أفريقيا وتحديات الألفية الثالثة

 

 

مع بداية الألفية الثالثة، فان ما يواجه بلدان القارة الأفريقية لا يتوقف فقط على تطور وضع القارة نفسها، بل يرتبط بشدة بعلاقاتها الخارجية. وقد جذبت هذه القضايا انتباه كثير من الدول الأفريقية واهتماماً خاصاً من المجتمع الدولي أيضا، فبعد انتهاء الحرب الباردة، أصبح وضع أفريقيا يعطي انطباعاً بالصراعات الدائمة والتغيرات المستمرة. وبفقدان مساحة المناورة التى كانت أفريقيا تمتلكها أثناء المنافسة بين القوتين العظميين فى الماضى، تدهورت مكانة أفريقيا في المجتمع الدولى تدهوراً ذا دلالة.

وتعتبر أفريقيا أفقر قارة فى العالم، وتعتبر أيضا منطقة محفوفة بمعظم الحروب والاضطرابات. ونتيجة لذلك فقد تغلبت النظرة المتشائمة على النظرة المتفائلة لفترة طويلة من الزمن. ومن خلال الجهود الشاقة للدول الأفريقية فى السنوات القليلة الماضية، فإن الوضع العام فى هذه المنطقة يتحرك نحو منعطف الفرص التاريخية الأحسن والأعظم التى تولد فى أفريقيا.

والموقف السياسى فى أفريقيا عموماً يتجه الى الاسترخاء، وإدراك أهمية الوحدة لتجديد قواها وتسوية الصراعات الإقليمية بالاعتماد على القوة الجماعية التى من الواضح أنها دعمت وقويت، وقد بذلت جهوداً أكبر للوصول لهذا الهدف. ويتجه الموقف السياسى إلى الاستقرار، وهو أكثر استقراراً فى أطراف القارة الشمالية والجنوبية عنه فى غرب ووسط وشرق أفريقيا.

وخلال السنوات القليلة الماضية، استمر وقوع الصراعات المحلية واحدة تلو الأخرى، لكن أفريقيا استطاعت أن تتخلص من ظلال الاضطرابات التى سببها نظام تعدد الأحزاب الذى كان موجوداً أثناء الحرب الباردة.

لقد أدركت جميع بلدان أفريقيا من تجاربها المريرة أنه عندما لا توجد بيئة مستقرة سياسياً واجتماعياً فإن إحداث التنمية فى أفريقيا يكون مجرد كلام. ولذلك، فان الكفاح للحصول على السلام وتحقيق التنمية قد أصبح الإدراك العام لمعظم الدول الأفريقية. وما تحتاجه أفريقيا بشدة هو السلام والاستقرار اللذان هما شرطان جوهريان لا بد من توافرهما لتجديد قوة أفريقيا وتنميتها فى الألفية الجديدة، وانه بدون بيئة سليمة فإنه لن يوجد أي تنمية، وسيبلغ المد الدائم للعولمة الاقتصادية أفريقيا.

وقد بذلت البلدان الأفريقية جهوداً حثيثة فى السنوات القليلة الماضية لاستقرار الوضع وقد أعطوا اهتماما خاصاً للجوء لاستخدام القوة المشتركة، وإعداد آلية إقليمية بمساعدة المنظمات الإقليمية، وسعوا الى حل الصراعات الداخلية بجهودهم. وحققت مساعيهم عدة نتائج عملية، فبعض التوترات الداخلية قد خفت حدتها نوعاً ما، وفترت بعض النقاط الساخنة، أو تم التحكم فيها. ومن خلال جهود الوساطة لمنظمة الوحدة الأفريقية، والمنظمات الإقليمية، وأيضا المجتمع الدولى، وقعت اتفاقات السلام واحدة تلو الأخرى من قبل البلدان الساخنة، التى تشمل الكونغو كينشاسا، سيراليون، والكونغو برازافيل. وبدءاً من مايو 2000 حدثت أزمة الرهائن فى سيراليون، واندلعت الحرب بين أثيوبيا وإريتريا، ولكن بفضل المساعي الفاعلة لمنظمة الوحدة الأفريقية والبلدان المعنية فقد تم حل أزمة الرهائن بعد وقوعها بعشرين يوماً ووقعت أثيوبيا وإريتريا اتفاقية لوقف إطلاق النار.

والى جانب ذلك، فقد حققت خمس عشرة دولة متضمنة دولاً كبرى مثل جنوب أفريقيا، الجزائر، ناميبيا، نيجيريا تغييراً فى نظام الحكم من خلال انتخابات سليمة. وعقدت السنغال انتخابات عامة وسلم عبده ضيوف السلطة بهدوء بعد هزيمته فى الانتخابات.

