الإسلام الدين الثاني في أميركا

 

د. ديانا ل. إيك

 

المسلمون 6 ملايين أميركي 

أميركا تتجدد دينيا لتصبح أكثر المجتمعات تنوعا

تغيرت تضاريس اميركا الدينية بشكل اساسي في السنوات الثلاثين الاخيرة. ومن ابرز سمات تلك التغيرات، ان اميركا تجددت خلالها دينيا لتصبح اكثر المجتمعات تنوعا على هذا الصعيد. ان عدد المسلمين وصل الى 6 ملايين نسمة وهو العدد المماثل لليهود، وبذلك يصبح الاسلام مع اليهودية، الديانة الثانية في الولايات المتحدة.

ويفوق عدد المسلمين بذلك عدد الاميركيين المنتمين الى الكنيسة البروتستانتية وكذلك اتباع الكنيسة المشيخية.

هذا التغيير فرض تغييرا في الهندسة الاميركية، حيث ترتفع قبة المسجد البيضاء الضخمة بمآذنه الشامخة نحو السماء من حقول الذرة قرب توليدو بولاية اوهايو، ويمكن للمرء رؤيته اثناء مروره بالسيارة في الطريق العام، الذي يربط الولاية بالولايات المجاورة.

ويقبع على تل في الضواحي الغربية لناشفيل، بولاية تنسي، هيكل هندوكي ضخم تزين بوابته صور فيلة منحوتة فيها. وفي الاراضي الزراعية الممتدة جنوب مينابوليس، في ولاية منيسوتا، يجد المرء معبدا بوذيا كمبوديا وديرا للرهبان التابعين له، تذكر هندسة سقفيهما المعمارية بأسقف جنوب شرق آسيا. اما في ضواحي فيرمونت في ولاية كاليفورنيا، فتخفق الرايات المرتفعة فوق القباب الذهبية لغوردوارا (معبد جديد للسيخ شيد في منطقة هيلسايد تيراس)، التي اصبح يطلق عليها الآن اسم طريق غوردوارا.

ويهاجر المسلمون الى اميركا من جميع بلدانهم تقريبا، خاصة من اندونيسيا وبنغلادش وباكستان وبلدان الشرق الاوسط ونيجيريا، وتضم اميركا وحدها 30 مليون مهاجر ينتمون الى ديانات مختلفة من اصل 130 مليون مهاجر في العالم اجمع ويشكل مبدأ الحرية الدينية وفصل الدين عن الدولة، احد المبادئ الاساسية التي تقوم عليها الولايات المتحدة.

ومع ازدياد عدد المسلمين وبروزهم في المجتمع الاميركي، بدأ المسؤولون الاميركيون يتحولون من التحدث عن 'الكنائس والكنيس (المعبد اليهودي)' الى التحدث عن 'الكنائس والكنيس والمساجد' واصبح حلول شهر رمضان يلقى اهتماما شعبيا.

هذا التنوع الديني يترافق مع اندماج مجتمعي ملموس، بحيث يتحول شعار 'من الكثرة واحد' الى واقع.

يشكل مبدأ الحرية الدينية وفصل الدين عن الدولة أحد المبادئ الأساسية التي تقوم عليها الولايات المتحدة. وقد اعتبر المؤسسون هذا المثل الأعلى من الأهمية بحيث أنهم أوردوه في وثيقة الحقوق التي نصت عليه بوصفه التعديل الأول للدستور الأميركي. وقد كانت الغالبية الساحقة من الأميركيين، لدى تأسيس الجمهورية قبل أكثر من قرنين، من المسيحيين. ولكن الولايات المتحدة أصبحت في الفترة التي انقضت على ذلك، خصوصا في العقود الثلاثة الأخيرة، كما توثق الدكتورة ديانا ل إيك في كتابها الذي صدر أخيرا، 'أميركا جديدة دينيا'، أكثر المجتمعات تنوعا دينيا في العالم.

