محاولة لتفسير التجزئة العربية
خليل علي حيدر
نجح المفكر البحريني د. محمد جابر الأنصاري عبر كتبه العديدة، في أن يضع قضية الوحدة العربية وانقسامات العالم العربي ودور الدولة الوطنية أو القطرية، في مركز الحوار والجدل من جديد. دعاة الوحدة يرونه مبالغاً في الحديث عن موانع ومعرقلات هذه الوحدة، التي يؤمنون أنها إما ضرورية أو حتمية أو الاثنتان معاً ومناصرو الواقعية السياسية المصدومون من الشعارات الوحدوية وفشل تجاربها، يرون في كتاباتها بداية عودة الوعي للمثقفين وتحكيم العقل ونقد الذات! اهتمامات د. الأنصاري في الحقيقة أوسع من العروبة والعالم العربي، فنظرته التحليلية تصل إلى العالم الإسلامي برمته، بل وإلى التجارب الآسيوية، وهو ينتقد المثقفين العرب في قراءتهم لمفكر العولمة وصراع الحضارات صمويل هنتجتون، لأننا "انشغلنا بذلك الجانب من طرحه الذي وضع الإسلام بمواجهة الغرب، ولم نركز على أهمية بروز القوى الآسيوية كقوى موازية للغرب، وكيف يمكن الاستفادة منها عربياً. ففي هذه المرحلة سيظل العالم الإسلامي ساحة للصراع لا قوة في الصراع، بحكم الحركة البطيئة للعلم والتقدم الحضاري والإنتاجي في المجتمعات الإسلامية، أما القوة البديلة فهي القوة الآسيوية في الشرق الأقصى". داء العالم الإسلامي، ومنه داء العالم العربي، قديم! "إذ على الرغم من التألق الروحي والعقلي والعمراني للحضارة العربية الإسلامية، فإن تاريخها السياسي وفكرها السياسي، ظل أضعف عناصرها على الإطلاق وأشدها ارتباكاً. فهي حضارة جميلة ورائعة، لكنها ظلت تعاني غالباً من فقر دم سياسي من حيث الواقع العملي على صعيد التطبيق". إن العالم العربي كذلك، "يبدو جسماً عملاقاً برأس سياسي ضئيل في منتهى الصغر". مشكلة العالم العربي في رأيه "التقزم والتأزم السياسي لجسم عملاق. ولابد أن نعترف - بتواضع - أنها بدأت في تاريخنا، قبل "الإمبريالية" و"الصهيونية" بقرون وما تفعله هذه القوى "الشريرة" في الواقع هو استغلالها واستثمارها وتوظيفها لأبعاد تلك الظاهرة العربية الذاتية المترسخة". المشكلة في رأي د. الأنصاري، أن المفكرين العرب يتحدثون باستمرار عن التخلف العلمي ونظائره في الحياة العربية، إلا أنه يندر الاعتراف بواقع "التخلف السياسي"، الذي عانى ويعاني منه العرب كثيراً وطويلاً، لأسباب موضوعية وليس لمثالب ذاتية! ويشرح د. الأنصاري بعض هذه الأسباب على النحو التالي: 1- لم يحدث في أية منطقة من مناطق العالم أن تواجهت البادية والحاضرة، الصحراء والمدينة، كما تواجهت في المنطقة العربية. وقد أحاطت البوادي والصحاري بأطراف الصين والهند والقارة الأوروبية دون تأثير حاسم في دواخلها. (درس كل من ابن خلدون ود. علي الوردي تأثيرات هذه الظاهرة). 2- نتج عن هذا أن باعدت الفراغات الصحراوية بين مراكز التحضر العربية، مما حال دون نشوء النسيج العمراني المتصل. وهذه القطيعة المكانية هي العامل الانفصالي الطبيعي الأكبر في الوطن العربي، سواء في التكوينات الاجتماعية أو السياسية. مثل هذه التجربة التاريخية في تحليل د. الأنصاري، زعزعت باستمرار بين شعوب العالم العربي خبرة العيش في دولة مستقرة ومستمرة، وأضيف هذا التفكك السياسي إلى التفكك الجغرافي الذي سببته المساحات الصحراوية الواسعة والبوادي القفراء الممتدة. 3- عرف العرب الدولة الوطنية في القرن العشرين، لهذه الدولة أهمية كبرى في حياتهم السياسية اليوم، وفي إنضاج روحيتهم الوطنية. فـ "الدولة الوطنية الراهنة في العالم العربي، بكل أوجه القصور فيها، ومع الإقرار بأنها تمثل تجزئة استعمارية في بعض الحالات، فإنها من حيث الواقع التاريخي وعلى النطاق الشامل للمجتمعات العربية، تمثل أول تجربة للعرب في الدولة وفي الوحدة". وإذا كانت المرحلة الإقطاعية وتطورات العصور الحديثة، قد أنضجت الأقطار الأوروبية وأثرت تجربتها السياسية، فإن الدولة العربية اليوم، مهما كانت حديثة ومهما كان حجمها، تلعب دوراً بالغ الأهمية في الارتفاع بالوعي السياسي للشعوب. ومن هنا فلا معنى ولا ضرورة للاستهانة بها أو تجاوزها لاعتبارات قومية أو دينية، بل على العكس، لابد من الحرص على بقائها وازدهارها والدفاع عنها. فهذه الدولة الوطنية خطوة تاريخية، لابد منها للوحدة القومية التي لن تكون غير حاصل جمع الوحدات، بل إن الدول القُطْرية العربية، يمكن النظر إليها بتجريد فكري، كمرحلة إقطاعية مؤجلة في عصر الرأسمالية العالمية والسيادات الدولية. ونحن نرى مفكراً قومياً مثل د. محمد عابد الجابري، الذي كان يؤكد أن الوحدة لابد أن تمر عبر نفس الدولة القُطرية، يتحول عام 1992 إلى القول بأن "الدولة القُطرية العربية حقيقة دولية وعربية اجتماعية واقتصادية ونفسية، لم يعد من الممكن القفز عليها حتى على صعيد الحلم. وكل تفكير في الوحدة العربية لا ينطلق من واقع الدولة القطرية الراهنة ينتمي إلى مرحلة انتهت". (العرب وتحديات القرن الحادي والعشرين، عمّان 2000، ص 306). أبدى د. علي المحافظة، المؤرخ الأردني المعروف عدة ملاحظات في مداخلته على محاضرة د. الأنصاري. لم يبد د.