ومن خلال هذه الأمثلة يلاحظ أنه بالرغم من أن الصراعات بعيدة عن الاستئصال من أفريقيا، فإن الدول الأفريقية قد وطدت العزم على حل الصراعات عن طريق الجهود المركزة، ونجحت بالتدريج فى إيجاد وسيلة عملية لحل الأزمات بالاعتماد على الجهود الجماعية، وبدأت بعض الدول الأفريقية فى تأسيس نظام ديمقراطي ذي طابع أفريقي فى بلادهم، كل على حدة، وبالتالى زاد الوعي الشعبي للمشاركة فى الشؤون الحكومية والسياسية. وجدير بالذكر أنه فى قمة يوليو 1999 قررت منظمة الوحدة الأفريقية أن كل الدول الأعضاء لا تعترف بالزعماء الذين يتولون السلطة بانقلابات عسكرية، وأن تلك الدول التى لا زالت ترزح تحت الاضطرابات والحروب حتى عام 2000 لا يسمح لها بحضور قمة منظمة الوحدة الأفريقية. وهذا القرار يبرهن تماماً على أن الدول الأفريقية تعمل لتقوية الاستقرار بأسلوب واقعي. وقد غيرت تلك الدول موقفها تجاه الصراعات فى جميع البلاد من الوقوف مكتوفي الأيدى غير مبالين، ومد العون معنويا فقط، الى الاشتراك الفعلي. وقد شكلت هذه الإجراءات والأفعال، الى حد ما، ضغطاً على كلا الطرفين المتضادين فى الاضطرابات والحروب، مع تحديد مدى ومدة الصراعات الراهنة.

ويلاحظ ازدياد معدل النمو الاقتصادى، وبالتالى تحسن معدل الزيادة السكانية والبناء الاقتصادى. ومنذ عام 1995 الى 1998 فإن معدل دخل الفرد فى 45 دولة أفريقية جنوب الصحراء الكبرى قد زاد بمعدل 1%.

ويلاحظ أيضاً استمرار تكثيف التكامل الاقتصادى، حيث عجلت أفريقيا فى السنوات القليلة الماضية خطوات التكامل الاقتصادى الإقليمي. وفي القمة الخامسة والثلاثين واجتماع القمة الخاصة فى سبتمبر 1999 دارت مناقشات خاصة بقضية تأسيس الجماعة الاقتصادية الأفريقية، وتقرر بذل الجهود لتأسيس البرلمان الأفريقي عام 2000، وتأسيس الوحدة الأفريقية عام 2001 وسرعة مراجعة ميثاق منظمة الوحدة الأفريقية. وقد قامت القمم الأفريقية المتتالية بعمل ترتيبات قانونية للتحضير لتكوين الشراكة الأفريقية.

إن لجنة التنمية لجنوب أفريقيا وصلت إلى قرار لتفعيل برنامج منطقة التجارة الحرة وقررت تنفيذها. وقررت الجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا فتح منطقة عملة ثانية خارج نطاق منطقة الفرنك الفرنسي فى غرب أفريقيا من أجل عمل تحضيرات متقدمة لبدء التعامل بالعملة الموحدة فى منطقة غرب أفريقيا فى عام 2004.

وقد أعلنت السوق المشتركة لجنوب شرق أفريقيا، والجماعة الاقتصادية والنقدية لوسط أفريقيا عن إجراءات محددة فى مجالات، مثل التعرفة الجمركية والاستثمار.

والبلدان الأوروبية تقوم بعمل توفيق لسياستها تجاه أفريقيا، والمجتمع الدولى يقوى اهتمامه بأفريقيا. ومع ظهور التغيرات الحديثة فى وضع أفريقيا، قامت البلدان الغربية، واحدة تلو الأخرى، بتعديل سياستها تجاه أفريقيا فى السنوات القريبة الماضية، معلقة اهتماماً أكبر بالإقليم وقد اشتد إقبالها نحو أفريقيا وقناعتها بها.