والدكتورة إيك هي أستاذة الدين المقارن والدراسات الهندية في كلية الآداب والعلوم، وعضو هيئة اللاهوت التعليمية في جامعة هارفارد. وفي ما يلي مقتطفات من مقدمة كتابها الذي يبحث في التطورات الدينية، التي جعلت أميركا 'جديدة دينيا' كما تقول المؤلفة:

ترتفع قبة المسجد البيضاء الضخمة بمآذنه الشامخة نحو السماء من حقول الذرة قرب توليدو بولاية أوهايو. ويمكن للمرء رؤيته أثناء مروره بالسيارة في الطريق العام الذي يربط الولاية بالولايات المجاورة. ويقبع على تل في الضواحي الغربية لناشفيل، بولاية تنسي، هيكل هندوكي ضخم تزين بوابته صور فيلة منحوتة فيها. وفي الأراضي الزراعية الممتدة جنوب منيابوليس، في ولاية منسوتا، يجد المرء معبدا بوذيا كمبوديا وديرا للرهبان التابعين له تذكر هندسة سقفيهما المعمارية بأسقف جنوب شرق آسيا. أما في ضواحي فيرمونت، بولاية كاليفورنيا فتخفق الرايات المرتفعة فوق القباب الذهبية لغوردوارا (معبد) جديد للسيخ شيد في منطقة هيلسايد تيراس، التي أصبح يطلق عليها الآن اسم طريق غوردوارا.

لقد تغيرت تضاريس أميركا الدينية بشكل أساسي في السنوات الثلاثين الماضية، ولكن معظمنا لم يبدأ بعد بمشاهدة أبعاد ذلك التغيير ونطاقه، وهو إذ كان تدريجيا جدا ولكنه ضخم جدا ايضا. وقد بدأ الأمر ب'الهجرة الجديدة'، التي حفزها قانون الهجرة والتجنس لعام ،1965 اذ وفد الناس من جميع أنحاء العالم الى اميركا وأصبحوا مواطنين أميركيين. وقد جاءت معهم تقاليد العالم الدينية الى اميركا، الشعائر الدينية الإسلامية والهندوسية والبوذية واليابانية والسيخية والزرادشتية والافريقية والافريقية - الكاريبية. وانتقل أتباع هذه الأديان وممارسو هذه الشعائر الدينية الحية الى الأحياء السكنية الاميركية، بتردد وحذر في بداية الأمر، مقيمين مذابحهم وقاعات صلاتهم في المخازن ومباني المكاتب وفي الأدوار الواقعة تحت الأرض وكاراجات السيارات وفي غرف الترفيه وخزائن المعاطف، بحيث ظلت مخفية عن أعيننا تقريبا. وفي حين أننا لم نشاهد جميعنا مسجد توليدو أو معبد ناشفيل، لكننا سنشاهد أماكن مشابهة لهما حتى في الأحياء التي نعيش فيها، إن فتحنا أعيننا. وهي جميعا مؤشرات هندسية معمارية على أميركا جديدة دينيا.

المسلمون إلى المرتبة الثانية

إننا ندهش عندما ندرك أن عدد الاميركيين المسلمين يفوق عدد الاميركيين المنتمين الى الكنيسة الأسقفية البروتستانتية، وأن المسلمين يفوقون أتباع الكنيسة المشيخية الاميركية عددا، وأن عدد المسلمين مماثل لعدد اليهود، أي حوالي ستة ملايين نسمة وندهش عندما ندرك أن لوس انجلوس هي أكثر المدن البوذية تعقيدا في العالم، إ ذ تضم الجالية البوذية فيها أشخاصا من شتى أنحاء العالم البوذي الآسيوي الممتد من سريلانكا الى كوريا، الى جانب عدد وافر من البوذيين من الأميركيين المولودين في اميركا. وقد يصل العدد الإجمالي لأعضاء هذا الطيف البوذي برمته الى أربعة ملايين نسمة في الولايات المتحدة.

ونحن نعرف أن الكثير من أطباء الأمراض الباطنية والجراحين والممرضات الذين يوفرون لنا الرعاية الصحية هم من أصل هندي، ولكننا لم نتوقف للتفكير في أنهم يملكون أيضا حياتهم الدينية الخاصة بهم، وبأنهم قد يتوقفون دقائق في الصباح للصلاة أمام مذبح في غرفة الجلوس في منزلهم، وأنهم ربما كانوا يجلبون الفاكهة والزهور الى هيكل شيفا - فيشنو المحلي في عطلة نهاية الاسبوع وربما كانوا يشكلون جزءا من الجالية الهندوكية المتنوعة التي يفوق عددها المليون نسمة.

