العزلة... وأثرها على الصحة

 

د. أكمل عبد الحكيم 

 

 

توجد في عالم الطب مجموعة خاصة من الأمراض، يطلق عليها اسم الأمراض النفسية الجسمانية أو النفسجسمانية (psychosomatic disorders)، وهي الأمراض التي تنتج عن ظروف نفسية أو ضغوط عقلية، وليس بسبب اضطراب فسيولوجي أو بيولوجي مباشر.

أو هي بمعنى آخر، الأمراض التي تنتج عن اضطرابات نفسية مثل القلق، أو التوتر المزمن، أو الغضب الشديد، أو الاكتئاب المرَضي ويجب أن نفرِّق هنا بين الأمراض النفسجسمانية، وبين الأمراض النفسية والعقلية التي تصاحب باضطرابات عضوية كجزء من أعراض المرض، وأيضاً بينها وبين الادعاءات المرَضية المبنية على الكذب والتمثيل، والمعروفة بالتمارُض.

ومنذ زمن ليس ببعيد، كانت بعض الأمراض، مثل الصداع النصفي، والأزمة الشعبية، والحساسية، والحمل الكاذب، تصنف خطأ على أنها أمراض نفسجسمانية وفي الآونة الأخيرة، ظهرت مجموعة جديدة من الأمراض، مثل منظومة حرب الخليج، أو منظومة الإرهاق المزمن، والتي يعتقد البعض أنها تندرج تحت نطاق الأمراض النفسجسمانية. وبغض النظر عن التعريفات والتصنيفات، تظهر هذه النوعية من الأمراض حقيقة مهمة، وهي مدى قابلية الحالة الصحية للشخص للتأثر الشديد بالحالة النفسية، ومن ثم الإصابة بالأمراض دون وجود سبب عضوي واضح ومباشر.

هذه الحقيقة عادت لتؤكدها هذا الأسبوع دراسة صدرت عن جامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس بالولايات المتحدة، ونشرت في إحدى الدوريات العلمية المتخصصة في علم الجينات (Genome Biology) وخلصت هذه الدراسة إلى أن العزلة الاجتماعية والوحدة، تؤديان إلى اختلالات في وظائف جهاز المناعة، وإلى تحفيز بعض الجينات المسؤولة عن تنشيط عملية الالتهاب داخل الجسم، وهو ما يفسر الحقيقة المعروفة بأن الأشخاص المنعزلين اجتماعياً تتعرض صحتهم العامة لانتكاسات واضطرابات، بمقدار أكبر بكثير من أقرانهم الذين يعيشون حياة اجتماعية نشطة، تتميز بعلاقات شخصية قوية ومتعددة.

فضمن واحدة من أكبر الدراسات التي أجريت على أمراض القلب في العالم (Framingham Heart Study)، خلص العلماء إلى أن العلاقات الاجتماعية تلعب دوراً مهماً في الوقاية من أمراض القلب.

فمن خلال متابعة الحالة الصحية لأكثر من ثلاثة آلاف شخص على مدار أربعة أعوام، اكتشف العلماء أن الأشخاص الذين يعيشون في عزلة اجتماعية، ترتفع في دمائهم مستويات بعض البروتينات الدالة على وجود التهاب مزمن، مقارنة بأقرانهم الذين يتمتعون بقدر أكبر من التواصل الاجتماعي مع أفراد العائلة، وضمن مجموعة من الأصدقاء. ويعتقد الكثيرون أن هذا الالتهاب الداخلي المزمن، يلعب دوراً في تصلب الشرايين من خلال زيادة التصاق كريات الدم البيضاء بجدرانها الداخلية، مسببة انسدادها أو انفجارها لاحقاً.

ولذا، يمكن تلخيص نتائج جميع تلك الدراسات في أن العزلة والشعور بالوحدة يغيّران من طبيعة العلميات الكيميائية داخل الجسم، مما يؤثر سلباً على جهاز المناعة، ويحفز بعض الجينات على زياد إنتاج العوامل المسببة للالتهاب، والتي تؤدي بدورها إلى تصلب الشرايين، ومن ثم الإصابة بالذبحات الصدرية والسكتات الدماغية.

ويضيف العلماء إلى هذا السيناريو القاتل، حقيقة أن الأشخاص المنعزلين يميلون بشكل أكبر للتدخين بشراهة، وإلى تناول الكحوليات بإفراط وربما أيضاً لتعاطي المخدرات، وفي نفس الوقت ينخفض لديهم حجم النشاطات البدنية اليومية، ويقل ميلهم للاعتماد على غذاء صحي متوازن، وهي العوامل المعروف عنها زياد احتمالات خطر الإصابة بأمراض الشرايين.

ومن السهل رؤية عمل ديناميكيات هذا الواقع الطبي الاجتماعي في المجتمعات الحديثة، وخصوصاً في المجتمعات الغربية. فمن ضمن خصائص المجتمعات الإنسانية الحديثة، ثلاث صفات مميزة: هي ضعف العلاقات الاجتماعية بوجه عام، وانتشار الاكتئاب بين أفرادها، وارتفاع حاد في نسبة الوفيات الناتجة من أمراض الشرايين.

فالعزلة الاجتماعية في المجتمعات الغربية مثلاً، تظهر بشكل واضح في عدد من يعيشون حالياً في منازلهم، وحيدين دون قرين أو رفيق، وهي النسبة التي تصل مثلاً إلى نصف الرجال والنساء في بعض ضواحي العاصمة البريطانية. وتتضح هذه العزلة أيضاً، من أعداد المُسنين والعجائز الذين يقضون آخر سنوات عمرهم وحيدين، في رفقة القطط والكلاب ليس إلا، وإلى درجة أن بعضهم قد لا تكتشف جثثهم إلا بعد أسابيع وشهور من وفاتهم.

وعلى صعيد اكتئاب المجتمعات، يكفي أن نذكر أن الإحصائيات تشير إلى أن 16% من البشر يصابون في فترة من فترات حياتهم بالاكتئاب المرَضي، وهو ما يمكن ترجمته إلى الملايين، وربما عشرات الملايين من البشر المصابين بالاكتئاب.

وتختلف نسبة انتشار الاكتئاب بين المجتمعات، لتصل في الولايات المتحدة مثلاً إلى 6.5% من النساء وإلى 3.3% من الرجال. أما في كندا، فيعاني 5% من السكان من الاكتئاب المرَضي، وفي بريطانيا يصاب شخص واحد من بين كل خمسة أشخاص بالاكتئاب المرضي في مرحلة ما من حياته.

مثل هذا الواقع النفسي الاجتماعي، ربما كانت نتيجته النهائية هي أن أمراض الشرايين، وما ينتج عنها من ذبحة صدرية وسكتة دماغية، أصبحت تحتل حالياً رأس قائمة أسباب الوفيات بين الجنس البشري.

وهذا لا يعني أن العوامل الأخرى، مثل قلة النشاط البدني، وزيادة الوزن، والتدخين، لا تلعب دوراً مهماً أيضاً في زيادة انتشار أمراض القلب والشرايين ولكنه يعني كذلك أن التواصل الاجتماعي، وصلة الرحم، والزيارات العائلية، وتبادل "العزومات" الرمضانية وغير الرمضانية، ولقاءات الأصدقاء والأخلاء، هي حاجة إنسانية ضرورية للحفاظ على التوازن النفسي، ولتجنب الإصابة ببعض الأمراض.

و كل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور نصا و دون تعليق.

المصدر:الإتحاد الإماراتية-20-9-2007