التحديات التي تواجه  الاعمار في العراق

 

 

د. هادي حسن عليوي

 

 

تـردي الوضــع الأمـني.. ضعف الأداء والإنفاق.. تفشي الفساد

عانت حملة اعادة اعمار العراق في السنوات 2003 ـ 2006 مخاضاً عسيراً،  وعلى الرغم من التخصيصات الهائلة لم يتحقق من هذه الحملة، ماسجلته تقارير المنظمات الدولية والادارات الحكومية سوى نسب ضئيلة جدا

ويرجح المسؤولون والمتخصصون ان هناك مشاكل وتحديات جمة تواجه اعادة اعمار مادمرّ من جهة، ودفع عملية الاعمار الجديد من جهة اخرى..

لقد انتظر العراقيون ان تظهر الولايات المتحدة الاميركية وبريطانيا واليابان بشكل خاص قدراتها وامكانياتها غير المحدودة ماليا وتكنولوجيا واقتصاديا في الاعمار، وينفذوا تعهداتهم مع الدول الاخرى المشاركة في مؤتمر مدريد للدول المانحة لمساعدات العراق، مروراً بمؤتمر طوكيو والمؤتمرات اللاحقة بهذا الخصوص، لكن الوضع مازال على ماهو عليه، بل ان بعض العمليات العسكرية للقوات متعددة الجنسية وسعت من عمليات الهدم، خاصة في المواقع الاثارية وفي المناطق الساخنة..

لقد تدنى مستوى الخدمات الاساسية العامة عما كان عليه في المراحل الاولى بعد سقوط النظام السابق الى درجات خطيرة، سواء بالرعاية الصحية او توفير الطاقة الكهربائية ومياه الشرب او في توفير المشتقات النفطية، وفي اعادة اعمار المؤسسات التعليمية، وتفشي الفساد في مؤسسات الدولة بشكل خطير وكارثي..

التحديات

يعزو البعض تباطؤ او توقف عمليات الاعمار الى تردي الوضع الامني فقط، وهي نظرة  قاصرة، فاذا كان الوضع الامني متردياً في عدد من المحافظات ولايسمح باعادة الاعمار، فالسؤال المطروح: ما الذي تم انجازه من عمليات اعمار ضخمة في المناطق الامنة، وكذلك في اقليم كردستان؟!.

ان عمليات الاعمار في العراق تواجه تحديات كبيرة وعديدة، يمكن ان نؤشر ابرزها بما يأتي:

تحديات سياسية

بالرغم من مرور اكثر من ثلاث سنوات ونصف السنة على سقوط النظام السابق فان الولايات المتحدة الاميركية والحكومات العراقية المتعاقبة لم تستطع تحقيق الاستقرار السياسي المطلوب، وتوفير حد ادنى من الانسجام بين الفرقاء السياسيين لتحقيق المصالح العليا للبلد. فالخلاف في الرأي ووجهات النظر المتعددة احد اركان النظام الديمقراطي، وظاهرة صحية للسير في الطريق الصحيح. لكن مايجري في العراق اليوم هو تصعيد غير مبرر، في بعض الاحيان، ولايخدم العملية السياسية والديمقراطية، بل يمكن القول ان مايجري يعرقل ان لم نقل ينكس العملية السياسية، ان الاحتقان الطائفي الذي ساهمت فيه قوى دولية واقليمية ومحلية، وانجرفت اليه قوى اخرى وقطاعات من الشعب مازال يغذى، واول غذائه هو المحاصصة الطائفية في تشكيلات مجالس الرئاسات الثلاث (مجلس رئاسة الجمهورية، مجلس رئاسة البرلمان، مجلس رئاسة الوزراء) لينسحب الى مجلس الوزراء ولجان مجلس النواب والوزارات وكل المناصب الرفيعة والعليا، ما وضع العراق على برميل بارود. ان اعادة تشكيل جذرية في هذه الاوضاع تتطلب خطوة شجاعة وجريئة من القوى السياسية الفعالة التي انتخبها الشعب ومنحها ثقته لادارة البلاد.. وهي الاساس في الاستقرار السياسي وبالتالي البدء بعملية اعمار حقيقية وجادة وسريعة.