وفي حين أننا ندرك تماما هجرة المتحدرين من دول أميركا اللاتينية من المكسيك وأميركا الوسطى ونعي وجود جالية كبيرة من السكان الذين يتكلمون الإسبانية في مدننا، إلا أننا قد لا ندرك رغم ذلك ما لهذا الأمر من تأثير عميق على المسيحية في الولايات المتحدة، الكاثوليكية والبروتستانتية في السواء، في جميع المجالات من التراتيل الكنسية وحتى الأعياد.

تنوع وتعددية مركبة

يبلغنا المؤرخون أن أميركا كانت دوما بلد أديان كثيرة، وهذا صحيح. فقد كانت هناك تعددية مركبة ضخمة تميز طريقة حياة سكان أميركا الأصليين حتى قبل وصول المستوطنين الأوروبيين الى هذه الشواطئ. ومازال التنوع الكبير في الممارسات الدينية لسكان اميركا الاصليين مستمرا حتى اليوم، من ممارسات البسكاتاواي في ولاية ماريلاند حتى شعائر البلاكفيت في ولاية مونتانا. كما كانت للذين عبروا الاطلسي من أوروبا الى اميركا تقاليد دينية متنوعة، من الكاثوليك الاسبان والفرنسيين، الى البريطانيين الأنجليكانيين والكويكرز (الصاحبيين)، مرورا باليهود والهولنديين المسيحيين اتباع الكنيسة الاصلاحية، وقد ازدادت هذه التعددية، كما سنشاهد، عبر 300 عام من الاستيطان. وكان الكثير من الافارقة الذين احضروا الى هذا البلد كعبيد مسلمين. اما الصينيون واليابانيون الذين وفدوا للعمل في المناجم والحقول في الولايات الغربية فقد جلبوا معهم مزيجا من التقاليد والشعائر البوذية والطاوية والكونفوشيوسية. كما وصلت الى الولايات المتحدة في القرن التاسع عشر اعداد كبيرة من اليهود من اوروبا الشرقية ومن الكاثوليك من ايرلندا وايطاليا ووفد اليها مهاجرون مسيحيون ومسلمون من الشرق الاوسط. وهاجر اليها البنجابيون من شمال غرب الهند في العقد الاول من القرن العشرين. وكان معظمهم من السيخ الذين استوطنوا في واديي سنترال وامبيريال في كاليفورنيا، وشيدوا اول معابد السيخ في اميركا، وتزوجوا من مكسيكيات مستحدثين ثقافة فرعية سيخية - اسبانية غنية. وتشكل قصص جميع هؤلاء جزءا مهما من تاريخ الهجرة الاميركي.

من أين؟

ولكن المهاجرين الذين وصلوا في العقود الثلاثة الاخيرة زادوا تنوع حياتنا الدينية بشكل مثير هائل. فقد وصل البوذيون من تايلند وفيتنام وكمبوديا والصين وكوريا، ووصل الهندوس من الهند وشرق افريقيا وترنيداد، ووصل المسلمون من اندونيسيا وبنغلادش وباكستان والشرق الاوسط ونيجيريا، ووفد السيخ واليابانيون من الهند، والزردشتيون من الهند وايران. وجلب المهاجرون من هايتي وكوبا معهم الى الولايات المتحدة تقاليد افريقية - كاريبية، مازجين بين الرموز والصور الافريقية والكاثوليكية. ووفد مهاجرون يهود جدد من روسيا واوكرانيا، واصبح التنوع الداخلي بين اليهود الاميركيين اعظم الان مما كان عليه في اي وقت مضى. كما تغيرت صورة المسيحية الاميركية هي ايضا مع وجود جاليات كبيرة من الكالثوليك المتحدرين من دول اميركا اللاتينية (اللاتينو) ومن الفلبين وفيتنام، والجاليات العنصرية 'اتباع كنيسة معاصرة تشدد على اهمية حلول الروح القدس' من الصين وهايتي والبرازيل، واتباع الكنيسة المشيخية من كوريا وكنيسة مار توما من الهند والاقباط من مصر. وفي كل مدينة من المدن الاميركية تعلن اللوائح الكنسية عن اوقات اجتماعات المصلين الكوريين واللاتينو داخل جدران كنائس بروتستانتية وكاثوليكية قديمة في المدن الاميركية.

