التنين الصيني ؛ التحدي الإستراتيجي الجديد القديم للغرب

 

 

David Shambaugh

إعداد : عبير عبد الحليم خاص

 

 

 

المثلث الإستراتيجى الجديد: الاستجابات الأمريكية والأوروبية تجاه الصعود الصينى

أسدل الشقاق عبر الأطلنطى حول الرفع المقترح للاتحاد الأوروبى لحظره للسلاح على الصين، النقاب عن رايته ليؤكد على تحول النظام العالمى الجغرافى السياسى. وهو النظام الذى يقترح أن تحظى التفاعلات بين الولايات المتحدة والصين والاتحاد العالمى الأوروبى بوضعية المعلم البارز لحدوده ومعالمه فى السنوات القادمة.

فهذه القوة القارية الثلاث تحتشد لديها وبثقل كبير مجموع القوى الاقتصادية والعسكرية فضلاً عن التأثير المعيارى والسياسى. وبتجميع الأوزان الاقتصادية والسياسية والإستراتيجية لهؤلاء الفاعلين الرئيسيين الثلاثة على المسرح العالمى اليوم، فإنها تضع نصب أعين صناع السياسة والمحللين فريضة أن يولوا مزيداً من الاهتمام المضاعف للتفاعلات التى يشهدها مضمار هذا المثلث الإستراتيجى الجديد.

فالنظام العالمى الجديد ترسم معالمه اتجاهات أربعة بدءاً من التفوق العسكرى الأمريكى والقوة الأمريكية منقطعة النظير، مروراً بتنامى التجانس والثقل الاقتصادى لدى الاتحاد الأوروبى ثم تسارع خطى العولمة التكنولوجية والاقتصادية، ورابعاً يأتى الصعود الصينى فى الشئون العالمية ليمثل منعطفاً هاماً من الاتجاهات الرئيسية والذى يجب التوقف أمامه للتعرف على النظام العالمى الجديد.

فالصين فى هذا النظام العالمى الجديد قد أصبحت لاعباً أكثر مسئولية على الساحة الدولية كما رصد لها تفاعل مع عدد متزايد من القضايا على جدول الأعمال الدولية من قبيل مكافحة الإرهاب والتدهور البيئى والدفء الكونى وتأمين الطاقة والجريمة الدولية وحفظ السلام الدولى وبناء الأمة ومنع الانتشار النووى والصحة العامة واستقرار النظام المالى الدولى. ويذكر أن هذا التحول لبكين عن كونها طرفاً سلبياً وعضواً غير لاعب نحو المشاركة الفعالة فى التصدى لهذه التحديات يعكس حجم الثقة المتزايدة والاعتقاد الراسخ لدى القادة الصينيين بأن مسئوليات الصين فى الساحة الدولية تتزايد جنباً لجنب مع قوة الدولة الصاعدة وتأثيراتها. وتأكيداً على هذه الحقيقة فإنه بتزايد الانخراط الصينى فى النظام العالمى، فإن التعاون بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى سوف يزيد مع بكين حول هذه التحديات الدولية وغيرها. إلا أن هذا المخطط لا يحول دون وقوع احتمال اختلاف المصالح فى بعض المناطق الأخرى.

فالخلاف حول حظر السلاح يظهر الزوايا المختلفة لرؤية أوروبا والولايات المتحدة للصعود الصينى. ومن الثابت أن المداخل الأمريكية و الأوروبية إلى الصين تشترك فى أوجه مهمة يجب ألا يتم إغفالها كما يجب أن يتم دراسة الاختلافات أيضاً.

فعلى سبيل المثال، إذا كان لأوروبا أى مصالح إستراتيجية بارزة أو وجود عسكرى فى شرق آسيا أو حتى كانت ملتزمة بأمن تايوان، فإنه على الأرجح ألا ينشغل اهتمام القادة الأوروبيين برفع حظر السلاح.

فبإلقاء الضوء على الاختلافات الحادة فى الرؤى عبر الأطلنطية التى تجسدها قضية حظر السلاح، يبدو أن المهتمين بالصين والشئون الآسيوية فى الولايات المتحدة وأوروبا، قد تأخروا كثيراً فى التعاون مع هؤلاء المهتمين بالعلاقات عبر الأطلنطية. فإذا كان هذا التفاعل قد حدث بأى درجة من الانتظام فى السنوات الماضية فإن قضية حظر السلاح ما كانت ستفاجئ وتوتر العلاقات عبر الأطلنطية إلى هذا الحد الهائل، وذلك حيث أن حكومة الولايات المتحدة كانت ستتنبأ بهذه المسألة، وما كان الاتحاد الأوروبى وقتئذ يتصادم مع اعتراضات الولايات المتحدة.

وعلى ذلك أصبح من المهم التمعن فى المصالح البعيدة والمفاهيم الخاصة بالمداخل الأمريكية والأوروبية تجاه الصين والتى تعتبر الأساس للتوترات عبر الأطلنطية، والتى برزت حول قضية حظر السلاح.

فإذا عقد الاتحاد الأوروبى والولايات المتحدة عزمهما على تحاشى الافتراضات الخاطئة حول سياسات وأولويات كل منهما تجاه الآخر، فيجب عليهما تحقيقاً لذلك الوصول للفهم الواضح للاختلافات الهامة فى المصالح القومية و الرؤى. ومع ذلك يظل عليهم عدم الشطط فى مغالاة حجم هذه الاختلافات حيث أن الولايات المتحدة وأوروبا تشتركان فى نفس وجهات النظر حول وضعية الصين فى المجتمع الدولى وحول دورها فى التوازن وأن هذه الاتفاقات عبر الأطلنطية تفوق نظيرتها من التباينات لوجهات النظر.

التقارب عبر الأطلنطى للرؤى حول سياسة الصين

على الرغم من وجود اختلافات بالمداخل، إلا أنه على المستوى الأساسى تشاركت الولايات المتحدة مع الاتحاد الأوروبى فى الرغبة فى تعزيز مقعد الصين على المائدة الدولية، بل وتضخيم نصيبها فى النظام الكونى. فكلا الطرفين يريد للصين أن تحافظ على وضعها الراهن، ويؤمن بأن دمج الصين بأكبر قدر ممكن فى المؤسسات الدولية قد يساعد فى الوصول لهذه النتيجة، وذلك عبر ضم الصين إلى حلقة المعايير الدولية للسلوك.

ولذلك ترحب الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى بالاندماج الصينى البناء فى النظام الدولى. فمن هنا، ونتيجة لكل ما سلف ذكره، قادت هذه العوامل السياسات والمداخل الأمريكية والأوروبية لتسلط تركيزها على الصين منذ عقد الثمانينيات على الأقل.

وبالرجوع لعام 1968، فقد أثار الرئيس ريتشارد نيكسون الجدل حول حقيقة أن الصين بقبوعها فى عزلة عن المجتمع الدولى، كانت تعتبر عامل عدم استقرار للشئون الدولية. وكان هذا الاعتقاد واحداً من أبرز دوافع نيكسون الصريحة نحو فتح العلاقات مع الصين عام 1972. وشاركه بشدة فى الرأى الرئيسى الأمريكى جيمى كارتر الذى خطا نحو تطبيع العلاقات الدبلوماسية بين الولايات المتحدة وجمهورية الصين فى 1979.

