الدبلوماسية .. بين الحديث والقديم !

 

م.م.م.

 

كان الهدف العام للدبلوماسية القديمة هو الاستقرار الأوروبي وليس المساواة العالمية وقد تحقق هذا الهدف من خلال الاتفاق الأوروبي عام 1815 الذي حقق لأوروبا مائة عام تقريباً من السلام وكان أبطال هذا الإنجاز هم رجال الدولة ودبلوماسيين مثل بسمارك ومترينخ وكاسترو. غير أننا يجب أن نلاحظ أن هذه المائة عام من السلام والتي ستثير شجن وحنين الدبلوماسيين والساسة في الأجيال التالية قد قامت في ظروف اسثنئاية ، ونتيجة لسياسة توازن القوى balance of power ووجود شبكة من المصالح المتبادلة في التجارة، كما كان عدد الفاعلين في المسرح الدولي قلة، وقدم لهم صغر القارة الأوروبية فرصة التفاعل السريع حيث زادت الإلفة بين رجال الدولة والسفراء والتي تجاوزت الحدود القومية ومع بلاطهم الملكي الذي كان نشطاً بشكل خاص في الدبلوماسية كون رجال الدولة والدبلوماسيون مجتمعاً ارستقراطياً تجاوز القوميات وكان هذا هو عصرهم الذهبي وخلق التقدم الاقتصادي مع استمرار السلام سحراً يوتوبياً جعل كاتباً كبيراً مثل فيكتور هوجو يكتب عن "موت الحرب".

غير أنه ومع مطلع القرن العشرين بدأ أن النظام الدولي سوف يتميز بالاضطراب العنيف لا بالتناسق والاستقرار، فقد أزاحت الحرب الأولى أربع امبراطوريات كبرى من القوى السبع التي كانت على المسرح الدولي، وكان على الدبلوماسية التقليدية في جوهرها أن تهيئ نفسها وتتكيف مع عصر ثوري جديد وكان التجديد الحاسم في هذا العصر هو إنهاء الاحتكار الأوروبي نتيجة لدخول الولايات المتحدة في المجموعة الصغيرة للأعضاء الكبار في المجتمع الدبلوماسي. رغم أن هذا التطور قد بدأ بالاتجاه الانعزالي الذي ساد الولايات المتحدة، وحيث كان هذا الاتجاه يود لو لم يكن للعالم الجديد سياسة خارجية على الإطلاق ابتعاداً عن مشاكل أوروبا وصراعاتها وحروبها، وحيث أعلن جون آدمز أن عمل أمريكا مع أوروبا هو التجارة وليس السياسة أو الحرب ، وأنه حتى عام 1906م كان للولايات المتحدة ست سفارات في الخارج والباقي مفوضيات، ورغم كل ذلك، إلا أن الاتجاه الانعزالي لم يصمد أمام التطورات التي أرغمت الولايات المتحدة أن تندمج فيها وتصبح هي ودبلوماسيتها من العوامل المؤثرة في توجيه الحياة والدبلوماسية الدولية إن لم تكن هي العامل الحاسم فيها.

وقد توافق مع هذا التطور بدء تعرض الدبلوماسية القديمة او التقليدية وأساليبها لهجوم مستمر منذ الحرب العالمية الأولى واستمر هذا الهجوم الذي صحبته تطورات جذرية في البيئة الدولية حتى كادت الدبلوماسية القديمة أن تنبذ منذ نهاية الحرب الثانية. ويلخص هانز مورجانثو الحجج التي استند عليها الهجوم على الدبلوماسية القديمة في :

1- أنها مسؤولة عن الكوارث السياسية التي حاقت بالبشرية خلال الحقب التي سيطرت فيها أساليبها، والمنطق يقول إن الأساليب التي ثبت عدم صحتها يجب أن تستبدل.

2- أن الدبلوماسية التقليدية إنما تتعارض مع مبادئ الديموقراطية لذلك كان على الدبلوماسية أن تكون مفتوحة ومعرضة للفحص في كل عملياتها.

3- أن الدبلوماسية التقليدية بشكلياتها غير ذات جدوى ومضيعة للوقت ومتعارضة بمساوماتها مع المبادئ الأخلاقية.