بلد المهاجرين

لقد اعاد تنقل اعداد ضخمة من البشر خلال السنوات الثلاثين الاخيرة، كمهاجرين ولاجئين، تشكيل عالمنا من الناحية الديموغرافية. وفي حين يبلغ عدد المهاجرين في شتى انحاء العالم اكثر من 130 مليون نسمة، يوجد 30 مليونا منهم تقريبا في الولايات المتحدة، بحيث يصل اليها مليون في كل عام. ان الصورة العالمية الديناميكية المثيرة لعصرنا ليست ما يطلق عليه صدام الحضارات وانما تحويل الحضارات والشعوب الى ما يشبه الرخام المعرق المجزع. فكما اوجد انتهاء الحرب الباردة وضعا جغرافيا - سياسيا جديدا، اوجد تنقل البشر عالميا حقيقة جغرافية - دينية جديدة. لقد اصبح الهندوس والسيخ والمسلمون الان جزءا من النسيج الديني في بريطانيا، وظهرت المساجد في باريس وليون، والمعابد البوذية في تورنتو، وهياكل السيخ 'الغوردوارا' في فنكوفر. ولكن تنوع العقائد الدينية لم يصل في اي مكان، حتى في عهد الهجرة الضخمة التي تميز العالم اليوم، الى ما هو عليه في الولايات المتحدة. فعلى المرء ان يضيف الى التنوع الديني الكبير في الهند ديانات الصين واميركا اللاتينية وافريقيا المختلفة. وعليه ان يضيف الى تعددية بريطانيا او كندا موجات هجرة اللاتينو علاوة على الفيتناميين والكمبوديين والفلبينيين،. ان هذا واقع جديد مدهش. انه واقع لم نشهد له مثيلا من قبل.

العيش في مكانين

وتختلف حقبة الهجرة الجديدة عن حقب الهجرة السابقة ليس فقط من حيث حجمها وتعقيدها وانما ايضا حتى من حيث القوى الداخلية المحركة لها والنواميس الخاصة بها. فالكثير من المهاجرين الذين يفدون الى الولايات المتحدة اليوم يحافظون على علاقات قوية مع اوطانهم الاصلية، اذ يبقون على صلاتهم معها عبر السفر وشبكات الاتصال العابرة لحدود الدول، والرسائل الالكترونية والفاكسات وخطوط الهاتف عبر الاقمار الصناعية ونشرات اخبار الفضائيات التلفزيونية . وهم ينجحون في العيش هنا وهناك في الوقت نفسه بجميع الطرق التي اصبحت توفرها وسائل الاتصال والاتصال عن بعد الحديثة. فما الذي ستصبح عليه فكرة ورؤيا اميركا من تقبل مواطنيها، الجدد والقدامى، لجميع هذه التعددية؟

ان التساؤلات التي تنبثق اليوم نتيجة تلافي اتباع هذا الكم الكبير من التقاليد الدينية والثقافية هي من صميم الفكرة التي نحملها عن انفسنا كشعب. انها ليست تساؤلات تافهة لكونها تجبرنا على ان نطرح على انفسنا، بصورة او بأخرى، الاسئلة التالية: من الذين نقصدهم عندما نستشهد بالكلمات التي تشكل بداية دستورنا، 'نحن شعب الولايات المتحدة الاميركية'؟ من الذين نقصده عندما نقول 'نحن'؟ هذا، من دون شك، تحد للمواطنة، لانه يتعلق بمجموعة السكان المتخيلة التي نعتبر انفسنا جزءا منها. ويشكل ايضا تحديا للدين، لان اتباع جميع العقائد الدينية يعيشون الان مع اتباع ديانات أخرى، ليس فقط حول العالم وانما في المنزل المواجه لمنزلهم.