واستكمالاً لهذه المسيرة، جاء الرئيس رونالد ريجان ليشارك فى هذا المنظور. وقد قامت إدارته بمجهود كبير لربط بكين ثنائياً فى حلقات من القضايا الدولية ولجلب الصين إلى العديد من المؤسسات التعددية والدولية. ولكن يبدو أن أكثر من آمن بهذه الفكرة وبشدة تفوق درجة تمسك سابقيه بها، كان الرئيس جورج بوش. إلا أن سوء الحظ قدر أن تحول الأحداث المأساوية فى 1989 دون تحقيقه لرؤيته. وعن إدارة كلينتون، فقد تبنت هذه الاستراتيجية خلال فترته الرئاسية الثانية، حيث أبرمت المفاوضات بنجاح لإلحاق الصين بمنظمة التجارة العالمية.

وحتى بالنسبة لإدارة بوش الحالية، والتى لا يعرف عنها احتضانها للمؤسسات الكونية، فقد ناقشت وباستمرار بأن الصين تحتاج إلى الانخراط وبفعالية داخل مثل هذه الكيانات الدولية. وعلى مستوى الممارسة، فقد سعت إدارة بوش لربط الصين ثنائياً بهذه القضايا. ويذكر أنه فى بعض الحالات مثل سعى الصين للعضوية فى نظام التحكم فى تكنولوجيا الصواريخ عام 2004، وقفت إدارة بوش أمام كل من قبول الصين والموافقة الأوروبية على العضوية الصينية، إلا أن هذه الحقيقة لا تلغى التأييد الثابت للولايات المتحدة لتضمين الصين فى النظام المؤسساتى الدولى.

وربما بدرجة أكبر من الولايات المتحدة فقد آمنت أوروبا لمدة طويلة بحكمة وصل الصين بالمؤسساتية العالمية. وقد اعتمد هذا المنظور على قوى دافعة عديدة فى الرؤى العالمية الأوروبية شكلها الاعتقاد بأن القوى المهيمنة يجب أن يتم معادلتها وأن العالم متعدد الأقطاب هو وضع أكثر استقراراً من النظام الذى يهيمن عليه طرف واحد أو الذى تسوده الفوضى، وأن الأمم يجب أن ترضخ للقانون الدولى ولمعايير السلوك المتفق عليها. كما ترى أوروبا أن المنظمات الدولية يجب أن يتم تدعيمها وتعزيزها لإحراز حكم عالمى فعال، وأن يكون للسيادة حدودها وفى بعض الظروف المعينة كما هو الحال مع الاتحاد الأوروبى يمكن لهذه السيادة أن يتم اقتسامها. وتمتد الرؤى الأوروبية لتفعيل القوى الرخوة حيث أنها يجب أن تكون تأثيراتها أرجح من كفة القوى الصلبة.

فهذه العناصر المحورية للفلسفة الأوروبية تعكس طريقة التفكير الأوروبية عن الصين وعن دورها المحتمل فى النظام الدولى. وتشترك الولايات المتحدة مع الاتحاد الأوروبى فى المصلحة الملزمة التى تقضى بضرورة تطوير حقوق الإنسان فى الصين. ولطالما أثبت هذا الهدف المشترك ثباته عبر الزمن إلا أنه رغم ذلك فقد اختلفت آليات السياسية والأساليب المستخدمة لتحقيق هذا الهدف، حيث جنحت الولايات المتحدة نحو الدبلوماسية الشعبية جنباً لجنب مع استصدار قرار حول الصين فى لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان فى جنيف. أما عن الجانب الأوروبى فقد أعلى من راية الدبلوماسية الخاصة ووقف بمنأى عن الآليات المخطوطة فى هيكل الأمم المتحدة. ولكن الإتحاد الأوروبى فى الوقت نفسه عبر عن مناصرته القوية لتوقيع الصين والتزامها بمواثيق الأمم المتحدة لحقوق الإنسان.

ورغم الإيمان المشترك لدى القادة الأوروبيين والأمريكيين بالمبادئ الإنسانية، إلا أن اختلافاتهم تتضح حول تأكيداتهم لماهية حقوق الإنسان التى يجب إعلان لوائها فى الصين. فواشنطن أعطت الأولوية لحقوق المسجونين السياسيين والخارجين عن القانون وفى السنوات الأخيرة وخاصة فى فترة حكم بوش والتى حلقت فيها شعارات حرية العقيدة عالياً، كانت فى المقابل سياسات الإجهاض الإجبارى وقتل الفتيات الرضع فى الصين تثير إدانات أمريكية صريحة لمثل هذه الممارسات الصينية.

كما زاد على ذلك إجراءات القمع الدينى والثقافى فى التبت، مما فجر الانتقادات الأمريكية الساخطة ضدها ووجه الاهتمام التشريعى ضدها.

أما عن الأوروبيين فهم يبدون إلى حد ما قلقاً أقل تجاه المنشقين السياسيين والحركات الديمقراطية السرية، والحرية الدينية. وفى المقابل تؤكد المناشدات الأوروبية للحكومة الصينية على ضرورة تحسين إجراءات الأمان بأماكن العمل والحد من العنصرية على أساس النوع والتقليل من هيمنة الدولة على الإعلام، وتطوير الأوضاع بالسجون وإلغاء عقوبة الإعدام. فأوروبا وخاصة المملكة المتحدة وألمانيا وهولندا والدول الإسكندنافية تتفق مع الولايات المتحدة فى قلقها على التبت، ولكن هذا القلق بدوره جزء من قلق أوروبى أكبر يدور حول حماية كافة الأقليات العرقية فى الصين. والأهم من ذلك أن الأوروبيين تحدوهم رغبة قوية لتطوير سائد أشكال المجتمع المدنى فى الصين.

ولا يخلو الأمر من معوقات، فهذا المدخل قد يؤدى إلى اندلاع صراعات كتلك التى نشأت على إثر تدشين أوروبا لمقترحات بأن تسمح الصين بتأسيس اتحادات تجارية مستقلة أو حول المجهودات الأخيرة المبذولة من قبل الحكومة الصينية لفحص والموافقة على المنظمات غير الحكومية الصينية التى تتعامل مع الاتحاد الأوروبى. ولكن بشكل عام، أبدت الحكومة الصينية انفتاحا أمام برامج الاتحاد الأوروبى فى المجال العام. ورغم هذه الاختلافات، اعتبرت قضية حقوق الإنسان منطقة تقاطع قوية للكتلتين الأوروبية والأمريكية، لذلك يجب أن تكون هذه التأكيدات المتباينة ذات طابع تكاملى أكثر منه تعارضيا.

وتؤكد كل من الولايات المتحدة وأوروبا على الحاجة لبناء وفرض حكم القانون فى الصين. ويؤمن كلا الطرفان بأن تحقيق هذا الهدف يمثل ركيزة لبلوغ أهداف أخرى أكبر، منها احترام حقوق الإنسان وانسيابية تطبيق سياسات السوق الحر، والتبنؤ بمناخ الاستثمار الدولى واقتلاع جذور الفساد وابتكار ضمانات قانونية تحول دون ظهور الدولة التسلطية والقمعية.

فالاستثمار الأوروبى قد سجل ضخامة هائلة فى برامج حكم القانون فى الصين أكثر من نظيره الأمريكى. فقط منذ عام 2003 تنبه الكونجرس الأمريكى، وأقر الإنفاق المباشر من المال العام على برامج حكم القانون فى الصين. ولا تزال حكومة الولايات المتحدة وخاصة الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية تعانى من قيود تحظر عليها تبنى أنواع مختلفة من برامج المساعدة فى الصين، الأمر الذى يرجع إلى تشريعات الكونجرس والعقوبات التى لا تزال تراوح مكانها منذ 1989. ورغم ذلك فإن الاتحاد الأوروبى قد أنفق موارد هامة وأساسية جنباً لجنب مع عدد من دوله الأعضاء، وخاصة السويد والمملكة المتحدة وذلك لتأسيس أنواع عديدة من البرامج التدريبية القانونية والقضائية والعقابية فى الصين وأوروبا لسنوات طويلة.

