العولمة وزحف
الثقافة الاستهلاكية!
السيد يسين
لا بأس من أن نؤكد في بداية حديثنا
المقولة التي كررناها عديداً من المرات في كتاباتنا المتعددة عن
العولمة، ونعني أن العولمة عملية تاريخية. وهي بهذا الوصف الدقيق ليست
مجرد مفهوم أو مصطلح، ولكنها كظاهرة نتاج تفاعلات شتى، وتراكمات عميقة
تمت عبر مئات السنين. وهي تفاعلات سياسية ودولية واقتصادية وثقافية.
وقد تعددت تعريفات العولمة بتعدد
التوجهات السياسية لمن يصوغونها من أهل اليمين وأهل اليسار! أهل اليمين
من أنصار "الليبرالية الجديدة" يرون العولمة باعتبارها الحل السحري
لمشكلات الإنسانية، باعتبارها تركز على السوق المفتوح على مدى العالم،
والذي يعتمد أساساً على العرض والطلب، وعلى التنافسية بين اقتصادات
البلاد المختلفة، التي أصبحت "متصلة" بشبكات تفاعلية متعددة بفضل
الثورة الاتصالية.
أما أهل اليسار فيعتبرونها هي مرحلة
الإمبريالية العالمية في تاريخ الرأسمالية، حيث تستبد الدول الرأسمالية
بالسوق العالمي وتتحكم فيه، وتمارس عادتها في نهب موارد الشعوب فقيرة
كانت أم غنية، لتحقيق الأرباح وزيادة التراكم الرأسمالي إلى غير حدود
وبعيداً عن هذه التعريفات الإيديولوجية فضلنا -
كما يفعل الباحثون العلميون الاجتماعيون- صياغة تعريف إجرائي
للعولمة، باعتبارها "سرعة تدفق السلع والخدمات والأموال والأفكار
والبشر بين بلاد العالم بغير حدود ولا قيود"
وميزة هذا التعريف أنه يركز على طبيعة الظاهرة ويفكك مكوناتها، وإن كان
يسمح من بعد بالتحليل النقدي لها، وخصوصاً من حيث آثارها على الاستقرار
السياسي للدول، وعلى البنية الاجتماعية للمجتمعات المختلفة، وعلى
التوجهات الرئيسية للثقافات العالمية المتنوعة. وأياً ما كان الأمر،
فإنه يمكن القول إن للعولمة تجليات مختلفة سياسية واقتصادية واتصالية
وثقافية.
التجليات السياسية للعولمة تتمثل في
الديمقراطية والتعددية واحترام حقوق الإنسان. والتجليات الاقتصادية
تتمثل في قيام "منظمة التجارة العالمية" التي قامت لكي تحرس وتراقب
مبدأ حرية التجارة والمعاملات الاقتصادية. والتجليات الاتصالية للعولمة
تبدو في كون العالم كله أصبح متصلاً بفضل الثورة الاتصالية الكبرى وفي
مقدمتها شبكة الإنترنت، مما أدى إلى نتائج بالغة الأهمية في إشاعة
مقولات الديمقراطية وحقوق الإنسان، ونشأة المجتمع المدني العالمي،
وقدرة الجماعات السياسية المعارضة على عرض برامجها على شبكة الإنترنت،
وتعميق الاتصال الحضاري بين البشر على كل المستويات.
ونصل أخيراً إلى التجليات الثقافية
للعولمة والتي تنزع إلى صياغة ثقافة كونية Global،
تقوم على أساس نسق عالمي من القيم يؤثر على اتجاهات البشر وسلوكياتهم
بشكل متشابه في كل مكان. وكأن الغرض من هذه الثقافة الكونية إعادة
تشكيل الشخصية الإنسانية على هدى قيم مغايرة للبنية التي توارثتها عبر
القرون حتى الآن وهنا نصل إلى صلب مشكلة
العولمة. ذلك أنه يمكن قبول شعاراتها السياسية، ويمكن التفاعل الخلاق
مع تجلياتها الاقتصادية، ومن السهل التوافق مع إبداعاتها الاتصالية،
إلا أن الثقافة الكونية باعتبارها إعادة تشكيل للشخصية الإنسانية قد
تصطدم بالضرورة مع الخصوصية الثقافية للمجتمعات المتعددة
ومعنى ذلك أنه لو حاولت العولمة أن تقنن القيم وتوحد ضروب
السلوك وفق معايير عالمية (وقد تكون مجرد معايير غربية منغلقة على
ذاتها) فمعنى ذلك أنها ستدخل في معارك شتى مع الخصوصيات الثقافية
المتعددة وتبدو المشكلة في العقول المهيمنة
على عملية العولمة والقيم التي تصدر عنها
وإذا كانت هذه العقول هي نفسها المعبرة عن "الرأسمالية المعلوماتية"
التي تهيمن عليها الشركات الاحتكارية العالمية الكبرى، فإننا سنواجه
مشكلة كبرى.
بل إننا نواجه فعلاً هذه المشكلة في
العالم الثالث، حيث تتمثل العولمة في جوانبها الاقتصادية في فتح أسواق
البلاد النامية أمام الإنتاج الغزير والمتنوع لهذه الشركات، من خلال
عمليات إعلانية وتسويقية جذابة، من شأنها إعادة صياغة شخصيات الأفراد
في هذه المجتمعات لكي تدفعها للدخول في مجال الاستهلاك المتواصل، حتى
ولو كان في هذا السلوك تجاوز للقدرات الاقتصادية والمالية المتواضعة
لأعضاء الطبقات المتوسطة والفقيرة. بعبارة أخرى تمارس العولمة في الوقت
الراهن زحفها الاستهلاكي من خلال إعادة صياغة القيم السائدة في العالم
عموماً وفي العالم الثالث خصوصاً، حتى ينظر الفرد لنفسه باعتباره
مستهلكاً في المقام الأول وليس منتجاً. ولذلك آثار وخيمة على
الاقتصادات القومية وعلى التوازن الطبقي، وعلى الاستقرار النفسي
للأفراد والمجتمعات.