'نحن شعب الولايات المتحدة' نشكل الآن البلد الاكثر ديانات على وجه الارض. ففي اي اتجاه سنتوجه الان؟ ان عدم الاهتمام بوجود جيران مسلمين او بوذيين في ركن اخر من اركان المعمورة او الجهل بذلك امر يختلف تماما عن وجود البوذيين كجيران في المنزل المجاور لنا وعن كون اعز صديق لاولادنا هو تلميذ مسلم وكون هندوسي قد ترشح للفوز بمقعد في لجنة المدرسة اذ يصبح لدى كل منا في هذه الحالة اهتمام شخصي مكتسب بجيراننا كمواطنين وكأتباع دين ايضا.

الحريات الدينية

ومع حلول فجر القرن الجديد نواجه نحن الاميركيين تحديا بأن نحترم ونطبق وعد الحرية الدينية الاساسي جدا لفكرة اميركا وصورة اميركا. ولطالما ادت الحرية الدينية الى ظهور التنوع والتعددية الدينية ولم تكن تعدديتنا الدينية في اي وقت من الاوقات بالزخم نفسه الذي هي عليه اليوم وسيتطلب هذا منا استعادة اعمق معاني المبادئ التي نعتز بها وخلق مجتمع اميركي تعددي حقا لا يتم فيه التسامح فقط بشأن هذا التنوع الكبير وانما يصبح فيه هذا التنوع ذاته مصدر قوتنا نفسها الا انه سيتعين علينا كي نحقق ذلك ان نعرف المزيد عن بعضنا بعضا وان نصغي للطرق الجديدة التي يلفظ بها الاميركيون الجدد كلمة 'نحن' ويسهمون في صوت وروح اميركا.

ما كان يمكن لواضعي الدستور ووثيقة الحقوق ان يتخيلوا نطاق التعددية الدينية في اميركا في بداية القرن الحادي والعشرين. ولا شك في انهم عندما كتبوا الكلمات ال 16 في التعديل الاول، 'لا يجوز للكونغرس الاميركي اصدار اي قانون خاص باقامة دين من الاديان (كدين رسمي للدولة) او بمنع حرية ممارسته 'لم يكونوا يفكرون في الديانة البوذية او الهندوكية. ولكن المبادئ التي بينوها بوضوح، 'عدم اقامة' دين و'حرية ممارسة' الدين وفرت دفة قوية ثابتة لتوجيه البلد خلال القرنين الماضيين اثناء ازدياد التعددية الدينية في اميركا. ولا عجب في ذلك اذ ان الحرية الدينية هي منبع التعددية الدينية وهما امران لا ينفصمان. وقد بدأنا نطالب خطوة خطوة ونؤكد على ما لم يتخيله واضعو الدستور ولكنهم جهزونا للترحيب به.

ان الدين لا يشكل ابدا منتجا مستكمل الصنع تم تغليفه وتعليبه وتسليمه ليتم نقله كما هو تماما من جيل الى جيل. وفي حين ان بين اتباع كل دين عددا من الاشخاص الذين يفكرون في دينهم على هذا النحو، تراهم مصرين على انه موجود بكل عناصره المتكاملة في الكتب المقدسة والعقائد والشعائر الدينية التي يعرفونها ويحترمونها ويعتزون بها، لكن اي جولة، مهما كانت قصيرة، في التاريخ تثبت خطأهم. فتقاليدنا الدينية ديناميكية لا ساكنة، ومتغيرة لا ثابتة وهي اشبه بالانهر منها بالنصب التذكارية. وتاريخ الدين عملية مستمرة. وتشكل اميركا اليوم مكانا مثيرا لدراسة تاريخ الاديان الحية الديناميكي مع تحول البوذية الى دين اميركي متميز ومع التقاء المسيحيين واليهود مع بوذيين وتبين دينهم مجددا في ضوء ذلك اللقاء او ربما التوصل الى انهم جزء من التقليدين معا. ويتعين حتى على اتباع الفلسفة الانسانية (المؤمنين بقيمة الانسان وقدرته على تحقيق الذات عن طريق العقل) وحتى على الدنيويين الذين لا يقيمون اي اعتبار للدين، وحتى على الملحدين ان يعيدوا النظر في نظرتهم الى العالم والوجود الانساني ضمن واقع ديني اكثر تعقيدا. ذلك انه يتعين عليهم بوجود الهندوس المؤمنين بآلهة متعددة والبوذيين الذين لا تتضمن ديانتهم اي اله ان يكونوا اكثر دقة وتحديدا في ما يتعلق بنوع 'الاله' الذي لا يؤمنون به.