فالإجماع عبر الأطلنطى يظهر جلياً حول موضوعات التزام الصين باتفاقية حظر الانتشار النووى والتى انضمت إليها الصين عام 1992. ولقد كانت سياسات الانتشار النووى الصينية ولوقت طويل بمثابة فض لمضجع الحكومة الأمريكية وهى المخاوف التى حدت بهذه الأخيرة للإسراع بالدخول فى مفاوضات مكثفة مع بكين مع معاودة إجراءا فرض عقوبات على الشركات الصينية، وفى الوقت نفسه أجرى الاتحاد الأوروبى حواراً مستقلاً خاصاً مع الصين حول عدم الانتشار النووى خلال السنوات السابقة.

ولم تلبث هذه الجهود أن تطرح ثمارها حتى طورت بكين ضوابطها الخاصة بالتحكم فى الصادرات، وأصبحت أكثر حساسية أمام مخاطر انتشار مواد ذات صلة بالأسلحة النووية. كما طورت بكين أيضاً من سيطرتها على انتشار الصواريخ ذاتية الدفع والأجزاء المكونة لها.

وأخيراً، فإن أوروبا والولايات المتحدة تتشاركان فى مصلحتهما الثنائية لإلزام الصين بالتنفيذ الكامل لمتطلبات عضويتها فى منظمة التجارة العالمية. حيث ضافرت واشنطن وبروكسل جهودهما لجر العملاق الصينى إلى حلبة منظمة التجارة العالمية (WTO). وتمارس الآن هاتان الجبهتان جهوداً متوازية جنباً لجنب مع الطرف الصينى فى إطار مدى واسع من الإصلاحات الاقتصادية والمالية والالتزامات، وخاصة حماية حقوق الملكية الفكرية وتحرير الخدمات المالية الأجنبية فى الصين فضلاً عن فك تنظيم حقوق التوزيع فى تجارة التجزئة للسلع الاستهلاكية، وتقليص الحواجز غير الجمركية وممارسات الإغراق الصينية. وعلى الرغم من التنافس المباشر بين الشركات الأمريكية والأوروبية فى الصين إلا أن المستوى الحكومى لهذين الطرفين شهد تضامناً طويلاً ومستقراً فيما يخص القضايا ذات الطابع التجارى.

فالتفاوض الأوروبى لقبول الصين فى منظمة التجارة العالمية كان بنفس قوة الموقف الأمريكى، وذلك إن لم يكن أشد منه فى بعض المجالات. ومنذ ذلك الحين أصبح الاتحاد الأوروبى المدافع المنيع عن الالتزامات الصينية. وقد ظهر هذا التشدد الأوروبى على وجه الخصوص فى مواجهة مطالب الصين بأن يتم منحها وضعية اقتصاد السوق، والتى بمقتضاها سيتم رفع الجمارك المضادة للإغراق.

وفى عام 2004، أفادت دراسة داخلية بالاتحاد الأوروبى بأن الصين لا تزال تبعد قليلاً بنحو أربعة أو خمسة معايير لازمة للحصول على وضعية اقتصاد السوق. ولكن الصين لم تقف عند هذا الحد، فقد ضغطت بكين خلال العام الماضى بقوة على بروكسل لمنحها هذه الوضعية، وأن يتم الحد من وطأة العقوبات المضادة للإغراق، إلا أن الاتحاد الأوروبى لم يرضخ لهذه الضغوط الصينية.

ومن جانبها يتراكم لدى وزارة التجارة الأمريكية عدد متزايد من قضايا مكافحة الإغراق ضد الشركات الصينية.

وأمام هذين الموقفين للأطراف الأوروبية والأمريكية، فالمحصلة لا تعبر عن حجم السياسات الصينية المجحفة فحسب، بل أيضاً تشمل العجز التجارى المتنامى المحقق بين كل من الاتحاد الأوروبى والولايات المتحدة مع الصين.

الاختلافات عبر الأطلنطي حول سياسة الصين

على الرغم من اتفاق كل من الولايات المتحدة وأوروبا حول مناطق مهمة وعديدة للسياسات، إلا أن مسألة تفهمها للصعود الصينى تختلف بشكل ملحوظ وتبعاً لذلك تتشعب مداخل السياسات فى هذا الصدد. وعلى ذلك فإن تفهم هذه الاختلافات الرابضة فى مناطق السياسات الجوهرية يتطلب إدراكاً للمقدمات الفلسفية الهامة وللزوايا التى من خلالها تعمل كل من أوروبا والولايات المتحدة على تحليل الصعود الصينى.

منظومة الرؤى العالمية وتأثير التكامل الأوروبى

تثير قضية نطاق واستخدام القوة الكونية للولايات المتحدة قلق العديد من الأوروبيين. وتبرز هنا على وجه التحديد القوة العسكرية وعقيدة حق الأولوية. فمعظم الأوروبيين الغربيين يؤمنون بدور التعددية القطبية فى إفراز الاستقرار العالمى أكثر من الأحادية القطبية. كما يرون أن هذه التعددية يتمخض عنها إثراء الأمن والمصالح الاقتصادية والأوروبية على حد سواء. وتلقى هذه الأفكار بالترحيب الحار من قبل فرنسا وألمانيا ودول البينيلكس والدول الإسكندنافية ودول البحر المتوسط.

وعلى الرغم من عدم مشاركة الحكومة البريطانية لهذا الحماس للتعددية القطبية إلا أنه فى أعقاب الحرب فى العراق اتقد جمر القلق لدى الكثير من جموع الشعب البريطانى، تخوفاً من ويلات الأحادية الأمريكية.

ومن ناحية أخرى لا يميل الأعضاء العشرة الجدد فى أوروبا الشرقية أو ما يسمى بأوروبا الجديدة إلى تقوية شوكة التعددية القطبية بنفس الحماس الذى يبديه الأوروبيون الغربيون حكومات وشعوباً. إلا أن هذه الشعوب على الجانب الشرقى من أوروبا تؤمن فى النهاية بأوروبا موحدة وقوية.

وكنتيجة لذلك، وبالنظر للبنية الكونية للقوة تجد كلاً من أوروبا والصين قضيتهما المشتركة تتمحور حول تدعيم أقطاب بديلة للقوة القومية والمنظمات الإقليمية مثل الاتحاد الأوروبى ومنظمة اتحاد دول جنوب شرق آسيا (ASEAN) ومنظمة شنغهاى للتعاون، فكلتا الجبهتين تتفقان على ضرورة تطويق القوة والتفوق الأمريكى بل ومعادلته، كما تتفقان على التعددية كقيمة عالمية.

فهما يتفقان على أن المنظمات الكونية وخاصة الأمم المتحدة تحتاج للدعم من ناحية لمواجهة السيطرة الأحادية، ومن ناحية أخرى كخطوة لتأهيل هذه المؤسسات لتكون اللاعب المركزى لمواجهة مختلف التحديات التى تهدد المحكومية الكونية. ومن جانبها أضحت الصين أكثر تقبلاً واندماجاً فى المؤسسات الكونية والإقليمية ولكن يذكر أن الشعب الأمريكى يميل إلى التشكيك بجدية فى المؤسسات والنظم الكونية. فالإدارة الأمريكية خطت خطى واسعة أكثر من سابقتها نحو مراوغة و تفويض سلطة هذه الكيانات.