تحديات أمنية 

يواجه العراق اليوم اخطر تحد امني، ولم تستطع المتعددة الجنسية برغم ان عددها يتجاوز 140 الف  جندي من مختلف التشكيلات ، وامتلاكها لمختلف الاصناف من السلاح والقوة الجوية السيطرة على الوضع الامني وتحسينه، كما ان القوات العراقية لم تاخذ استقلاليتها وسيادتها الكاملتين كما تشير كل الاخبار والتصريحات، فهي لم تصل لدرجة كافية من التدريب والجاهزية والعدة والعدد، وليس لها القرار المستقل في كل النواحي، وبالتالي مازالت تحت وصاية القيادة العسكرية الاميركية، وعلى الرغم مما تحقق في المدة الاخيرة من منح صلاحيات للقائد العام للقوات المسلحة العراقية، فان كل ذلك منح العمليات المسلحة والارهاب فرصة اوسع للتحرك ما يهدد بزعزعة الوضع الامني وترديه لدرجات خطيرة في بعض المناطق، ان الانفلات الامني والاحتقان الطائفي والتصريحات غير المسؤولة اثرت ومازالت تؤثر في تأجيج الوضع وترديه كل ذلك انعكس بشكل كبير على عمليات اعادة الاعمار، بل الاستمرار في تخريب حتى الموجود خاصة في مجال الكهرباء وانابيب نقل النفط وغيرها من المؤسسات الحيوية والستراتيجية الخدمية. ان توفير الامن يتطلب خطوات جريئة وحازمة يعرفها المسؤولون الامنيون قبل غيرهم، حيث يتطلب توفير الامن القضاء تماما وبخطوات حاسمة وسريعة على كل اشكال الخرق في الاجهزة الامنية اولا وخطوات سياسية للم الشمل وانهاء الاحتقانات واجراء مصالحة حقيقية تبدأ من الكيانات السياسية الفاعلة في العملية السياسية وخارجها وايقاف التداعي السياسي الداخلي، ووضع الشعب امام مسؤولياته بشفافية عالية وطرح مايدور في الكواليس الاقليمية والدولية ضده وتعزيز دور العشائر في حفظ الامن، ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب بعيداً عن الطائفية والمحاصصة..

ان تردي الوضع الامني يؤثر في جهود الاعمار من ناحيتين:

الاولى: تعطيل عمليات تقديم المنح والمساعدات سواء لاغراض الاعمار او المساعدات الانسانية، اذ مازالت الكثير من الدول المانحة تتلكأ في تقديم ماتعهدت به في مؤتمرات الدول المانحة، كذلك تلكؤ تقديم المساعدات الانسانية للعراقيين، حيث تشير اغلب التقارير من منظمات الاغاثة سواء منظمة الصليب الاحمر او ، منظمة اطباء بلا حدود الى ان اسوأ مايواجههم في اداء عملهم هو حالة الفراغ الامني التي تؤثر في عمليات نقل المساعدات للعراقيين، وفي هذا الصدد يشير تقرير الامين العام للامم المتحدة الى ، عرقلة جدية في دعم الامم المتحدة للعراق بسبب الوضع الامني المتردي، فيما يشير تقرير برنامج الغذاء العالمي التابع للامم المتحدة، الذي كان يقوم بتوزيع ما يقارب 27 مليون حصة غذائية شهريا الى انه قد تضرر من عمليات القتل والعنف التي تتم قرب مخيماته في مختلف المناطق الساخنة، ليتعثر هذا البرنامج ويصل مستوى تحركه الى الصفر..

الثانية: تعطيل البدء في مشروعات الاعمار خوفاً من الهجمات المستمرة واعمال العنف التي ينجم عنها عمليات السلب والنهب التي تطال مواقع الاعمار وكذلك اهدار الاموال الطائلة من خلال ماتتعرض له المؤسسات والمنشآت الحكومية من اضرار ودمار بعد اعادة اعمارها.ان الاستقرار الامني هو العنصر الاساسي في توفير المناخ الذي يساعد في البدء بعمليات الاعمار، كما يساعد على توفير المناخ الاستثماري الجاذب للاعمار،  وبغيره لايمكن ان تتم خطوات حقيقية في مجال الاعمار والاستثمار..

تحديات اقتصادية ومالية

مازالت البنية التحتية للاقتصاد العراقي تعاني من انهيار واضح، وذلك نتيجة لما اصابها من ضعف وترهل بسبب الحروب التي خاضها العراق والعقوبات الاقتصادية الدولية منذ اوائل الثمانينيات من القرن الماضي، اضافة الى استمرار الوضع الاقتصادي المنهار، بسبب اعمال النهب والتخريب واستمرار اعمال العنف واستشراء الفساد المالي والاداري وضعف الاداء الحكومي وهروب روؤس الاموال الخاصة الى خارج العراق، وتتجلى التحديات الاقتصادية التي تواجه عمليات اعمار العراق في الحقائق التالية:

انهيار اجمالي الناتج الحقيقي للعراق بصورة كبيرة الى مايقارب 26،1 مليار دولار اميركي عام 2002 مقارنة بـ 53 مليار دولار عام 1980، وهو مايعود بصفة اساسية الى تدهور الصناعة النفطية الى جانب تضرر كبير في الانتاج الزراعي والحيواني، وارتفاع معدل التضخم ليصل عام 2006 الى 70 % وارتفاع معدل الفقر الى 70 %.