.. والتنوع

وكما ان تقاليدنا الدينية ديناميكية غير ساكنة كذلك اميركا نفسها كفكرة وليس شعار الجمهورية 'من الكثرة واحد'، حقيقة منجزة بل هو مثل اعلى يواصل الاميركيون السعي اليه والمطالبة به فقصة شعوب اميركا الكثيرة واقامة دولة واحدة قصة لم تكتمل فصولها بعد يتم خلالها استرجاع واعادة تكوين المثل المنصوص عليها في اعلان الاستقلال والدستور، ان 'الكثرة' التي نتصف بها اليوم لافتة اكثر من اي وقت مضى بأعراقنا ووجوهنا وبموسيقانا المتنوعة من الجاز حتى القوالي (الصوفية ذات الاصل الايراني) وطبولنا المتباينة البنغالية والعائدة الى هاييتي ورقصات الهيب هوب والبنغرا وفرق موسيقى المارياشي (المكسيكية الاصل) والغاملان (التي تعزف على الات النقر العائدة الى جافا وبالي) وبمآذننا الاسلامية وابراج هياكلنا الهندوسية وبقمم معابدنا المورمونية المستدقة وقباب الغردوارا السيخية الذهبية. وسوف يتطلب الاعراب عن 'الواحد' عن توحدنا في خضم هذه التعددية الكثير من الاصوات الجديدة التي يسهم كل منها بطريقته الخاصة كأصوات السيخ الذين سيدافعون عن 'الحقيقة البديهية البينة بذاتها' بتساوي البشر ليس فقط لانها حقيقة منصوص عليها في اعلان الاستقلال وانما ايضا لانها ضمن تعاليم الغورو ناناك ومبدأ من مبادئهم الدينية كسيخ. ويشكل سماع الطرق الجديدة التي يتم الاعراب فيها عن أميركا كفكرة التحدي الذي نواجهه اليوم.

من نحن؟

ومع دخولنا الالفية الجديدة اصبح الاميركيون في طريقهم الى اكتشاف من 'نحن' مجددا. وقد يبدو كل عنصر تتألف منه اميركا الدينية الجديدة صغيرا الا ان كلا منها يسهم في رسم الصورة الذاتية الجديدة لاميركا. فمع ازدياد عدد المسلمين وبروزهم في المجتمع الاميركي على سبيل المثال، بدأ المسؤولون الاميركيون يتحولون من التحدث عن 'الكنائس والكنيس (المعابد اليهودية)' الى التحدث عن 'الكنائس والكنيس المساجد'واصبح حلول شهر رمضان المبارك يلقى اهتماما شعبيا ويشكل مناسبة لنشر لمحة عن الجيران المسلمين في صحيفة دالاس مورننغ نيوز وصحيفة منيابولس ستار تريبيون.

وتحولت حفلات الافطار اليومية الى لحظات للتقدير. وقد اقام موظفو الكونغرس ووزارتي الدفاع والخارجية المسلمون مآدب افطار في اواخر التسعينات من القرن الماضي. واستضاف البيت الابيض اول احتفال بعيد الفطر في عام 1996 وهو الاحتفال الذي اصبح تقليدا متبعا حتى اليوم وفي ذلك العام نفسه عينت البحرية الاميركية اول مرشد روحي مسلم هو الملازم ملك عبدالمطاع علي نويل وتم في عام 1998 تدشين اول مسجد تابع للبحرية الاميركية في قاعدة نورفوك البحرية في ولاية فرجينيا مقر الملازم نويل. وعندما يشارك 50 بحارا اميركيا في صلاة الجمعة في ذلك المسجد فإنهم يشيرون لنا جميعا بأننا نعيش حقبة جديدة في حياة اميركا الدينية.