فى مارس 1998 وخلال زيارته لست دول أفريقية عرض الرئيس الأمريكي السابق كلينتون تأسيس شراكة بين أمريكا وأفريقيا، ووضع سياسة ذات أربع نقاط محددة تجاه أفريقيا، وهي: مساعدة أمريكا للديمقراطية في أفريقيا، زيادة حجم التجارة والاستثمار مع أفريقيا، منع الصراعات المسلحة، وحفظ المصادر الطبيعية فى أفريقيا، والاستمرار فى التنمية. ولقد قامت أمريكا بتعليق أهمية على أفريقيا من خلال الدعوة الى "الاجتماع الوزاري للشراكة بين أمريكا وأفريقيا فى القرن الواحد والعشرين"، وسوف تتمتع الدول الأفريقية بحد معين من تخفيض الضرائب، والسماح بتصدير منتجات، مثل الملبوسات، الى الولايات المتحدة فى المستقبل.

وحتى عام 1998 دعت اليابان إلى عقد مؤتمرين دوليين بخصوص أفريقيا فى طوكيو. فقد أصبحت أفريقيا ثاني أكبر منطقة تساعدها اليابان مباشرة بعد آسيا. وتعتبر اليابان ثالث أكبر دولة فى منظمة التعاون الاقتصادى والتنمية (بعد فرنسا و ألمانيا) التى تمد يد المساعدة لأفريقيا.

وتقليدياً وقعت أفريقيا بين أقطاب النفوذ للعديد من دول الاتحاد الأوربي. ولمواجهة تقدم أمريكا الواضح تجاه أفريقيا، فقد أسرعت تلك البلدان بإقامة علاقات مع بلدان أخرى، وفى نفس الوقت قوت العلاقات مع البلدان التقليدية. وعن عمد نسقت فرنسا وإيطاليا، المنافسان السابقان فى أفريقيا، سياستيهما الأفريقية. وفى يوليو 1999 قام وزيرا خارجية البلدين بزيارة مشتركة لأفريقيا ورعيا مؤتمر المبعوثين الدبلوماسيين لأفريقيا. وفى الاجتماع الأولى بين أوروبا وأفريقيا فى أبريل 2000، أسس الاتحاد الأوروبي شراكة كاملة مع أفريقيا. وأكثر من ذلك فقد وقع الاتحاد الأوروبي فى يونيو 2000 على مؤتمر "Lome" الجديد، المسمى "بلوم الخامس"، مع إحدى وسبعين دولة أفريقية، ودول المحيط الهادي ودول الكاريبى. وبمقتضى هذا المؤتمر، فإن الاتحاد الأوروبي سيطور بالتدريج نظام معاملة الدين التجارى من طرف واحد والممنوح لبلدان أفريقيا، والكاريبى، والمحيط الهادى ليحل محله منطقة التجارة الحرة بالتدريج وإصلاح طريقة تقديم المساعدة.

وعلاوة على ذلك، كثفت الأمم المتحدة والمجتمع الدولى الاهتمام بالحروب والصراعات فى أفريقيا، وبذلوا جهوداً ضخمة للتعامل معهم، وقرر مجلس الأمن إرسال قوة من الأمم المتحدة لحفظ السلام الى الكونغو كينشاسا، كما أجرى المناقشات، وأصدر القرارات بخصوص قضايا، مثل الأزمة فى زيمبابوي وسيراليون، والصراع الدائر بين روندا وأوغندا فى الكونغو كينشاسا. وقد أرسلت أمريكا والاتحاد الأوروبى مراراً مبعوثين غير عاديين للتوسط فى الصراعات، وحتى بريطانيا، لأول مرة، أرسلت قوات للمشاركة فى حماية عاصمة سيراليون، وهذا يعتبر عملاً فريداً بعد انتهاء الحرب الباردة.

وقد أظهر البنك الدولي، والأمم المتحدة، والمجتمع الدولي عموماً اهتماماً أكبر من ذي قبل وبذلوا جهودا عملية لمساعدة أفريقيا في تقليل حدة الفقر، والتغلب على انتشار الأمراض والكوارث الطبيعية وعبء الديون الثقيلة.

أخطر التحديات

وتظل الاضطرابات السياسية وتهميش الاقتصاد، التحديات الرئيسية التي تواجه أفريقيا. وإذا كان من الممكن القول إن الموقف العام في أفريقيا قد تحرك نحو التحسن في السنوات القريبة الماضية، فإنه، في نفس الوقت، لابد من عدم إنكار أن وضع أفريقيا كان دائما يتصف بوجود التحديات والفرص السانحة جنباً الى جنب. وبالمقارنة الرأسية فقد شهدت أفريقيا تغيرات إيجابية، ولكن بالمقارنة الأفقية، خاصة عندما تقارن مع أقاليم أخرى في العالم، فإن التحديات التي تواجه أفريقيا قاسية جدا.