المحافظة مقتنعاً بما ذهب إليه المحاضر من أن مفهومي الدولة والسياسة عند العرب يختلفان عن مفهوم الدولة والسياسة في العالم المعاصر. ويتعجب الأنصاري من غياب مفهوم الدولة في الفكر الإسلامي، يقول د. المحافظة، ولقد كان من الطبيعي أن يتم ذلك لسببين: "أولهما أن الإسلام دعوة دينية للناس عامة، لا حدود جغرافية تحدها، لأن العالم كله مداها الطبيعي، وثانيهما لأن الإسلام كدين أي عقيدة، لم يتضمن أسساً معلومة لبناء الدولة، فقد ترك أمرها للمسلمين أنفسهم". وإذا كانت الصحراء سبباً من أسباب الانقطاع المكاني والزماني والتاريخي، كما يقول الأنصاري، فلماذا لم ينشأ الانقطاع الثقافي والحضاري بين "الجزر الحضرية العربية"؟ ولماذا لم تظهر لغات جديدة وثقافات وهويات وطنية؟ وهاجم د. المحافظة "الدولة القُطرية" التي أشاد د. الأنصاري بدورها التاريخي والسياسي في إنضاج قيم المواطنة ودمج مختلف المكونات البشرية والشرائح والطبقات ضمن هوية مشتركة، وقال: الكيانات السياسية الحالية من صنع الاستعمار، "وقد عجزت هذه الدول منذ نشأتها حتى اليوم عن خلق الوحدة الوطنية الحقيقية بين قبائلها وطوائفها الدينية وفئاتها المحلية المختلفة، وما زال النزاع القبلي والخلاف الطائفي والنزعات المحلية والولاءات الأسرية أقوى من الولاء للوطن. إنني أرى أن الدولة القطرية قد فشلت في تحقيق أهدافها أو حتى القيام بوظيفتها الأساسية، وهي تحقيق التنمية الشاملة وتوفير الأمن الوطني وإنجاز الوحدة الوطنية". كانت المداخلة الثانية للدكتور "نظام بركات" الذي استعرض ضمن حديثه "أسباب التخلف في مجال الوعي المعرفي". من هذه الأسباب أن الحضارة العربية الإسلامية لم تعرف الفصل بين الدين والدولة وكذلك الفصل بين الحياة العامة والخاصة. وانفصمت الممارسة عن الفكر الإسلامي، ولذلك لم تكن الخلافة تعبيراً عن الفكر الإسلامي إلا من خلال الصراع مع القوى الخارجية! "وقد استغلت الدولة الحديثة هذه المسألة، وتعاملت بالأسلوب نفسه في تأجيل الإصلاحات السياسية لحين الانتهاء من حرب الاستقلال والصراع ضد إسرائيل وتحرير فلسطين". وقد انهال د. بركات كذلك بدوره بالهجوم على أفكار د. الأنصاري حول مكانة الدولة الوطنية أو القطرية، كما تسمى في الأدبيات القومية عادة: "إن إعطاء الدولة القطرية مشروعيتها، بما قد يتمخض عنها من خصوصية في التاريخ والجغرافيا والثقافة، قد يحول دون تحولها لدولة الوحدة في ظل تفاوت الدخول وتعارض المصالح". دافع د. الأنصاري في رده عن وجهة نظره في تأثير الصحراء على توحيد العالم العربي رغم كل الملاحظات، وتساءل: لماذا توحدنا باللغة العربية وتفرقنا بالسياسة؟ وأجاب: هذه أيضاً من الخصوصيات العربية. حينما تأتي الاجتياحات الرعوية الخارجية، فالأشياء المعنوية تستطيع أن تترحل بسرعة، ولكن لا يمكن نقل العمران، لا يمكن نقل الأساسيات المادية. في التجربة العربية نلاحظ أن القيم المعنوية موحدة لأنها تستطيع أن ترحل عندما يأتي الخطر ولكن هل انتقلت ركائز الدولة الأموية إلى بغداد عندما انهار وجود الأمويين؟ لن يحسم الجدل حول دور الصحراء، جغرافياً وتاريخياً وثقافياً، فيما يتعلق بتقارب أو تباعد العرب، فهذه قضية لا تزال بحاجة إلى مساهمة المزيد من المؤرخين والجغرافيين والمفكرين. ولكن إن كانت الصحراء قد لعبت دوراً سلبياً في التقارب بين أقطار العالم العربي، فإن الصراعات السياسية، التافهة في أحيان غير قليلة، قد لعبت ربما دوراً أشد خطورة في الزمن المعاصر، حتى عندما يكون البلدان متجاورين متماثلين، بل وتحت حكم حزب واحد تقريباً. نحن بحاجة إلى المزيد من التحليل والتفسير! و كل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور نصا و دون تعليق. المصدر: الإتحاد الإماراتية-24-6-2007
|