أما العوامل الحاسمة التي أدت إلى تراجع الدبلوماسية القديمة ونشوء الدبلوماسية الجديدة فكانت نتيجة لثلاثة تطورات رئيسية : التغيير الذي لحق بتكوين الأسرة الدولية، طبيعة الاهتمامات الدولية ومن ثم أهداف العملية الدبلوماسية، ثم ثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات.

فبالنسبة للعامل الأول فقد كان عدد الدول التي تمارس العملية الدبلوماسية عند بداية نظام الدولة الحديثة عند منتصف القرن السابع عشر اثنتي عشر دولة أوروبية ومنذ هذا الوقت تضاعف هذا العدد عدة مرات. ففي نهاية القرن 18 وبداية القرن 19 حدث تحول أساسي حيث حصلت الولايات المتحدة وخمس عشرة دولة لاتينية على الاستقلال، الأمر الذي ضاعف من عدد الدول المكونة للمجتمع الدولي واتسعت الساحة الدولية حيث شملت نصف الكرة الغربي. ثم حدث نمو مفاجئ وإن كان بطيئاً في منتصف القرن 19 حيث انضمت إلى المجتمع الدولي الصين واليابان وعدد من دول أمريكا الوسطى وليبيريا ونما هذا التوسع بشكل أكبر بعد الحرب العالمية الأولى وخاصة في البلقان وجنوب شرق أوروبا والشرق الأوسط حيث بلغ عدد الدول ما يقرب من 65 دولة. غير أن المجتمع الدولي شهد أكبر توسع له نتيجة لموجه الاستقلال بعد الحرب العالمية الثاني حيث انضم 75 عضواً جديداً خاصة من العالم العربي وأفريقيا وآسيا والباسيفيكي حيث وصل عدد الدول التي تتمتع بعضوية الأمم المتحدة 185 دولة وبطبيعة الحال نتج عن هذا التوسع في المجتمع الدولي توسع كبير في الصلات والعلاقات الدبلوماسية والمفاوضات والأجهزة الدبلوماسية.

أما العامل الثاني في نشوء الدبلوماسية الحديثة فقد تمثل في التغيير النوعي الذي نجم عن تقلص الحدود بين الدول والثورة الصناعية وتزايد الاعتماد على التجارة وتنوعها والاكتشافات العلمية والتداخل المتزايد بين الدول في الشؤون الثقافية والمالية والاجتماعية وتعامل الحكومات مع نطاق واسع من القضايا والمشكلات. فإذا كانت اهتمامات الدول ومن ثم جهازها الدبلوماسي تنحصر في القرن 19 في عدد محدود من القضايا مثل قضايا السلام والحرب والاستراتيجية وحماية المواطنين في الأراضي الأجنبية وحقوق الملاحة والتجارة وتسليم المجرمين، وحيث كان ما عدا ذلك من قبيل الاهتمامات الأدنى low politics والتي إن أثارت الاهتمام فهي تترك للمستويات الوظيفية الأقل، أما اليوم فقد اتسع نطاق اهتمامات الدولة بشكل أصبح يشمل - إضافة إلى الاهتمامات التقليدية - قضايا مثل الطعام والطاقة والمياه والبيئة والسكان والهجرة ومقاومة الإرهاب والسكان والانتشار النووي والأمراض.

والعامل الثالث يتمثل في ثورة الاتصالات والمعلومات التي جاءت لكي تحدث تغييراً نوعياً في ظهور الدبلوماسية الحديثة. فالثورة التكنولوجية في مجال النقل والاتصالات أصبحت تسمح بإجراء اتصالات طويلة ومشاورات بالبرقيات والفاكس والخط الساخن الذي يربط بين الرؤساء خاصة، وأصبح من الممكن عقد مؤتمرات وحوارات عبر الاتصالات السلكية واللاسلكية والأقمار الصناعية ومكن هذا المتفاوضين وهم على مائدة المفاوضات من الاتصال بعواصم بلادهم والحصول على التوجيهات من صناع القرار في عواصمهم. كما كان لثورة المعلومات وسرعة نقلها عبر الشبكات والقنوات التلفزيونية تأثيراً حاسماً على عمل الدبلوماسي وكمية ما هو متاح له من أخبار ومعلومات وتقييمات وجعله في مركز الأحداث العالمية وهو في مكتبه وجعله هذا في سباق مع الزمن لكي يلاحق هذه الاحداث ولا يتخلف عنها.