فالولايات المتحدة عادة ما كانت ترى الأمم المتحدة بعين الضآلة معتبرة إياها عبئاً وكياناً غير كفؤ يحتاج إلى إصلاحات جذرية. ولا يقتصر هذا الاستخفاف على الأمم المتحدة، بل ينسحب على العديد من المنظمات الإقليمية مثل المنتدى الإقليمى للآسيان (ASEAN)، والذى اعتبرته الولايات المتحدة مجالس حوار طنانة أنجزت القليل من الحقائق بفعل افتقارها لآليات الفرض. فالرفض الأمريكى لهذه المؤسسات تبرره بعوامل افتقار هذه الأخيرة للقوة الصلبة وللمسئوليات القانونية الملزمة.

وعلى العكس يبدى الأوروبيون والآسيويون ارتياحاً أكبر تجاه المؤسسات التى تشكل سلوكاً معيارياً عبر آلية الإجماع وممارسة سياسات القوة الرخوة. ويرى المراقبون أن التفضيل الأوروبى والآسيوى لهذا المنحنى يعكس الضعف النسبى الذى يميز هذين الطرفين فيما يتعلق بالقوة الصلبة، ولكنه يؤكد أفضليتها لإذابة الخلافات عبر اللجوء لمفاوضات ذات طابع الاتفاق الجماعى.

يبدو أن الأمريكيين يجدون صعوبة فى تقبل الخبرة الأوروبية مع اقتصاد السيادة، وذلك رغم قيام الولايات المتحدة على نظام الفيدرالية اللامركزية فهم لا يثقون بفكرة التضحية بالحقوق السيادية لصالح كيان أكبر لدولة عظمى تضم فى كنفها أجزاء إقليمية أصغر.

وكما يرى ريد فى كتابه الأخير (الولايات المتحدة الأوروبية)، أنه على الرغم من التشكك العميق للكثير من الأمريكيين فى فكرة التكامل الأوروبى، فإنه لا يزال من المهم أن يتفهموا آلياته وقوته جنباً إلى جنب مع معرفة التأثير المباشر للاتحاد الأوروبى على الحياة اليومية والمصالح الاقتصادية لشعوب الولايات المتحدة. كما رأى جاك ويلش وآخرون من أقطاب الشركات العملاقة بالولايات المتحدة أن هذه الأخيرة يجب أن تخوض الطريق الصعب بدراسة واقع الاتحاد الأوروبى وكيفية تأثيره المباشر على مصالحهم داخل الولايات المتحدة.

إلا أنه إلى الآن فإن العمليات القوية لإتمام اقتسام السيادة والتكامل الاقتصادى فى أوروبا لم يتم مسايرتها بنسيج لسياسات مترابطة على المسرح الدولى. وفى الوقت الحاضر تظل السياسية الخارجية والأمنية المشتركة للاتحاد الأوروبى، لا تخرج عن كونها سلسلة من الشعارات المعلنة، ولكن إذا تم التوقيع على الدستور الأوروبى الجديد وتبنيه، فإنه سيكون هناك حتماً إعادة لتنظيم اللجنة الأوروبية والمجلس الأوروبى.

فهذا الدستور الأوروبى حال تبنية سيسمح بتعزيز سلطات وقوة وزير الشئون الخارجية الجديد للاتحاد الأوروبى وسيبدأ الاتحاد يعمل بصوت أكثر تماسكاً وسلطوية فى الشئون الخارجية العالمية.

ويجادل الفقهاء الأمريكيون رغم انشقاقهم السياسى مثل روبرت كيجان وريد- وكلاهما عاش فى أوروبا- أن مزيج من تغير الأجيال فى المجتمعات الأوروبية وصعود هوية أوروبية أكثر تماسكاً، والإيمان الراسخ بمواقف فلسفية عن استخدام القوة والعلاقات داخل الدولة وآلية سياسة خارجية قوية للاتحاد الأوروبى يقف وراء تفاقم الاختلافات عبر الأطلنطية.

ويتفق معهم ناقدون آخرون مثل (تيموثى جارتون آش) فى إدراك هذه الاختلافات، ولكنهم يزيدون عليها بان القيم المشتركة الجوهرية توطد العلاقات الأمريكية الأوروبية، ويمكن بتعديل بعض الالتزامات وهيكلة بعض السياسات أن يعاد إنعاش هذه العلاقات عبر الأطلنطية.

ومن ناحية أخرى ساهمت مجموعات بحثية من كبار المفكرين لدى الطرفين الأمريكى والأوروبى فى توضيح بعض الأسباب والعواقب المحتمل وقوعها حين حدوث تصدع فى الجدار الأمريكى الأوروبى.

وهؤلاء الباحثون رغم تنبؤاتهم، يتفقون على حقيقة اتساع الخلافات عبر الأطلنطية بشكل فائق منذ نهاية الحرب الباردة. وأن هذه الخلافات إذا لم يتم تسويتها وكبح جماحها فإنها قد تودى بأساس النظام الدولى.

ورغم كل ما سبق، يظل الهاجس المسيطر على المفكرين أن يقوقع الاتحاد الأوروبى نفسه فى مجرد كونه بقعة جغرافية أكثر من أن يطمح فى الوصول إلى مرحلة الفاعل السياسى القوى والمنارة الأخلاقية التى عرفها العالم منذ الحرب العالمية الثانية.

تفهم الصعود الصينى

اعتبرت الاختلافات الهيكلية والمفاهيمية الأساس الذى قاد إلى تشعب المداخل الأمريكية والأوروبية للصين، ويكمن الفرق الأساسى فى مداخلها فى كيفية فهم كل طرف منهما للصين الصاعدة.

فالخطاب السياسى الرسمى فى الولايات المتحدة الخاص بالصين دائماً ما يشير إلى صعودها، و تسيطر عليه التحليلات الخاصة بتنامى القوة الصلبة الصينية وتأثيرات ذلك على مصالح الأمن القومى الأمريكى فى شرق آسيا وذلك بالنظر إلى تايوان. فهذه هى الزاوية الرئيسية لرؤى المحللين للصعود الصينى والعامل الأساسى الذى شكل الجدل الذى تدور رحاه فى واشنطن. والجدير بالذكر أنه برغم انطلاق قذائف الاستياء الشعبى من جراء فقد الولايات المتحدة لوظائفها بالصناعة نتيجة السيطرة الصينية على ميدان الصناعة، فضلاً عن البراعة الصينية الفائقة، و فائضها التجارى مع الولايات المتحدة إلا أن هذه النقاط تتراجع أولويتها فى أجندة المناقشات لصالح تلك النقاط الخاصة بتأثير الصعود الصينى على الأمن القومى الأمريكى.

وعلى الجانب الآخر، ترى أوروبا الصعود الصينى بعين تركز على التحولات الصينية الداخلية. فالأوروبيون يرون أن الصين دولة نامية ضخمة تقع على منتصف الطريق لمراحل تحولات عديدة تهدف إلى الإبحار بعيداً عن اشتراكية الدولة لترسو على ميناء اقتصاد السوق الحرة والمجتمع الأكثر انفتاحاً والحكومة الأكثر تمثيلية ومسئولية.

وعلى العكس من المحللين فى الولايات المتحدة ممن يركزون على الصورة الخارجية للصين يركز المحللون الأوروبيون بشكل اساسى على المشهد الصينى الداخلى. لذلك فإن هذا الخلاف الأساسى بينهما فى المنظور يستتبعه اختلاف فى السياسات والقرارات.