ويظل الوضع السياسي المضطرب، الهش والمتغير، العدو الهائل لأفريقيا. ويمكن تلخيص مظاهر الوضع السياسى في أفريقيا في حروب محلية وعدم استقرار، آخذة في الصعود واحدة بعد الأخرى، مسببة موجة تلو الأخرى من التطور، وقد أصبح من الصعب علاجها في بعض المناطق الساخنة. واصبح من الممكن تقويض الوضع المستقر في أى وقت. ومن وقت ليس ببعيد، اندلعت بعض الصراعات بالتوالى في أفريقيا، صدمت العالم كله، شاحذة تصعيداً فجائيا في الاضطرابات المحلية في أفريقيا.

ومنذ فبراير 2000 شن المحاربون القدماء السود لحرب الاستقلال في زيمبابوي حملات للاستيلاء بالقوة على مزارع يمتلكها المزارعون البيض شملت البلاد كلها، مؤدية الى اضطرابات محلية وصراعات عرقية، أدت بدورها الى هروب أعداد كبيرة من البيض الى خارج البلاد. وقد عبر الرئيس موجابي عن تأييده الواضح للحركة، وراجع البرلمان أيضا قانوناً يسمح للحكومة بالاستيلاء على أراضي البيض، وهذا بدوره قوى الخلافات بين زيمبابوي والبلدان الغربية ومن ضمنها بريطانيا الحاكمة المطلقة السابقة. وعلاوة على ذلك، ولأن التناقضات الاجتماعية والعنصرية مازالت موجودة في زيمبابوى، فإن المناخ للاستثمار الأجنبي قد تدهور. وما زالت الأزمة الاقتصادية تتصاعد ولا يمكن إغفال فرصة أن يصبح الوضع فى زيمبابوي حاداً مرة أخرى.

وفى سيراليون، وصلت الحكومة إلى اتفاق وقف إطلاق النار مع القوات المعادية للحكومة المسماة "بالجبهة المتحدة" من خلال المساعي الحميدة لبلدان غرب أفريقيا ومنظمة الوحدة الأفريقية. وقد استقر الوضع لفترة، لكن "الجبهة المتحدة" غير سعيدة بتسليم الأسلحة واستلام الإقليم الذى كان تحت سيطرتهم، لذا أغارت فى بداية مايو 2000 على موظفي حفظ السلام واعتقلت أكثر من 500 شخص كرهائن وذلك بانتهاز فرصة تغيير مهام قوات حفظ السلام للأمم المتحدة مع قوات حفظ السلام لغرب أفريقيا. وتبعا لذلك، اندلع الصراع الداخلي مرة أخرى. ويمكن القول إن اختطاف مثل هذا العدد من موظفي حفظ السلام فى أزمة الرهائن فى بلد صغير مثل سيراليون ذات الأربعة ملايين نسمة، هو شيء نادرة رؤيته فى تاريخ الأمم المتحدة.

واندلع قتال شرس على طول الحدود بين أثيوبيا وإريتيريا فى مايو 2000 بعد استمرار هدوء الموقف لمدة عام. ولأن الهجوم من الجانب الأثيوبي كان سريعاً وشرساً، فقد تعرضت العاصمة الأريترية للخطر مرة أخرى. وقد وافق الجانبان على اتفاق لوقف إطلاق النار. وبالإضافة الى ذلك كله، فقد دخلت أوغندا ورواندا، الحليفتان، فى قتال شرس فى شهرى مايو ويونيو 2000 فى الكونغو كينشاسا. وبينما لم تنته الحرب الأهلية فى أنجولا، فقد اندلع القتال للانتقام بين القبائل فى الصومال.

أسباب الصراعات الأفريقية

وتختلف أسباب الصراعات فى بعض المناطق الساخنة فى أفريقيا عن بعضها الآخر. ومن ضمن هذه الأسباب التناقضات بين القبائل والنزاع على المصالح الاقتصادية، متضمنة المصادر الطبيعية التى تعتبر أكثر الأسباب حساسية و استمراراً.

أما بخصوص التناقضات القبلية، فإن بناء كل دولة يتكون من عدة قبائل بسبب ما خلفه حكم الاستعمار الغربي. والحقيقة أن معظم البلدان الأفريقية فى مرحلة تكوين أمم حديثة، والمصالح والنزعة القبلية تمارسان ضغطاً عظيماً على الحياة السياسية للبلد. وفى أعقاب انتهاء المنافسة بين القوتين العظميين بعد الحرب الباردة، ومع يقظة مد نظام تعدد الأحزاب، فإن الصراعات بين القبائل طغت على السطح.