أما السبب الآخر لظهور الدبلوماسية الحديثة فهو بروز تصور أكثر ديموقراطية للعلاقات الدولية، فقد كانت إدارة العلاقات الدولية خلال عصر الدبلوماسية القديمة والتقليدية توكل إلى صفوة من الرجال المختارين التي تتفاوض وتقرر سياسات بلادها وعلاقاتها، الأمر الذي تغير في ظل نظم الحكم الديمقراطية، حيث أصبح الرأي العام ذا تأثير بالغ على صانع السياسة ومنفذها من خلال وسائل الإعلام والأحزاب والاجتماعات الشعبية والبرلمانات والمظاهرات وصناديق الاقتراع. وهكذا أصبحت الدبلوماسية ذات طابع ديموقراطي democratized diplomacy وبحيث أصبحت تسمى أحياناً بالدبلوماسية الشعبية people diplomacy بما يعني نفوذ وتأثير الأجهزة الشعبية والتمثيلية على العلاقات الخارجية وإداراتها.

إذا كانت هذه هي العوامل الرئيسية في التحول الذي حدث في الدبلوماسية الحديثة ونقلها من طبيعتها ومنهجها ومضمونها التقليدي الكلاسيكي إلى الدبلوماسية الجديدة ذات المضمون - وإن ظل محتفظاً بعناصر من مضمون الدبلوماسية القديمة - إلا أنه ازداد اتساعاً وتنوعاً في موضوعاتها وغاياتها كما اختلفت كذلك في مناهجها وأدواتها. إذا كان الأمر كذلك فما هي أهم الخصائص التي أصبحت تميز الدبلوماسية الحديثة والمعاصرة.

لقد أظهرت العوامل التي كانت وراء هذا التحول عدداً من الخصائص الدبلوماسية الحديثة، فقد أصبحت تعمل في بيئة دولية أكثر اتساعا وتعددا وتنوعا من التي كانت تعمل فيها الدبلوماسية القديمة. واتسع نطاق القضايا والموضوعات التي تعالجها وينشغل بها الدبلوماسي وتشكل جدول أعماله اليومي كما أصبحت تعمل في ضوء العلانية ومتابعة وسائل الاعلام وكذلك تحت تأثير المؤسسات الديمقراطية ويقظة الرأي العام. بالاضافة الى هذه الخصائص المرتبطة بعوامل التغير التي طرأت على الدبلوماسية ، ثمة خصائص أصبحت من المعالم الرئيسية للدبلوماسية المعاصرة.

من أهم هذه المعالم وأولها أن الدبلوماسية اليوم أصبح يطلق عليها ما يمكن تسميته الدبلوماسية الشاملة او الكاملة Total Diplomacy . فلم يعد الدبلوماسي قانعا بممارساته التقليدية من حفلات ومآدب عشاء وغذاء واستقبالات أو بكتابة التقارير والتحليلات والتنبؤات ، إنما أصبح الدبلوماسي اليوم هو الذي يدير وينسق نطاقا عريضا من النشاطات والاهتمامات العريضة للبلد المعتمد فيه وبحيث يمكن القول ان الدبلوماسي الحديث يجب ان يتوقع معالجة كل مظاهر الحياة البشرية إذ أن كل مظهر للوجود البشرى أصبح اليوم تقريبا له بعض الأبعاد الدولية ، الأمر الذي جعل من الدبلوماسية التي كانت يوما ما عملا بسيطا عملية معقدة ليس فقط نتيجة للعدد المتزايد من المشكلات والقضايا المعقدة والمتشابكة التي تواجه الدول والمجتمع الدولي وإنما أيضا نتيجة للعدد المتزايد من الدول.