فهذا المنظور يقف وراء قوة السياسات الأوروبية تجاه الصين التى تهدف إلى مساعدتها فى الاجتياز الأمنى للتحولات والإصلاحات الداخلية. فأوروبا لا تريد للصين أن تمنى بالفشل.

ويبدى الاتحاد الأوروبى الاستعداد لتقبل الصين كما هى عليه وأن يساعد بكين فى مواجهة تحدياتها الداخلية، وتبعاً لذلك فإن الشعوب الأوروبية واللجنة الأوروبية تؤمن بأن عليهم تقديم الكثير من المشورة والموارد تحقيقاً لهذه المساعدة.

ويجد هذا الموقف الأوروبى تفسيراته فى أنه ليس فقط بحكم خبرة أوروبا الغربية الطويلة مع الديمقراطية الاجتماعية والرفاهية العامة ولكن يرجع أيضاً للخبرة المستمرة لدول أوروبا الشرقية كاقتصاديات وسياسات تحوليه ظهرت فى فترة مشابهة لظهور اشتراكية الدولة ومن الثابت أن الصين لم تطرح جانباً نظامها للحزب الواحد ولا يبدو فى الأفق أنها ستفعل ذلك طواعية.

ولكن الأوروبيين يقيسون على خبراتهم مع الديمقراطية الاجتماعية بهدف المساهمة فى تنمية المجتمع المدنى والمجال العام فى الصين. والأوروبيون هنا واثقون من أن هذه الإجراءات كانت التمهيدات لإحداث ديمقراطية فى أوروبا الشرقية.

كما يمتد الحماس الأوروبى الاتحادى لنشر خبراتهم فى الإصلاح الصناعى والتعليم العالى وسياسات العلوم والتكنولوجيا وإعادة تنظيم الإعلام، وخصخصة المواصلات العامة والشفافية السياسية والمساءلة ومجالات أخرى كثيرة. وباختصار، يؤمن الاتحاد الأوروبى بأن لديه الكثير ليقدمه للمساعدة فى تدعيم قدرات البناء فى الصين وهو لا يتوانى عن الاستثمار الثقيل فى هذه البرامج.

وتعكس الشراكة الإستراتيجية التى تم الاتفاق عليها بين الاتحاد الأوروبى والصين عام 2003 وجهة النظر الأوروبية وهى أن الصين قد أصبحت بالفعل لاعباً محورياً فى المسائل الأمنية السلمية التى توليها أوروبا اهتمامها. فأوروبا تؤمن بأن التهديدات الأساسية لأمنها تكمن فى التنوع عبر الإقليمى والهجرة غير الشرعية والجريمة الدولية والأمراض المعدية والطاقة والبيئة وأزمات الحكومات الفقيرة، وعلى ذلك يرى الاتحاد الأوروبى الصين كواحدة من القوى العظمى التى من المقدر أن تساهم فى حل هذه المشكلات.

وعلى الرغم من تعثر الشركات الأوروبية والأمريكية فى إطار منافسة جادة للحصول على نصيب من الأسواق فى الصين، إلا أنه على المستوى الحكومى فإن الاختلاف فى استثمار الموارد يعتبر مؤشراً على تشعب مداخل التعامل مع الصين كقوة صاعدة.

فالولايات المتحدة تنشر مواردها بشكل أساسى لمراقبة نمو القوة الصلبة للصين ولردع أى سلوك صينى عدوانى محتمل خلف حدودها، فى حين يستثمر الاتحاد الأوروبى فى مبادرات داخل الصين لزيادة قوتها الرخوة وتيسير عملية التنمية المستدامة بها.

تحليل الصين

إن الاختلافات الفلسفية بين المداخل الأمريكية والأوروبية للصين تجيب عن سؤال حول كيفية توصل كل منهما لفهم الصين. فكل طرف لا يرى الصين من خلال زوايا مختلفة كما ذكر من قبل فحسب، بل أيضاً يزيد على ذلك وجود اختلافات تربوية فى اعتباراتهم للمجتمع الصينى على المستويات الحكومية وغير الحكومية. وعموماً فإن فهم هذه الاختلافات التحليلية وكذلك المستويات المتفاوتة من تخصيص الموارد التى تستثمرها أوروبا والولايات المتحدة لفهم الصين يساعد فى فك شفرات هذه المداخل المختلفة.

تعين كل من حكومة الولايات المتحدة وحكومات كل دولة عضو فى الاتحاد الأوروبى موظفين مسئولين عن قضايا الصين فى وزاراتهم الخارجية ووكالاتهم الاستخباراتية وإداراتهم الحكومية العاملة. وعلى ذلك فإن سمتين تفصلان بين الولايات المتحدة و أوروبا. أولاهما عدد هؤلاء المسئولين، وثانياً حجم تدريبهم. فالمختصون بشئون الصين فى الحكومة الأمريكية يفوق عددهم بشكل كبير نظرائهم من الأوروبيين كما يتلقون تدريباً أكبر حول الشئون الصينية المعاصرة.

وفى الوقت الحالى يتوافر لدى وزارة الخارجية الأمريكية حوالى 200 مسئول خدمات خارجية ممن أكملوا فترة تدريب متقدمة عن اللغة الصينية.

وقد حصل العديد على دراسات عاليا فى الدراسات الصينية، ومن المقرر أن يقوموا بجولات عديدة فى أرجاء الصين، وهو تقليد قديم ومتميز سار على دروبه الدبلوماسيون الأمريكيون ممن خدموا فى الصين منذ القرن التاسع عشر.

أما عن وزارة التجارة الأمريكية، فهى توظف عدداً أقل يتراوح بين 20-30 موظف ولكنهم لا يقلون كفاءة عن مسئولى الصين بوزارة الخارجية حيث أنهم مجموعة من الكوادر المؤهلة والمدربة على الخدمات التجارية الخارجية. وكذلك لدى وزارة الطاقة والتعليم والخزانة الأمريكية ووزارات أخرى مكاتب صينية وأعداد موظفين أقل من المتخصصين فى شئون الصين ضمن كوادرها.

وبالنسبة للعسكرية والجيش الأمريكى فيتوافر لديها حوالى 50 مسئولاً عن الشئون الخارجية الصينية، وقياساً على ذلك بدأت الطيران والبحرية الأمريكية فى رسم برامج مماثلة. ويمثل الشق الأعظم من عمل هؤلاء المسئولين ما يشابه الأعمال الاستخباراتية كتلك التى يؤديها الملحق العسكرى فى الصين بإمداد ذويه من المسئولين بالمعلومات سواء مكتب وزير الدفاع أو رئيس الأركان. فعدد الكوادر من العاملين بالاستخبارات والمسئولين عن الصين وتحليل شئونها لدى الإدارة الأمريكية أخذ فى التزايد. فالصين قد أصبحت صناعة متنامية فى الأوساط الاستخباراتية الأمريكية فى السنوات القليلة الماضية.

وتشير التقارير إلى أن وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية يتوافر لديها حوالى 200 محلل من المختصين بالصين وممن يعملون بنظام الوقت الكامل. ويعمل لدى وكالة الاستخبارات الدفاعية ووكالة الآمن القومى 200 موظف لكل منهما، أما وكالة الفضاء القومية فلديها 100 متخصص. ولدى إدارة الباسيفيك، عدة مئات من الأشخاص ينتشرون عبر منطقة المحيط الهادى الآسيوية وتتمثل كامل مهمتهم فى مراقبة جيش التحرير الشعبى.

