التجربـة الهنديـة تـحـت المجـهـر القـسـم الأول المـهـندس مصـطـفـى الصـادق
نشـــرت مجلة فورين أفيرز موخراً تقريراً يتناول النجاح الهنــــــــدي فـي المجالين السياسي والإقتصادي . تشير المجلة في تقريرها أن : "إزدهار الإقتصاد الهندي سيستمر طالما السياسة الديمقراطية الهنديـــة تسمح بذلك ." لا أقصد في هذا المقال تحليل الحالة الهندية ، والنجاح الذي حققته الدولــة الهندية ، بل الإشارة الى الدرس الذي يمكن إستخلاصه من هذه التجربــة التي ترتبط بدولة نامية وشرقية وذات شــعب متعدد المذاهب والأديــــان واللغات والأحزاب . شهدنا ومازلنا الكثير من النقاش والتجاذب بين النخب عن ضرورة تقديم التنمية الإقتصادية على التنميــة السياسية أو العكس ، النخب منقسمة الى معسكرين : الأول يدعو إلى ضرورة تقديم التنمية السياسية على التنمية الإقتصادية ، بينما الثاني يجادل في ضرورة قلب المعادلة بتقديم التنمية الإقتصاديـــة على السياسية ، وللأسف الجدل متواصل بين المعسكرين والتجميد للتنمية في الإتجاهين المذكورين مستمر ، وكأن تشبث البعـض بالترتيــــــــب او التراتب ذريعة للتنصل من التنمية في هذا الإتجاه اوذاك . يـُقـال ان الهنود إبتدعوا الطريقة الخاصة بهم للتعاطي مع التنمية فــــي الإتجاهين المذكورين الملفين ، وذلك بإعمال التزامن بين الإصـــــلاح الإقتصادي والإصلاح السياسي والدمقرطة المؤسسية في الهند. يعتقد الكثير من الباحثين ومنهم Ashutosh Varshney أســــــــتاذُ عِلْمِ السياسة في جامعة مشــيغانِ ومُؤلفِ كتاب : "نزاع عرقي وحياة مدنيــة : الهنودس والمســـــــلمون في الهند " ، و" ديمقراطية ، تطوير، والريف : الكِفاح الحضرية الريفية في الهند حيث يقول : " أن سر النجاح الهندي يكمن في "إدارة" هذه العملية بشكل فعال . مضيفاً : "إن الهند اليوم هي من قلائل الإمم التي تمكنت ان تدير عملية تحريـــــر الإقتصاد بموازاة الإستجابة للديمقرطة القائمة على المأسسة بشكل ناجح ." للإصلاح - في أي إتجاه كان - أعراضه الجانبية وصدماته ولذلك تبــــرز للدول خلال مسـيرتها نحو الإصــــلاح الإقتصادي والديمقراطية مشــاكل جديدة قد تقود الى الردة والإنقلاب على الإصلاح الإقتصادي اوالسياسي . يعرف الجميع إن سياسات تحريـــــــر الأسواق وإلغاء الدعم مثلا قد تؤدي إلى نوع من الإنقباض الإقتصادي خاصة بالنسبة للشـــــــريحة ذات الدخل المحدود . فهذه الشريحة تشعر بالإستياء جراء هذه الإصلاحات وضغوطها الأتية من التضخم والحالة التنافسية للأجور وغيرها من التبعات الإقتصاديـــــــــــة المعروفة لدى الإقتصاديين على المدى القصير . و تترجم ذلك الإستياء في الإنتخابات ، وعبر صناديق الإقتراع ولذلك تقوم الأحزاب برفع شعارات وسياسات معاكســـة لإمتصاص ذلك الإسـتياء ، و لكسب الأصوات فالوصول الى الســـــلطة مما يؤدي في نهاية المطاف إلى الإبطاء في تلك الإصلاحات أوتوقفها . كيف تجاوزت الديمقراطيات الغربية ذلك الإستياء ونتائجه ؟ - الإقتراع العام لأكثر الديمقراطيات الغربية كان بعد الــثورة الصناعية أي بعد أن تحسن فيها دخل الفرد عموماً. - والبعض الأخر من تلك الدول أقامت أسس دولة الرفاه التي تعالج الكثير من مشكلات الفقراء وأصحاب الدخل المحدود . هذا إضافة الى أن الدول المذكورة بنيت منذ البداية على أساس الطابع اللاتَدَخُّلي والحِمَائي للدولة أي الـ (non-interventionist) . لكن التجربة الهندية تختلف بشكل عن الأروبية لأن الهنود تبنوا الإقتراع العام مع الإستقلال وذلك قبل وقت طويل من الإنتقال إلى الإقتـصـــــــاد الصناعي . طبعاً في الهند أيضاً ومنذ أواسط التسعينات عمد العمال الى المشاركة أكثر في العملية الديمقراطية ورفعوا سقف مطالباتهم الديمقراطية حتى أكثر من الطبقة المتوسطة مما مهدَ لتحالف بين اكبر التيارات السياسيــــــــــــة أي الـ (يو بي اي ) وتحالف الكونغرس الوطني لإســــتقطاب الأصوات عبر برنامج يجمع بين إعتماد النظم الإجتماعية الداعمة وسياســــــــات تحرير الأسواق. بين الهند ونمور الشرق الأسيوي ؟ أكبر إقتصاديات الشرق الأسيوي إعتنقت الديمقراطية كنظام للحكم بعد عقدين من تصاعد النمو الإقتصادي و تحسن الأوضاع الإقتصادية في بلدانهم فعلى ســبيل المثال إن كوريا الجنوبية والتايوان تبنت النهــــــج الديمقراطي للحكم في أواخر الثمانينات ومنتصف التسعينات. لكن في هذه المنطقة هناك إقتصاديات تتمتع بمعدلات نمو عالية ، وهي لم تتحول الـى الديمقراطية بعد مثل الصين وســـنغافورة ، طبعاً هناك شكوك في إستمرارية تلك المعدلات. ففي الهند مقارنة مع الصين أدت الديمقراطية إلى إعاقة الخصخصـــــــــة المتهورة لوجود النقابات والإتحاديات والاحزاب العمالية التي تدافــــع عن مصالح العمال ضد الخصخصة الجارفة للمؤسسات التابعة للقطاع العام ، وذلك غير متاح في الصين . أثبت الهنود كفاءة في إدارة هذه اللعبة والتوازن بين نموهم الإقتصــــادي والإلتزام بقواعد اللعبة الديمقراطية وذلك عبر إنتهاجهم السبل السلمية لحل التناقضات والسماح للتعبير عن الرأي ! إن النمو الإقتصادي المذهل أي بمعدل السنوي الذي يعادل 6 بالمائة التي حققته الهند طيلة السنوات ال 15 الماضية يرشح الهند لكي تكون أبرز قوة إقتصادية منافسة خلال العقود الثلاث أو الأربع القادمة لو تمكنت مـــــــن إدارة العملية بصيرورة و نجاح كما فعلت حتى الآن . فالدرس الذي يمكن إستخلاصه من التجربة الهندية هو إدارتها المتوازنــة المتوازية نسبياً بين التنمية الإقصادية والسياسية بعدم تعليق واحدة منهـــا على الإنتهاء من الأخرى ، والإنتباه النسبي الى دور سياســـــــات الرفاه والدعم الإجتماعـي التي ساهمت في ضمان ديمومة تفاعل الجماهيـر مع الإصلاح في الإتجاهين السياسي والإقتصادي وتحمل الأعراض الجانبية والضغوط الناجمة من الخصخصة وسياسات الســـوق لأن التنميـــــــــة الإقتصادية بحاجة الى تكريس الشــــفافية والمســـاءلة والمحاســـــــبة ، والديمقراطية هي التي يمكنها أن تزرع ذلك وتنشره الى حد كبير . الخـلاصــة : 1- الترتيب غير صحيح ، و كما هو التراتب الكامل المسـتقر بأقســـــــامه بين الإصلاح السياسي والإقتصادي ، ولا توجـد وصفـة ســــحرية واحـدة قابلة للتعميم فالتقليد الأعـمـى لأن الإصلاح لايكون في فراغ بل ينطلق من بيئة لها بُناها وقيودها وخصوصياتها وإمكاناتها وظروفها . 2- مع مراعاة كل ما تقدمَ يبقى إحتمال تعثر أوتوقف أو تراجع الإصلاح وارداً لأن التنمية لا تنحصر في السياسية والإقتصادية منها بل لا بد وأن تشمل التنمية الإجتماعية والثقافية والدينية والمعلوماتية و ... الخ . هذا وأقصد من الترتيب التتالي الزمني كالترتيب بين صـــلاتي الظهــــر والعــصر ، ومن التراتب المكانة والأهمية كما هو في المعايرة بين الأهم والمهم . ولنا عودة الى هذا الموضوع إن شاء الله .
|