وقد انعكست النزعة والصراعات القبلية فى داخل البرلمانات، والقوات المسلحة، وحتى فى كل مجالات الحياة السياسية، مع شيوع السياسة القبلية فى بعض البلدان، وتبعاً لذلك، فإن أي مشكلة، مثل التوزيع غير العادل للمصالح الاقتصادية والاجتماعية والحقوق السياسية، من المحتمل أن تقود الى صراعات عنيفة، وانقلابات عسكرية، وحتى إلى حروب محلية. والحروب الأهلية فى رواندا، وبوروندى عام 1994، والحرب والفوضى فى الكونغو كينشاسا، تعتبر نموذجاً أو مثالاً لهذا النوع من الحروب.

والنزاع على المصالح الاقتصادية، كالنزاع على المصادر الطبيعية والمعادن والأرض، أصبح سبباً مهماً للصراعات خلال السنوات القليلة الماضية. فالألماس فى سيراليون، والذهب والألماس والمعادن الأخرى، وحتى أرض الكونغو أيضا، وألماس أنجولا أصبحت هدفاً تتنافس للحصول عليه كل الطوائف بشدة. وإذا كانت حروب التفويض التى أطلقتها القوتان العظميان فى أفريقيا أثناء فترة الحرب الباردة يمكن أن يقال عنها إنها تتلون بالأيديولوجية، فإن الصراعات الحديثة قد حرضتها المصالح الاقتصادية.

إن القوات المسلحة المضادة للحكومة فى سيراليون، والكونغو كينشاسا وأنجولا قد استخلصوا المعادن من الأراضي الغنية التي احتلوها، وباعوا تلك المعادن ليحصلوا على الأموال اللازمة لشراء غير قانوني للأسلحة، بغية تمكنهم من تثبيت أقدامهم فى بلادهم المعنية والاستمرار فى حروبهم. وقد استغلت بعض الشركات الغربية متعددة الجنسيات الاضطرابات، وحققت مكاسب ضخمة من تلك الحروب، جعلت بدورها وضع حد لتلك الحروب العاصفة أمراً شاقاً وصعباً.

ومازال التهميش فى ظل عولمة الاقتصاد هو التحدي الأعظم الذى يواجه أفريقيا. وبالرغم من أن اقتصاد أفريقيا قد حقق تقدماً خلال السنوات الماضية، ولكن تحت ظروف التقدم السريع لعولمة الاقتصاد، فإن الفجوة بين أفريقيا والدول المتقدمة، وحتى مع بعض البلدان النامية، مازالت تزيد.

ومع اعتبار أفريقيا أفقر قارة فى العالم، فإن عدد السكان الذين يرزحون تحت الفقر المدقع ويحصلون على أقل من دولار أمريكي فى اليوم لمصاريف معيشة، يمثل نصف سكان أفريقيا تقريباً. ومن بين ثمان وأربعين دولة من أفقر دول العالم تشغل أفريقيا ثلاثة وثلاثين، وتأتى عشر دول أفريقية فى المؤخرة. إن نسبة حجم التجارة الأفريقية فى التجارة العالمية انخفضت من 1.3% فى حقبة الستينيات الى 2% حاليا.

وبالرغم من أن الاقتصاد الأفريقي قد نما فى السنوات المتتالية القريبة، إلا أن ما يقلق هو أن نسبة السكان الذين يعانون من الفقر ما زالت فى ارتفاع. ومن أسباب ذلك، التوزيع غير العادل، ووجود ظاهرة الفساد فى بعض الأماكن، كما أن النمو الاقتصادي لم يستفد منه الفقراء، خاصة وأن الصراعات المتتالية قد أدخلت تلك البلدان فى الدائرة الخبيثة للفقر، فكلما زادت الاضطرابات ازداد اضطراب الأفقر .

وقد مزقت الحروب بلداناً مثل سيراليون، وأثيوبيا وإرتريا، التي تندرج ضمن آخر خمس أفقر دول .

وأعباء الديون الثقيلة تعوق بشدة خطى التنمية ولقد ارتفع المقدار الكلى للديون من 109.2 بلايين دولار أمريكي في عام 1980 الى 350 بليون دولار أمريكي عام 1999 .