بناء على ما سبق تشير هذه التقارير الواقعية إلى حجم ومستوى المجهودات والموارد التى تكرسها حكومة الولايات المتحدة لرصد التطورات فى الصين. وتجدر الإشارة هنا إلى أن عدد الأفراد ومستوى الموارد المتاحة ليس هو المحدد الوحيد، بل يزيد على ذلك قدرات تناول اللغة الصينية والتدريب التحليلى فى الدراسات الصينية.

وبالخروج بعيداً عن أروقة الحكومة، يعتبر الخبراء الأمريكيون الأكاديميون هم الوحيدون من نوعهم فى العالم. فمئات من أساتذة الجامعة من المتخصصين فى الدراسات الصينية المعاصرة فيما بعد 1949، وعدد آخر كبير يجرون بحوثاً ذات صلة بالتاريخ الصينى الحديث وما قبل الحديث.

ومنذ عقد مضى من الزمان، كان على الطالب الذى يرغب فى دراسة الصين أن يلتحق بواحدة من عشرات الجامعات القيادية التى توفر برامج عن الدراسات الصينية. ولكن هذا الوضع لم يعد هو السائد حيث تنامت برامج الدراسات الصينية بسرعة هائلة فى جامعات الدولة ولدى كليات الفنون الحرة الخاصة فى مختلف الأنحاء الأمريكية خلال السنوات الماضية. وفى كل الأحوال، فقد ثبت أن هذه المؤسسات هى مدارس تعليمية تساهم فى منح التدريب قبل التخرج فى الدراسات الصينية للطلبة الذين يلتحقون بعد ذلك ببرامج للدراسات العليا وتصل الأغلبية العظمى من الطلبة المتخرجين إلى مرحلة برامج الماجستير والدكتوراه يؤهلهم برامج ما قبل التخرج وخبرتهم فى الدراسات الصينية وبراعتهم النسبية فى اللغة وخبراتهم للعيش فى الصين لمدة سنتين على الأقل.

ولقد تثبت أن هذه الخلفية والخبرة لتأهيل الطلبة للالتحاق بالدراسات العليا تتمتع بجدارة وكفاءة عالية. ويأخذ الطلب على الدراسات الصينية فى أرجاء الولايات المتحدة فى التزايد. لذلك لا يقدر أن يكون هناك نقص فى الخبراء لتولى الوظائف فى الحكومة والقطاعات الخاصة فى السنوات القادمة. وكانت هذه هى الطريقة التى تتسلح بها الولايات المتحدة لمواجهة التحدى الصينى.

أما خارج الجامعات الأمريكية فيمكن أن يتواجد الخبراء فى شئون الصين فى معاهد البحوث فى واشنطن أو فى مجلس العلاقات الخارجية فى نيويورك، وفى المكتب القومى للبحوث الآسيوية فى سياتل. واليوم يعمل لدى أى مركز أبحاث فى العاصمة على الأقل متخصص واحد فى شئون الصين ضمن فريقه الإدارى للعمل، وربما أكثر من واحد.

وجنباً لجنب مع هذه المؤسسات غير الهادفة للربح، فإن عدداً من الشركات الاستشارية الهادفة للربح مثل التكنولوجيا والشركة العالمية لتطبيقات العلوم وآخرين كثيرين يوظفون كوادر بحثية هائلة من المتخصصين فى شئون الصين وممن تكون مهمتهم إجراء بحوث عن الصين لصالح وكالات الحكومة. وأخيراً فإن عدداً من مراكز البحوث والتنمية الممولة من الحكومة (مثل مؤسسة راند) تتلقى منحاً حكومية هائلة وتوقع عقوداً مع الحكومة لإجراء بحوث عن الصين.

وبالمقارنة مع ذلك لا يرى المتتبع لهذا المجهود الأمريكى أى نظير له فى أوروبا من الالتزامات المؤسسية والمادية. فبالنظر للولايات المتحدة، يظل حجم الخبراء الأوروبيين عن الصين شديد الضعف وهو العجز الذى تولد عن المعوقات الفكرية والهيكلية.

وعلى المستوى الهيكلى، لم تجر الجامعات الأوروبية على الإطلاق أى تكامل بين مجال دراسة المناطق مع العلوم الاجتماعية، وقد قامت الجامعات البريطانية من قبل بدمج الحقلين من العلوم. ففى العديد من الجامعات الأوروبية المنتشرة فى العالم يقع على الطالب التزام بأن يختار أحد المجالين قبل بدء تدريبه الأكاديمى.

فإذا اختار مجال دراسة المناطق فإنه يخرج بحصيلة من التقاليد الصينية واللغة والتاريخ والثقافة والقليل حول كيفية عمل النظام الصينى المعاصر. أما إذا اختار أحد العلوم الاجتماعية، فإن التدريب يمتد إلى المناهج والنظم المقارنة، ولكنهم هنا لا يمكنهم الاستعانة بالمصادر الصينية فى بحوثهم.

فالجامعات الأوروبية تعانى من ندرة الباحثين المتخصصين فى شئون الصين المعاصرة فهناك على الأرجح ما يقرب من ثلاثة باحثين فى هذه الجامعات من المتخصصين فى الاقتصاد الصينى و 8 باحثين عن السياسة الداخلية فى الصين و 5 عن السياسة الخارجية وعدد محدود جداً ممن يدرسون المجتمع الصينى المعاصر أو السكان ولا يتطرق أحد للموضوعات العسكرية أو للشئون الأمنية الصينية.

وقد أصيبت الدراسات الصينية فى الجامعات الأوروبية على امتداد العقدين الماضيين بضمور. لذلك إذا لم تظهر مبادرة أوروبية لقلب هذا الوضع فإن الجامعات الأوروبية ستستمر فى التخلف وراء نظيرتها فى أمريكا الشمالية وآسيا.

ولكن بالنسبة لمراكز الأبحاث الأوروبية فإن الوضع قد يكون أفضل، حيث أن هناك بعض الخبراء فى هذه المجالات ممن يعملون فى 10 شركات على الأقل فى المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وبروكسل. ويذكر أن كفاءة الخبراء من الباحثين فى هذه المؤسسات تتسم بكفاءة عالية، ولكن الكثير منهم يعانون من المعوقات الهيكلية فى تدريبهم الجامعى ومن ثم لا يتكلم الكثير منهم الصينية أو يستخدم مصادر صينية أولية فى بحوثهم.

فهؤلاء الباحثون يميلون إلى أن يكون تدربيهم فى الموضوعات الوظيفية المتعلقة بالصين مثل الدراسات الأمنية أو الاقتصاد وليس الدراسات الصينية الجوهرية.

وللتغلب على ثغرة غياب المتخصصين فى شئون الصين ممن كان يجب أن تساهم الجامعات الأوروبية فى تخرجهم، فإن الشركات الأوروبية العاملة فى الصين لجأت إلى ترتيب لا يتاح للحكومات وهو تعيين عدد كبير من المواطنين الصينيين.

والأكثر من ذلك، ان تعيين هؤلاء المواطنين الصينيين لا يساهم فقط فى تنفيذهم للعمليات التجارية فى الصين، بل تزيد الشركات الأوروبية على ذلك بترقية العديد من الموظفين الصينيين فى هياكلها الإدارية فى أوروبا وأماكن أخرى من العالم.

فمن المتعذر توافر الخبراء عن الصين فى وزارات الحكومات فى أوروبا. وعلى الرغم من أن المكتب البريطانى للكومنولث لديه تقليد قديم ومميز خاص بتدريب دبلوماسييه وإمدادهم بوسائل لفهم ودراسة الصين، إلا أن هذا الإجراء لا ينطبق بالضرورة على وزارات الخارجية الأخرى فى أوروبا.