أما المعلم الثاني الذي أصبح يميز الدبلوماسية المعاصرة وأصبحت معه تسمى الدبلوماسية الترابطية Associative Diplomacy فقد نجم عن النمو المستمر في تكوين المجموعات الاقليمية والدولية Groupings وهو الاتجاه الذي تشكل به هذه المجموعات علاقات سياسية واقتصادية أوثق مع دول أخرى تربطها بها روابط استراتيجية وسياسية واقتصادية وتجارية . ويبدو هذا الاتجاه واضحا في توسيع وتعميق مجموعات كانت قائمة مثل السوق الأوروبية المشتركة EEC والتي توسعت لتصبح الاتحاد الأوروبي EU وأصبحت تضم اليوم 15 عضوا ، ولم تتسع في العضوية فقط وإنما كذلك في طبيعة الروابط بينها بحيث أصبحت تتجه وفقا لمعاهدة ماستريخت في ديسمبر عام 1991 الى الوحدة النقدية والسياسية والاقتصادية. وعلى المستوى الآسيوي نجد رابطة دول جنوب شرقي آسيا : الآسيان ASIAN ، ومنتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا باسيفيك APEC ، ثم تجمع NAFTA الذي يضم الولايات المتحدة وكندا والمكسيك. بالاضافة الى تجمعات فرعية Sub-groupings في النطاق العربي : مجموعة الدول الخليجية التي يجمعها مجلس التعاون الخليجي GCC ، ومجموعة الدول المغاربية التي يجمعها اتحاد المغرب العربي ، وفي النطاق الافريقي : مجموعة دول غرب افريقيا ECAWAS ومجموعة الجنوب الافريقي SA-DAC ، وفي الاطاراللاتيني مجموعة الميكروسول Micro sole وهي المجموعات الفرعية التي تعمل بجوار المنظمات الاقليمية الأوسع مثل منظمة الوحدة الأفريقية ، وجامعة الدول العربية ، ومنظمة الوحدة الأمريكية.

وعلى مدى الحقبتين الماضيتين ثمة نمو ملحوظ في تطور الدبلوماسية المعاصرة حول قضايا اجتماعية واقتصادية وفنية أو ما أصبح يعرف بالقضايا العالمية Global Issues ، وهي القضايا التي اصبحت عمليا تشكل جدول أعمال الاهتمامات الملحة للمجتمع الدولي وتفرض طبيعتها المتشابكة وآثارها الممتدة التي تتعدى حدود الدول بل والقارات ، ويصبح من الصعب على دولة واحدة مهما كانت إمكانياتها أن تواجهها منفردة ، ولهذا تتطلب جهدا وتنسيقا جماعيا ، ومثل هذه القضايا هي التي انعقدت حولها - تأكيدا للصفة الدولية لها تحت رعاية الأمم المتحدة - مؤتمرات دولية مثل البيئة ، والسكان ، والتنمية الاقتصادية والاجتماعية ، وحقوق الإنسان والمرأة ، الى جانب قضايا عريضة أخرى تنتظر وتتطلب جهدا دوليا جماعيا مثل : الإرهاب الدولي ، والجريمة ، والهجرة ، والأمراض والتلوث والانتشار النووي ... الخ.

وقد فرضت هذه المهام الجديدة على الأجهزة الدبلوماسية أن تعيد تنظيم هياكلها وأولوياتها بحيث أصبحت الإدارات والأقسام التي تعالج هذه القضايا لها الأولوية على غيرها من الإدارات التقليدية التي تعالج القضايا السياسية ، وانسحب هذا على الأفراد الذين يتولون هذه المهام ، واصبح هناك تنافس بين أعضاء الأجهزة الدبلوماسية على العمل والتخصص في هذه الأنشطة الجديدة والتي أصبحت تتطلب ثقافة وتكوينا جديدا ، وأصبح ترتيب حضور هذه المؤتمرات وكذلك احتمال تنظيمها موضوعيا وإداريا وفنيا من أهم ما يشغل وزارات الخارجية والتي تتولى مسئولية هذه المؤتمرات الدولية التي تعقد في بلادها حتى تلك التي تعالج قضايا بعيدة عن القضايا السياسية التقليدية سواء من حيث المشاركة الدولية فيها أو من الناحية التنظيمية ، وإعداد الكوادر الفنية اللازمة : السكرتارية ، الترجمة ومصاحبة الوفود الزائرة.. الخ.

غير أنه مع الأهمية التي أصبحت للدبلوماسية المتعددة Multilateral Diplomacy في مثل هذه القضايا العالمية وتأثيرها المتزايد على فرص استقرار السلام والأمن الدوليين ، إلا أن الدبلوماسية المتعددة اصبحت تمارس الآن بشكل متزايد في مجال هام آخر وهو العمل على تحقيق حلول للصراعات conflict Resolution خاصة بعد أن تعقدت مثل هذه الصراعات وتعمقت بدخول عوامل عرقية ودينية ، وبعد أن بات من الصعب على دولة واحدة ، حتى وإن كانت قوة كبرى ، أن تحقق بمفردها حلولا لمثل هذه الصراعات.