وتوصلت الدول الغربية الغنية الثماني الى قرار بتخفيض سبعين مليون دولار أمريكي من ديون الدول الأكثر فقراً، التي ترزح تحت عبء الديون الثقيلة، لكن حتى الآن فإن نسبة تخفيض الديون للمؤسسات متعددة الأطراف هي التي تم حلها فقط، والتي من المنتظر أن لا توافق عليها الدول الأعضاء. وبخصوص تخفيض الديون الثنائية، فإن الدول الغربية تفرض شروطاً قاسية من ضمنها حقوق الإنسان، ونظام حكم جيد . ونقص خطير في الاستثمار، ومن ضمن أسباب ذلك أن الدول الغربية قد قطعت مساعداتها لأفريقيا، فمنذ عام 1992 خفضت سبع دول أوربية غربية مساعداتها لأفريقيا إلى 20%، ففرنسا، الدولة العضو في مجموعة الدول الصناعية السبع، التي تمنح أفريقيا أكبر قدر من المساعدات، خفضت مساعداتها للتنمية الى 32% منذ 1994.

وتأثر الاقتصاد الموحد بتذبذب الأسعار في السوق العالمية: فبعد أربعين عاماً من التنمية منذ استقلالها إلى الآن، فإن 50% من الدخل العام لأربع عشرة دولة في أفريقيا مازال يعتمد على تصدير سلعة زراعية أو معدنية واحدة، وتقريبا 20 دولة تعتمد على تصدير منتجَيْن، أو ثلاثة منتجات أولية. وقد انخفضت أسعار منتجات أولية كثيرة في السنوات القليلة الماضية، مؤثرة على الإيرادات العامة لتلك الدول. فمثلا، انخفض سعر الذهب الى أقل أسعاره في العشرين عاماً الماضية، وقد عانت كل من جنوب أفريقيا وغانا من خسائر فادحة.

ويعتبر تحرير التجارة والمال المعلم الرئيسى للعولمة الاقتصادية، وثورة المعلومات هى القوة الدافعة لتلك العولمة، ولأن البيئة الملائمة للتجارة والاستثمار ليست صالحة تماماً، فإن مقدار رأس المال الأجنبي المستثمر في أفريقيا أقل بكثير عن دول نامية أخرى، وتلك البلدان الغنية بالمصادر الطبيعية، المستقرة سياسياً وبها تنمية اقتصادية مباشرة تستمتع بإمكانات جيدة لاستيعاب الاستثمارات الأجنبية، وثورة المعلومات حققت تقدماً مبدئياً في أفريقيا، لكنه تقدم محدود. وفي أفريقيا، التي تضم 1-12 من سكان العالم، فإن معدل امتلاك أجهزة هاتف يصل فقط الى 2% من نسبة امتلاكها على مستوى العالم. وبينما يعيش 88% من مستخدمى الإنترنت في الدول المتقدمة، فإن نسبة المستخدمين لهذه الشبكة في أفريقيا لا يصل الى 1%، ويتركز 90% منهم في دولة واحدة فقط، هي جنوب أفريقيا. وتعاني أفريقيا من نقص شديد في تصنيع أدوات وبرامج الكمبيوتر محلياً. كما أن صناعة وسائل الاتصال السلكية واللاسلكية متخلفة جداً. وتؤثر كل هذه الأسباب على تنمية صناعة المعلومات، وبهذا توسعت الهوة بين أفريقيا والأمم المتقدمة في مجال التنمية.

وفضلا عن ذلك، فإن عدد المصابين بالإيدز في أفريقيا يصل الى 63% من نسبة المصابين به في العالم كله. وهذا المرض لم يود فقط بحياة أعداد كبيرة من الأفريقيين مسبباً فقدان العديد من الدول للقوى العاملة، لكنه أيضاً كارثة اجتماعية خطيرة.

وتعد الكوارث الطبيعية، مثل الفيضان، الجفاف، تصحر الأرض، والتخريب الذي يقوم به الإنسان للمصادر الطبيعية، من العوائق الرئيسية التي تؤثر على التنمية في أفريقيا.

المكانة الدولية لأفريقيا

خلال فترة الحرب الباردة كانت أفريقيا طرفاً في التنافس بين القوتين العظميين، الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. وقد تغلغل الجانبان داخل أفريقيا عن طريق تبني التفويضات أو استخدام حروب التفويض. والبلاد الأفريقية كانت أيضا فقيرة ومتخلفة جداً أثناء فترة الحرب الباردة، ولكن أثناء التنافس بين القوتين العظميين امتلكت أفريقيا مكانة نادرة للمناورة الدبلوماسية، وأعقب تفكك الاتحاد السوفيتي نهاية الصراع بين القوتين العظميين في أفريقيا، وتضاءلت مكانة أفريقيا الدولية.