ويتوافر لدى الحكومات الأوروبية عدد محدود من الدبلوماسيين أو الملحقين العسكريين ممن يتمتعون بمعرفة جيدة بمهارات اللغة الصينية، أو ممن حصلوا على درجات متقدمة فى الدراسات الصينية أو درسوا فى الجامعات الصينية أو حتى من لديهم فهم عميق لتعقيدات المشهد السياسى الصينى والاقتصاد والمجتمع أو المؤسسة العسكرية. ولا يبدو أن الدول الأعضاء بالاتحاد الأوروبى تعتزم إنشاء برامج تدريب مهنية لهؤلاء المسئولين ممن يصلون للصين بقدرات لغوية ضعيفة. ونتيجة ذلك، يقوم الكثير من هؤلاء الموظفين بعملهم فقط فى الصين وهم منعزلون عن المجتمع الصينى والمؤسسات هناك.

فاللجنة الأوروبية لا تقوم بمجهود يذكر لتدريب دبلوماسييها على الشئون الصينية، وذلك رغم تمتع هذه اللجنة بتكريس موظفين مدنيين عالى الكفاءة لمجهوداتهم لإدارة العلاقات الأوروبية الاتحادية مع الصين. وعلى نفس الوتيرة تعانى وكالات الاستخبارات الأوروبية من نفس الضعف للخبراء عن الصين.

ورغم كل ما سلف ذكره لا تعمد هذه الملاحظات إلى الإشارة إلى أن أوروبا تفتقر إلى المسئولين الكفء لإدارة علاقاتها الحكومية مع الصين. فلديها الكثيرون ممن يديرون هذه المناصب بكفاءة عالية. ولكن يمكن القول أن أوروبا لا تلقى باستثمارات عالية لتدريب مسئوليها الحكوميين من المختصين بشئون الصين أو حتى تصمم برامج جامعية كمصدر لتخريج موظفين مدنيين أكفاء فى الشئون الصينية.

ويعتبر التفاعل بين الموظفين الحكوميين والمحللين وبين نظرائهم من غير الحكوميين بمثابة ملمح أساسى للاختلاف بين الفهم الأوروبى و الأمريكى للصين. وقد كان مثل هذا التفاعل ولفترة طويلة علامة مميزة للنظام الأمريكى الذى يتمتع بوجود خبراء خارج الحكومة ممن يتفاعلون بسلاسة مع نظرائهم من الموظفين المدنيين داخل الحكومة. وبمرور الوقت ساهم هذا التعاون فى إفادة كلا الطرفين فى الولايات المتحدة. أما فى أوروبا فإن هذا التفاعل يشهد حدوده الدنيا، ورغم أن هذا التعاون شهد تطوراً فى فرنسا وألمانيا فى السنوات الماضية، لكن يظل الوحيدون الذين يتمتعون بالفرص الاستشارية هم هؤلاء ممن يعملون فى مراكز البحوث التابعة للحكومة.

أما السويد والدنمارك فهما توفران فرصاً أفضل للتعاون بين باحثى الجامعة والموظفين الحكوميين. وبفقدان مثل هذا التعاون والتنسيق فإن جداراً مانعاً يتشيد بين صانعى السياسة وبين من يجرون البحوث عن الصين، ونتيجة لذلك تخرج البحوث الأوروبية عن الصين ذات طابع دراسى بحت مع الافتقار لاتصالها بالسياسة. وبالعكس فإن السياسة تجاه الصين يتم تطويرها حصريا، فى أروقة حكومات الدول الأعضاء مع وجود حد أدنى من تدخل خبراء غير حكوميين.

وقد تم استحداث شبكة العمل الأكاديمية الأوروبية الصينية فى 1996 بعد تمويل دام 5 سنوات من اللجنة الأوروبية بهدف معالجة هذه الاختلالات. وقد أنجزت قدراً كبيراً من العمل فى فترة ميلادها الأولى إلا أنه فى ظل عدم تجديد مخصصات مالية لها يظل مستقبل هذه الشبكة الأكاديمية غير واضح.

واللافت للنظر أن الافتقار الأوروبى النسبى لخبراء متعمقين فى الشئون الصينية لا يمثل عائقاً أمام هذه الدول الأوروبية حيث أنها جنحت نحو رسم مخططات لعلاقات قوية مع الصين. فأوروبا على مستوى الاتحاد الأوروبى ككل والدول الأعضاء معاً، قد كان لها القدرة على بلورة علاقات بالغة القوة مع الصين فى السنوات الماضية.

ويذكر أن العلاقات الأوروبية الصينية شهدت أوجهها فى مجالات التجارة والاستثمار والثقافة والتبادل التعليمى والتفاعلات الدبلوماسية والتبادلات العسكرية، ناهيك عن تلك البرامج التى يغرس الاتحاد الأوروبى بذورها فى الصين. لذلك لا يشكل النقص الأوروبى لخبراء حول شئون الصين حجرة عثرة أمام نمو هذه العلاقات. ولكن كيف يمكن تفسير هذا القصور؟

فالسبب يكمن فى تقارب المصالح القومية. فأوروبا والصين تتشاركان فى نفس المصالح الأساسية الخاصة بتنمية التجارة والاستثمار وإجراء التبادلات على مستويات المجتمع كافة، ويهتم الطرف الأوروبى بمساعدة الصين فى تخطى تحولاتها الداخلية وتدعيمهما لنظام عالمى متعدد الأقطاب.

فهذا النوع من التقارب لا يستلزم بالضرورة توافر عدد هائل من المتخصصين فى الشئون الصينية للعمل فى الحكومات الأوروبية أو فى مؤسساتها غير الحكومية. والأكثر من ذلك أن عدم توافر مصالح استراتيجية لدى أوروبا أو تواجداً عسكرياً لها فى آسيا جنباً إلى جنب مع عدم تحملها مسئولية الدفاع عن تايوان وعدم وجود جماعات ضغط مناصرة لتايوان فى أوروبا، زاد من سهولة متابعة هذه المصالح الأوروبية الصينية المشتركة. فأوروبا تتمتع بمزية تطوير علاقات مع الصين دون تحمل مسئولية الأعباء الاستراتيجية والأمنية التى تثقل كاهل الولايات المتحدة فى آسيا أو الدور الداخلى الذى يلعبه اللوبى التايوانى فى واشنطن.

فعلى الرغم من أن الولايات المتحدة قد طورت علاقات ممتازة ومثمرة مع الصين فى السنوات الأخيرة، إلا أن قضية تايوان وهذه العوامل الاستراتيجية المذكورة تقف وراء الستار، بل وتحلق فوق سماء العلاقات الصينية الأمريكية.

سير أغوار المثلث الاستراتيجى الجديد

ماذا يجب أن يعتقد المحللون عن هذا المثلث الاستراتيجى؟ وكيف من المحتمل أن يتطور؟ وما هى تأثيراته على الشئون العالمية؟ فسيكون من الخطأ تكوين فكرة عن هذا المثلث الاستراتيجى الجديد بين بكين وبروكسل وواشنطن بنفس الطريقة التى تكونت بها الفكرة عن نظيره القديم المكون من موسكو وواشنطن وبكين فى عقدى السبعينيات والثمانينيات.

فالمثلث الجديد يعرض مفاتيح لاختلافات محورية عن سابقه وهى:

فأولاً تشير الدعامات الأولى لهذا المثلث الجديد إلى أنه أكثر إنسانية وأقل جموداً. فالفعل على جانب واحد منه لا يستشير فعلا مضاداً على الجوانب الأخرى. كما أنه لا يوجد طرفان بالمثلث الجديد متحالفين استراتيجياً ضد الثالث.