كما بدأ الهندوس يبعثون هم ايضا بمؤشرات على وجودهم في اميركا فعلى سبيل المثال شارك شري فنكاتاتشالاباثي سامدرالا وهو كاهن في هيكل شيفا فشنو لكليفلاند في بارما بولاية اوهايو في 14 سبتمبر 2000 في افتتاح جلسة لمجلس النواب الاميركي رافعا صلاة المرشد الروحي لذلك اليوم وكانت صلاته باللغتين الهندية والانكليزية واختتمها بترتيلة سنسكريتية سجلت جميعها على موقع الهيكل على الشبكة العنكبوتية. وفي حين ان المناسبة كانت زيارة رئيس الوزراء الهندي للولايات المتحدة الا انه كان من الواضح ان الرسالة الاعم كانت ان ولاية اوهايو تضم هي ايضا هندوسا تماما ككل ولاية اخرى من الولايات المتحدة وعلينا كأميركيين مشاهدة هذه المؤشرات على وجود اميركا جديدة دينيا وبدء التفكير بأنفسنا مجددا في سياقها.

وتقدم لنا حركة تحاور وتعاون الاديان المختلفة المزدهرة في اميركا مجموعة اخرى من المؤشرات على ما يحدث حاليا في اميركا مع بدء اتباع التقاليد الدينية المختلفة التعاون معا بطرق ملموسة. وقد اثار احد الامثلة على ذلك الاهتمام لانه جاء نتيجة مبادرة وقيادة بوذية. ففي عام 1998، ومن باغودة 'هيكل' السلام الابيض المبهرة القائمة على قمة تل تنتشر فيه اشجار القيقب في منطقة ليفرت الريفية في ولاية ساتشوستس، اطلقت مجموعة من الحجاج البوذيين حج الاديان المشترك للمرحلة الوسطى Interfaith Pilgrimage of the Middle Passage.

وقد سار 'الحجاج' الذين كانوا مجموعة من الاميركيين من جميع الاعراق والاديان، ما بين 25 الى 40 كيلومترا يوميا لمدة سبعة اشهر زاروا خلالها اماكن مرتبطة بالاسترقاق على طول الساحل من مدينة بوسطن حتى مدينة نيو اورلينز. وقد تابع بعضهم الرحلة من هناك بحرا الى ساحل افريقيا الغربي. وكانت المجموعة البوذية الراعية للمسيرة، وهي مجموعة تدعى نيبونزان ميوهوجي، صغيرة الحجم ولكنها، مثلها في ذلك مثل الكويكرز، تتصف بقدرة وممارسات قيادية تفوق عددها بكثير. ولم تكن هذه اول مرة تنظم فيها هذه المجموعة مسيرة في سبيل التآلف العرقي والديني. فقد سارت ايضا من آو وسشفتز الى هيروشيما لتذكير العالم بفظائع معسكرات الاعتقال والقنبلة الذرية. اما على الصعيد المحلي، فتسير هذه المجموعة مدة ثلاثة ايام في كل عام من الباغودا على قمة التل الى وسط مدينة سبرنغفيلد، بولاية ساتشوستس، للاحتفال ب'جونتينث' 'وربما صحت ترجمة ذلك الى الحزيرانية'، وهو الاحتفال السنوي بتحرير السود من العبودية، وفي كل حالة من هذه الحالات، يسير اعضاء المجموعة على اقدامهم لتذكير كل منا بأعمق التزاماتنا.

ويتطلب تصور اميركا الجديدة في القرن الحادي والعشرين قفزة بارعة تتسم بسعة الخيال، لانه يعني رؤية تضاريس اميركا الدينية، من اقصاها الى اقصاها، بكل تعقدها الجميل.

و كل ذلك بحسب رأي الكاتبة في المصدر المذكور نصا و ون تعليق.

المصدر:القبس الكويتية -17-10-2007