وفي أعقاب مد الديمقراطية مع بداية التسعينات، شهدت أفريقيا اضطرابات وحروباً متكررة، عاماً بعد عام. واستمر الاقتصاد في التدهور، وأصبح وضع أفريقيا الاقتصادي داخل الاقتصاد العالمي يقل ويقل. وإضافة الى ذلك، فان التقدم المستمر في مجال التكنولوجيا قلل نسبياً اعتماد الدول الغربية على الطاقة، وأعقب الهزيمة الخطيرة التي عانت منها الولايات المتحدة من جراء تدخلها العسكري في الحرب الأهلية في الصومال عام 1993 ليس فقط صمت الدول الغربية، ومن ضمنها الولايات المتحدة، بل أصبحت هذه الدول أيضا غير مهتمة أكثر وأكثر بالتدخل في الصراعات الداخلية في أفريقيا. ونظراً لكل ذلك، فقد تضاءل وضع أفريقيا الدولي بصورة ملحوظة لدرجة أن أطلق عليها "القارة المنسية".

ومع التطورات في وضع أفريقيا والبيئة الدولية خلال السنوات القليلة الماضية، انبعثت اتجاهات جديدة، وتغيرات في مكانة أفريقيا الدولية تستحق الانتباه. فقد قوي الانتباه العالمي بأفريقيا بعض الشيء، وجذبت التغيرات الإيجابية في وضع أفريقيا انتباهاً جديداً من الغرب، فلقد حقق اقتصاد أفريقيا نمواً مطردا في عدة سنوات متتالية، وتقدم التنظيم الهيكلي للاقتصاد في عدة دول في السنوات القليلة الماضية. والى جانب ذلك، تكشفت آمال جديدة للاستثمار فى القارة الأفريقية، حيث كثف التطور السريع للعولمة مع مرور الأيام النزاع على السوق بين كل البلدان. وتعتبر أفريقيا ذات السبعمائة مليون نسمة آخر أرض عذراء في العالم، وأصبحت محل جذب متزايد للدول الغربية التي تحتاج إلى هدف جديد للاستثمار.

لقد حبا الله القارة الأفريقية بالمصادر الطبيعية الغنية مع التميز ببعض المصادر الإستراتيجية، التي لا تقارن. وهذه الميزة النادرة في المصادر الطبيعية لا تمد أفريقيا فقط بإمكانات هائلة للتنمية الاقتصادية، لكن أيضا تشكل جذباً كبيراً للدول الغربية، ومن ضمنها الولايات المتحدة خلال مسعاها لحفظ وتوسيع وضعها الاستراتيجي في القرن الواحد والعشرين. وفي هذا السياق، فإن أفريقيا تستعيد قوتها لجذب العالم، كما أن مكانتها وتأثيرها يتحسنان أيضا.

ومن جانب آخر، فان النزعة لاستمرار تهميش أفريقيا، والصراعات المستمرة في بعض المناطق فيها، لا تتوافق إطلاقا مع التطور السريع للعولمة الاقتصادية في العالم الحالي. وفي الوقت الذى تتزايد فيه أعداد الدول التي تحشد كل طاقاتها ومواردها المادية لكي تنال مكانة مواتية في المنافسة للقوة الوطنية الشاملة في العالم في المستقبل، نجد بعض البلاد الأفريقية مازالت تشن بلا ضمير حروباً بلا معنى، وعلى حساب أعداد هائلة من أرواح البشر.

إن التناقض العجيب حث المجتمع الدولي والمنظمات الدولية، ومن ضمنها الأمم المتحدة، على تقوية أصواتها وضغوطها لحل الصراعات في أفريقيا. إلى جانب ذلك، وتحت الوضع الحالي، عندما تتقارب اقتصاديات جميع بلاد العالم، ويتعمق التعاون المشترك بين الدول، فإن الاضطرابات في أفريقيا خلال فترة طويلة من الزمن تفرض تهديداً على استقرار العالم، الذى بدوره أجبر الحكومات الغربية على تجديد انتباههم لأفريقيا.

لقد أعقب حرب كوسوفو والأزمة في تيمور الشرقية، أن المجتمع الدولي، متضمناً الغرب، يتأمل في مثل هذه القضايا، مثل التدخل الإنساني، ودور الأمم المتحدة. وقد عبرت الدول الأفريقية ودول نامية أخرى عن عدم رضائها عن الأمم المتحدة لعدم بذل جهود كافية للتدخل في الصراعات في أفريقيا. وقد أوجد كل هذا ظروفاً للمجتمع الدولي لتعليق اهتمام أكبر لأفريقيا.