كما عانى القطاع المصرفي العراقي من اعمال السلب والنهب التي اعقبت سقوط النظام، ومازالت بعض اعمال التسليب لبعض المصارف جارية حتى الان، وعلى الرغم من صدور عملة نقدية جديدة وانخفاض سعر صرف الدولار الاميركي، وارتفاع قيمة الدينار العراقي، وتحسن رواتب الموظفين والعاملين فان ارتفاع اسعار البضائع والسلع والايجارات والتضخم المستمر في التصاعد امتص كل ذلك التحسن، ولم تعد الاجور والرواتب تكفي لسد معيشة ومستلزمات الحياة الاقتصادية .

مازال ملف ديون العراق الخارجية مفتوحا فعلى الرغم من تخفيض دول نادي باريس 80 % من ديونها مازالت الدول الاخرى متلكئة في اتخاذ اي قرار بشان ذلك ان الواقع الجديد للعراق يتطلب الغاء تاما لكل تلك الديون لبدء صفحة جديدة من العلاقات مع العراق الجديد، ويكون لهذا الالغاء دور في استقرار العراق وتنميته وهو ماينعكس على تعزيز استقرار المنطقة والعالم ويوفر مردودات مالية ضخمة للدول التي ستدخل في بناء العراق وبشكل خاص الدول المناحة والدول الموقعة على وثيقة العهد مع العراق .

مازال العراق يدفع التعويضات التي فرضت عليه جراء الاجتياح العراق للكويت في اب عام 1990 ، وبشكل عام فان تلك التعويضات في حقيقتها عقوبات مالية ومادية واقتصادية وسياسية ضد الدول المعتدية، وضمن هذا الاتجاه فرضت التعويضات التي اقرتها الامم المتحدة على العراق كاضرار للدول والهيئات والافراد ممن تضرروا من ذلك الاجتياح، وقد اكدت كل التقييمات الدولية لتلك التعويضات بانها مبالغ فيها كثيراً وغير عادلة، وعلى الرغم من ان هذه التعويضات كانت جزءاً من الضغط على النظام السابق فان الاستقطاع مازال مستمراً على الرغم من سقوط النظام ودفع العراق اكثر من (22) مليار دولار من تلك التعويضات..

لقد آن الاوان لالغاء تلك التعويضات، اذ انها من المعضلات الكبرى التي ترهق الاقتصاد العراقي وتشكل تحديات جدية في اعادة اعمار العراق، حيث تبلغ تلك التعويضات (350) مليار دولار اميركي في الوقت الذي يدعو فيه العراق المجتمع الدولي الى خطة شاملة لمساعدته في تجاوز ظروفه السياسية والامنية الصعبة التي يمر بها..

ان الاستقرار في العراق وبالتالي في المنطقة يتطلب حث الجهود الدولية في دعم اعادة الاعمار، وفي المقدمة الغاء ديونه الخارجية والتعويضات المفروضة عليه، بل وتقديم المنح السخية له وهذه المنح ليست مساعدات انسانية بل منح استثمارية تعود بالفائدة على الجانبين العراقي والدول المانحة.

مازال القطاع النفطي يعاني من تدهور كبير وصل الى حد استيراد البنزين وزيت الغاز والغاز والنفط الابيض، ويحتاج هذا القطاع الى اكثر من عشرين مليار دولار لاعادة تأهيله وبناء مادمرته الحرب لاستعادة عافيته، واوضحت تقارير الشفافية الثلاثة التي صدرت عن مكتب المفتش العام في وزارة النفط العراقية مايشوب هذا القطاع من معوقات وقصور وفساد  وتهريب وغير ذلك من مشاكل..