غير أن الخبرة قد أظهرت أن فعالية الدبلوماسية المتعددة في تحقيق حلول لهذه الصراعات يرد عليها قيود عديدة ، كما سوف تظل عاجزة طالما أصرت أطراف النزاع على إدارته بالوسائل العسكرية ، ولا تبدأ الدبلوماسية المتعددة في ممارسة دور فعال إلا بعد أن تستنفد أطراف الصراع جهودها العسكرية وتصل المواجهة بينهم الى مرحلة الجمود Deadlock كما أظهرت خبرات الصراعات في الشرق الأوسط في كمبوديا وأنجولا وأخيرا في البلقان.

ولعل أهم ما أصبح يميز البيئة الدبلوماسية الجديدة هو تأثرها بوسائل الاعلام والعلانية التي تفرضها عليها. ويسجل مؤرخو الدبلوماسية بدء تصدع نظام الدبلوماسية القديمة بتراجع طابع التكتم والسرية والخصوصية التي كانت تتميز بها العملية الدبلوماسية وخاصة في أهم جوانبها وهي المفاوضات.

وثمة أمثلة حديثة تظهر تأثير وسائل الاعلام على الاتصالات الدبلوماسية وخاصة خلال الأحداث الدقيقة ، وقد بدأ هذا واضحاً خلال أزمة الرهائن الأمريكيين في إيران ، وحيث كانت الاتصالات حولها والجانب الأمريكي يقبع تحت ضغط إثارة وسائل الإعلام ومتابعتها للأزمة لحظة بلحظة ، كما بدأ ذلك أيضا خلال أزمة الخليج التي كانت فيها وسائل الإعلام طرفا أساسيا ومؤثرا في اتجاه الأزمة وتناولها. وخلال عملية التفاوض وجلساتها يعمل المتفاوضون وفي أذهانهم ماذا سيقولونه لأجهزة الإعلام ومراسليها الذي يتربصون بهم ويلاحقونهم بعد انتهاء كل جلسة ويعلم كل جانب أنه وهو يخاطب أجهزة الإعلام عن مجرى المفاوضات وما حققته من نجاح أو فشل ، إنما يخاطب الرأي العام في بلاده بكل اتجاهاته مواقفه من موضوع المفاوضات. ولعل إدراك تأثير ذلك على عملية التفاوض وإمكانات نجاحها هو الذي يدفع الى ترتيب إجراء المفاوضات ، خاصة حول القضايا المعقدة والشائكة ، في معزل تام عن عيون أجهزة الإعلام وهو ما رأيناه في مفاوضات كامب ديفيد حول قضية الشرق الأوسط ، وكذلك حول جو العزلة والسرية المطلقة التي احاطت بالتفاوض بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية للتوصل الى اتفاق اعلان المبادئ واختيارهم بلدا في أقصى الشمال وهي النرويج لعقد هذه المفاوضات ، كما تم ترتيب نفس أجواء العزلة للمفاوضات التي عقدت في ولاية دايتون بولاية أوهايو الامريكية بين الاطراف المتنازعة حول البوسنة والهرسك.

على أية حال ، إذا كان التظلم الدبلوماسي يعيش الآن عصر الدبلوماسية الحديثة بمكوناتها وخصائصها التي أسلفناها ، إلا أن علينا أن ندرك أنه من المنظور النظري والعلمي فإن الدبلوماسية كأي مؤسسة بشرية في عملية ديناميكية تتعرض لتغييرات الزمن وما يأتي به من قوى ومؤثرات جديدة ، لذلك نجد ان كل عصر يمر بتجديد جوهري في أساليبه وصيغه الدبلوماسية ، الأمر الذي يتوقع معه بعض مؤرخي الدبلوماسية أن صيغة اليوم من الدبلوماسية التي نصفها بأنها جديدة يمكن أن تختلف عن تلك التي سنجدها في المستقبل ، وهو الاتجاه الذي بدأ فعلا حيث شرعت وزارات خارجية ، خاصة الدول الكبرى ، في التخطيط لاعادة بناء هياكلها ونظمها واساليب العمل فيها وإعادة تدريب وإعداد دبلوماسييها لكي تواجه متطلبات القرن الجديد بأوضاعه وأدواته وعلاقاته المتغيرة.

*كاتب الإريتري

وكل ذلك بحسب الكاتب في المصدر نصاً ودون تعليق .

المصدر : http://www.mafhoum.com