ولكن ما يستحق الملاحظة هو أن الاهتمام الذي يبديه الغرب له حدود كثيرة:

أولا، أن الأمم الغربية، ومن منطلق اعتباراتها الاستراتيجية، تبذل ضغوطاً سياسية على أفريقيا لتطبق النظام الديمقراطي الغربي، وتربط مساعداتها بذلك لكي تدخل أفريقيا مجال نفوذها، وتجعل أفريقيا أكثر اعتماداً على الغرب سياسياً.

ثانيا، وبما أن الغرب في الوقت الحالي يركز على الفوائد الاقتصادية وإمكانات السوق في أفريقيا، فهو يظهر اهتماماً كبيراً بتلك الأقاليم والبلدان التي تملك مصادر طبيعية وإمكانات السوق، أي التي تصنع أرباحاً. فالدول الغربية لا تعير انتباهاً لتلك البلاد الفقيرة والصغيرة، التي يوجد بها اضطرابات وحروب مستمرة، أي التي لا يرجى منها ربح. وهذا أيضا يجعل التنمية غير متوازنة بالفعل.

ثالثاً، أن البلدان الغربية، ومن ضمنها الولايات المتحدة، تمتنع بشدة عن التورط العسكري المباشر وعن إرسال قوات للصراعات في أفريقيا، حتى تتحاشى التورط في الشؤون الداخلية لأفريقيا وتحمل العبء. وقد مارس هذا تأثيراً سلبياً في الحفاظ على السلام الدولي والاستقرار المبكر للصراعات المحلية.

ونتيجة لأن السياسة الأفريقية للغرب تحمل أنانية ومذهباً عملياً واضحاً، فإن أفريقيا مازالت في المركز الثاني في الإستراتيجية الدولية للدول الأوروبية، فهى مجرد جانب فقط في اهتماماتها. لذلك، فإن تدهور وضع أفريقيا الدولي منذ الحرب الباردة لا يمكن تغييره بصورة جوهرية.

الخروج من الوضع الحالى

إن المطمح العام للدول الأفريقية هو وقف التهميش في مد العولمة الاقتصادية، وتغيير الظروف غير الملائمة كونها مهملة في السياسات الدولية. ولهذا الغرض، تبذل الدول الأفريقية جهوداً دبلوماسية أكثر في المناسبات الدولية، لتظهر دورها الدولي، وفي نفس الوقت تقوي الوحدة الداخلية للسير في طريق التنمية المتكاملة، وإعادة القوة، واتخاذ إجراءات اقتصادية، مثل السرعة في تأسيس الوحدة الاقتصادية الأفريقية، ومد التكامل الإقليمي.

وقد أظهرت الدبلوماسية الأفريقية معلمين أساسيين في العامين الماضيين:

- أن الدول الأفريقية - التي تحتل ربع مقاعد الأمم المتحدة - قوة عالمية لا يستهان بها. ولكن كدول فرادى، فهى صغيرة ذات قوة قليلة، ودورها الدولى محدود.

- تطبيق الدبلوماسية الاقتصادية على مدى واسع واستغلال كل فرصة ومناسبة، ومناشدة المجتمع الدولي لمساعدة أفريقيا في التغلب على الصعوبات.

الخلاصة

وبفحص مستقبل أفريقيا، نجد أنه في الوضع السياسى سيظل يوجد، لعدة سنوات قادمة، الاتجاه العام نحو الاستقرار، جنباً إلى جنب مع الاضطرابات المحلية. وسوف يحتفظ الاقتصاد الأفريقي ككل بقوته الدافعة للنمو، لكن معدل النمو لن يكون كافياً لتحقيق هدف أفريقيا في التخلص من الفقر. وبناء على ذلك، فان خطر تهميش أفريقيا مازال موجوداً، وستعلق مكانة أفريقيا ودورها، ولكن كأكبر قارة نامية، فمازال لأفريقيا فرصة عظيمة للتنمية، وسوف توقظ اهتماماً أكبر من كل الأطراف في المجتمع الدولى. وإذا عمدت أفريقيا الى استخدام القوة الجماعية بفاعلية، واستغلال تفوقها في مصادرها، وإذا داومت على استكشاف سبيل التنمية، تمشياً مع الظروف الواقعية، فإنها سوف تستطيع أن تعكس الوضع المناسب، وتلعب دوراً أكبر في الحلبة الدولية.

المرجع

lnternational affairs, 15-17/2000

http://haras.naseej.com/Detail.asp?InSectionID=406&InNewsItemID=52578