ومن هنا ضرورة الاهتمام بالفصل
الغائب من فصول البحث العلمي الاجتماعي في العالم العربي، ونعني بذلك
البحوث الاجتماعية للاستهلاك من الوجهة الثقافية والاجتماعية
والسياسية. وفي هذا المجال يبرز كتاب بالغ الأهمية لعالمة الاجتماع
المصرية الدكتورة منى أباظة أستاذة ورئيسة قسم علم الاجتماع بالجامعة
الأميركية في القاهرة، والذي نشرته الجامعة الأميركية عام 2006 بعنوان
"ثقافات الاستهلاك المتغيرة في مصر الحديثة" وله عنوان فرعي هو "إعادة
الصياغة الحضرية للقاهرة".
والدكتورة منى أباظة باحثة مرموقة
على المستوى الدولي في علم الاجتماع، وقد سبق لها أن نشرت كتاباً يعتبر
مرجعاً في موضوعه هو "مناظرات عن الإسلام والمعرفة في ماليزيا ومصر:
عوالم متحولة". وكتاب منى أباظة عن ثقافات الاستهلاك في مصر يعتبر
دراسة رائدة بكل المقاييس، لأنها طبقت فيه منهجية التحليل الثقافي بناء
على خبرة نظرية عميقة بالنظريات الثقافية المتعددة، وخصوصاً عن الحداثة
وما بعد الحداثة بالإضافة إلى أنها قامت
ببحوث ميدانية على أسواق الشراء الجديدة أو "المولات" (جمع مول) التي
أصبحت تتردد عليها شرائح طبقة متعددة عليا ووسطى بل وبعض الشرائح
الفقيرة، وإن كانت عادة تقنع بـ"الفرجة" على السلع المتنوعة بأثمانها
الباهظة ومما يجعل لكتاب منى أباظة قيمة
إضافية أنها عقدت مقارنة بين الاستهلاك المصري في الستينيات (عصر
الاشتراكية والتقشف) بما حدث ابتداء من السبعينيات وهى لحظة الانفتاح
الاقتصادي والعودة إلى الرأسمالية مرة أخرى، بالوضع الراهن حيث تعولمت
القاهرة، وانفتح السوق بالكامل أمام التدفق السلعي القادم من كل البلاد
الغربية وحتى من الصين، في سياق يتراجع فيه الإنتاج المصري بصورة خطيرة
ومؤسفة. ولعل السؤال الذي يطرح نفسه هو: ما هو تأثير الزحف الاستهلاكي
الذي أدت إليه العولمة على الاتجاهات والقيم والسلوك في مجتمع كالمجتمع
المصري؟
المجتمع المصري في الوقت الراهن
يتميز بوجود فجوة طبقية كبرى بين من يملكون ومن لا يملكون! وكأننا عدنا
للموقف الطبقي الذي ساد المجتمع المصري قبل ثورة يوليو 1952 والذي يعبر
عنه المؤرخون بالمشكلة الاجتماعية التي سادت المجتمع منذ عام 1945
(تاريخ نهاية الحرب العالمية الثانية) إلى عام 1952 (تاريخ قيام ثورة
يوليو 1952).
كان الموقف الطبقي يتمثل في احتكار
طبقة بالغة الضيق من كبار الملاك الثروة القومية، في حين انتشر الفقر
بين الطبقات الفقيرة والمتوسطة، وانسد باب الأمل أمام أعضائها في
الترقي الاجتماعي. ومن هنا الأهمية التاريخية لثورة يوليو 1952 التي
طبقت برنامجاً لتحقيق العدالة الاجتماعية من خلال تحديد الملكية
الزراعية، وتعميم مجانية التعليم، وفك الحصار أمام الطبقة الوسطى
والطبقات الفقيرة وإحداث حراك اجتماعي صاعد عن طريق التعليم وتكافؤ
الفرص والعمل في القطاع العام.
غير أنه يمكن القول إنه منذ تحولت
مصر إلى الرأسمالية من جديد في عصر الانفتاح الاقتصادي الذي دشنه
الرئيس الراحل أنور السادات بدأت عملية "التدهور الطبقي" في الاتساع
والتعمق حقبة بعد حقبة. ونقصد بالتدهور الطبقي على وجه التحديد الاتساع
الضخم في الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وبروز آليات اقتصادية تسمح
للأغنياء بأن يزدادوا غنى، وتدفع بالفقراء لكي يزدادوا فقراً.
وأخطر من ذلك يأتي الزحف الاستهلاكي
لكي يدفع بأعضاء الطبقات الفقيرة والمتوسطة لكي ينفقوا ما يفوق طاقتهم
في مجالات الاستهلاك الكمالي، مما أحدث خللاً واضحاً في ميزانية الأسر.
ويكفي أن نعرف أن المصريين ينفقون أكثر من 16 مليار جنيه سنوياً على
مكالمات التليفون المحمول، الذي أصبح يستخدم للوجاهة الاجتماعية وليس
لتلبية الحاجات الضرورية للاتصال.
هذا مثال بارز على السفه الاستهلاكي
الذي تغذيه الشركات الكبرى حتى يعتقد الناس أن الحاجات الكمالية أصبحت
حاجات ضرورية، وذلك في مجتمع يعجز الآن عن سد الحاجات الضرورية لملايين
البشر! هذه هي مفارقة العولمة والزحف الاستهلاكي!
وكل
ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور نصا ودون تعليق.
المصدر:alitihaad-27-12-2007
|