة يوماً بعد يوم.

وكل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور نصا ودون تعليق.

المصدر:alitihaad-20-1-2008