ان هذه التقارير تشير الى مليارات الدولارات الاميركية التي يخسرها العراق دون ان يجري اي عمل لايقاف هذه الخسائر التي تساوي ميزانيات بلدان عديدة نامية، وقد سجل التقرير الثالث منها وجود ستة اسباب رئيسية لتدني مستويات تصدير النفط الخام والغاز، وهي:

*  تدني مستويات الاستخراج، وانعدام المرونة المطلوبة للتصدير، وتعرض الانابيب الناقلة للنفط  والابار  النفطية لاعمال التخريب، وعدم استفادة العراق من الحقول الحدودية واستغلالها من جانب دول الجوار، الى جانب الفترات الانتقالية والتغييرات المستمرة في قيادة القطاع النفطي.

بالمقابل فقد حددت وزارة النفط العراقية خطتها الحالية في زيادة الانتاج والتصدير للنفط الخام لحاجة البلد الماسة الى موارد مالية للاعمار والبناء والنهوض الاقتصادي، ويستطيع العراق بامكاناته النفطية، اذا ما استثمرت بشكل امثل دفع عجلة الاعمار سريعا لاسيما ان الوزارة تعمل لرفع الطاقة الانتاجية للسنوات المقبلة وصولاً الى اربعة ملايين برميل يوميا عام 2010 لكن الاحتياطات النفطية الكبيرة في العراق، بالامكان ان تديم انتاج اكبر بكثير مما هو مخطط له، وقد يصل الى ثمانية ملايين برميل يوميا ولسنوات طويلة، لكن تطوير هذه الاحتياطات والحقول الجديدة يحتاج الى تكنولوجيا متطورة ورساميل كبيرة مما يفرض مساهمة اضافية لذا نجد ان العراق بدأ بمفاوضات مع الشركات النفطية العالمية الرصينة لتطوير الحقول الجديدة بتكنولوجيا متطورة جدا، وبعقود توفر مردوداً كبيراً للعراق.

* انهيار البنى التحتية العراقية وتدهور قطاع الكهرباء ومياه الشرب والاتصالات والاسكان والصحة والمجاري، ومشاريع القطاع العام الصناعية والتجارية والزراعية، وتآكل بعض السدود ومنظومات الارواء، وتعاني كل هذه القطاعات من نقص في التكنولوجيا الحديثة، ويتطلب تأهيل واعادة اعمار هذه البنية مئات المليارات من الدولارات، وعلى الرغم من صدور قانون الاستثمار. ان الدولة مازالت متعثرة في العمل على الترويج لهذا القانون وتوفير المناخ الجاذب للاستثمارات لاعمار هذه البنية..

الفساد:

 عمَ الفساد المالي والاداري مرافق الدولة ومؤسساتها واستشرى الاستحواذ على المال العام واختلاسه بمختلف الطرق، وقد شكل مرتكزاً خطيراً لتخريب اقتصادي واجتماعي، واصبح تحديا جديا في وجه اي عملية اصلاح اقتصادي واداري بما في ذلك اعادة اعمار البلاد.

واذا كان موضوع الفساد قديما جداً ووضعت له القوانين والاجراءات لمكافحته، فقد شكلت فترة الحروب والحصار الاقتصادي على العراق بداية التوسع الكبير في هذه الظاهرة، لتاخذ حجما كارثيا منذ سقوط النظام السابق اثرت عوامل عديدة في استشرائه.

ان عملية مكافحة الفساد المالي والاداري في العراق تتطلب عدة معالجات تقع في مقدمتها توفير الامن وتطهير الاجهزة الحكومية من كل اشكال الفساد والرشوة والعناصر الانتهازية وجعل مبدا الرجل المناسب في المكان المناسب مبدا اساسيا في التعيين والاختيار للوظيفة العامة، وتفعيل القوانين ووضع عقوبات صارمة لاعمال  الفساد، والغاء نظام المحاصصة والطائفية في توزيع المناصب العليا وتفعيل اليات وهيئات النزاهة ومكافحة الفساد ومنحها الحصانة الكاملة وحمايتها..

ان الفساد المالي والاداري من اخطر التحديات التي تواجه الاعمار، فلا اعمار حقيقاً ولا مناقصات وعقود نظيفة مع وجود الفساد.. خلاصة القول: ان التحديات التي تواجه عملية الاعمار في العراق ليست تحديات اعتيادية بل هي اخطر مما يتصوره اي انسان، ويبقى دور الحكومة والشعب  ومنظمات المجتمع المدني وممثلي الشعب واجهزة الاعلام دوراً حاسماً في مكافحة الفساد، وبدون الرقابة العامة والشفافية لايمكن ان نخطو الخطوة  الاولى في الطريق لمكافحة الفساد والسير في طريق اعمار البلاد.

و كل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور نصا و دون تعليق.

المصدر: جريدة الصباح-13-1-2007