وعلى خلاف المثلث القديم الذى شهدت أضلاعه اتصالات ضعيفة بين الصين والولايات المتحدة مع المجتمع السوفيتى، فالمثلث الجديد يشهد تفاعلات أبعد. فاليوم يرتبط كل اقتصاد ومجتمع وحكومة بطرق شتى متوافقة بشكل عميق مع الطرفين الآخرين للمثلث.

وعلى ذلك فهذا المثلث ليس آلية لعلاقات صفرية بين طرفين ضد الثالث ولكن مثلث إيجابى للعلاقات يتضمن مصالح مشتركة بين الأطراف الثلاثة. فأوروبا والولايات المتحدة تتنوع لديهما المفاهيم المشتركة عن تكامل الصين فى النظام الدولى. وحماية حقوق الإنسان والتحول نحو اقتصاد السوق وتأسيس حكم القانون وإطلاق العنان للمجتمع المدنى وتحرير النظام السياسى والمساهمة فى مزيد من إستقلال الإعلام وحماية البيئة.

أما أوروبا والصين لديهما مصالح مشتركة كثيرة خاصة بالتعددية والتعددية القطبية فضلاً عن القضايا التجارية والثقافية.

والواقع أن أضلاع المثلث الثلاثة تتفق على قضايا حظر الانتشار النووى وتحرير التجارة العالمية.

ويكمن الفارق الثانى فى أن مخاوف الأمن القومى لا تسيطر على المثلث كما حدث خلال الحرب الباردة. وعلى الرغم من قيامها بدور محورى فى العلاقات الأمريكية الصينية وخاصة فيما يتعلق بتايوان، إلا أن العلاقات الأمريكية الصينية تتسم بعمق غير عادى، وتتم على مستويات الدولة المتعددة ودون الدولة مع تزايد وثوق الروابط بين المجتمعين.

وفى الوقت ذاته فإن عنصر الأمن القومى لها يمكن ببساطة إطلاقه كطابع مميز على العلاقة بين أوروبا والصين والتى تهيمن عليها تفاعلات التجارة والتجاذب الثقافى المتنامى ورغبة أوروبا فى الأخذ بيد الإصلاح الصينى ورؤيتها المشتركة لتشييد نظام عالمى قائم على العدالة والمؤسسية. وبذلك فإنه على خلاف المثلث الاستراتيجى القديم فإن المثلث الجديد لا يقوم على أساس توازن الرعب النووى أو على المنافسة العالمية نحو استقطاب الدول، أو حتى على التوقعات بسياسات الأطراف الأخرى وسلوكها على الساحة العالمية.

ثالثاً، يلوح اختلاف مهم على طول أضلاع هذا المثلث الجديد، فالولايات المتحدة وأوروبا كان لديهما بالفعل نصيب من الشقاق حول العراق وحول المعاهدات الدولية والنظم ودور الولايات المتحدة فى العالم وقضية حظر السلاح على الصين. وعلى الجانب الآخر، وقعت بين الصين وأوروبا سلسلة نزاعات بشأن قضايا التجارة والتصنيف الخاص بوضعية اقتصاد السوق تماماً قبل الاختلافات حول حقوق الإنسان. فأوروبا تختزل هواجس ممارسات الانتشار النووى الصينى، وكذلك قضية حظر السلاح.

بل إنه لاحت مؤخراً فى الأفق انتقادات شنها المتخصصون الصينيون فى الشئون الأوروبية ضد الحوافز التى تقف وراء برامج الاتحاد الأوروبى لتدشين المجتمع المدنى فى الصين معتبرين إياها حيلاً أيديولوجية لتغريب وتقسيم الصين. كما اختلفت الولايات المتحدة مع الصين حول حقوق الإنسان والتجارة والانتشار النووى دون إغفال قضايا تايوان والدفاع الصاروخى والأمن الإقليمى فى شرق آسيا.

وكل هذه المعالم تضيف إلى قوام العلاقات الثلاثية المرنة والمتحولة والتى قد تسجل تقارباً فى بعض الأحيان وتباعداً فى أحيان أخرى. فالولايات المتحدة قد تقف جنباً إلى جنب مع الاتحاد الأوروبى، وأحياناً أخرى تجد الصين والاتحاد الأوروبى نفسيهما فى حالات اتفاق. وقد تعمل الولايات المتحدة فى بعض الأحيان مع الصين وأحياناً أخرى قد تتقاطع مصالح وسياسات الأطراف الثلاثة. وفى الوقت نفسه قد يكون لكل طرف نزاعات مع الطرفين الآخرين. إلا أن حالة واحدة لم تحدث حتى الآن، وهو الموقف الذى قد تتقارب فيه المصالح الأمريكية والصينية فى مواجهة المصالح الأوروبية.

ولهذه الأسباب مجتمعة وغيرها، فإن المثلث الاستراتيجى الجديد بين الولايات المتحدة والصين وأوربا تتوافر لديه آليات تختلف عن نظيره القديم الذى سيطر على الشئون العالمية منذ الانفتاح الصينى فى 1971 حتى حدوث التقارب الصينى السوفيتى فى نهاية عقد الثمانينيات.

ورغم توتر المحورين الأمريكى الصينى والأمريكى الأوروبى، فإنه من غير المحتمل أن يطور أحدهما الطابع التنافسى أو المعادى الذى وصم العلاقات بين القوى فى المثلث الصينى السوفيتى الأمريكى القديم.

وبالطبع فإن النزاع الأمريكى الصينى حول تايوان، أو ذلك المحتمل اندلاعه حول كوريا الشمالية من المقدر أن يعتبر جذرياً من هذه النبوءة. كما أن استفحال التوترات عبر الأطلنطية حول قضايا عديدة مثل العراق وإيران والأمم المتحدة والناتو والتجارة، يمكنها أن تساهم فى توسيع فجوة التباعد بين الولايات المتحدة وأوروبا.

وعلى المدى القريب فإن قضية الحظر الأوروبى للسلاح على الصين من المحتمل أن تعتبر مسألة مثيرة للخلاف أو الانقسام. وتفسير ذلك أنه عندما يتم رفع هذا الحظر - علما بأنه لا مفر من إنهائه - وبغض النظر عن حجم وشدة الضوابط على الصادرات أو حتى مواثيق الشرف المسيطرة على الاستخدام الثنائى للتكنولوجيا، فإن الشعار السياسى لرفع الحظر هذا لن يلاقى ترحيبا فى واشنطن، بل يحتمل أن يشن حملات نقد ضخمة وإجراءات عقابية من قبل الكونجرس على الشركات الأوروبية. فالشعارات فى أحيان كثيرة قد تفوق فى خطورتها لغة الأسلحة.

فمن الصعب تخيل رسالة يكون تأثيرها أكثر تشويشاً على الولايات المتحدة من تلك الخاصة برفع أوروبا لحظرها لسلاح عن الصين، وذلك فى الوقت الذى تقوم فيه الصين بتعزيز قدراتها العسكرية، وتعمل على تمرير قوانين خاصة بمنع تايوان من الانفصال.

فهذا الحظر حين يتم رفعه سوف ينشر بذور عدم ثقة جبارة فى واشنطن كما ستمتد تأثيراته لمختلف أوجه العلاقات والتعاونات عبر الأطلنطية.

وتظل مسألة الحفاظ على مواقف دبلوماسية مشتركة والتعامل مع قضايا مثل برنامج إيران النووى أمراً بالغ التعقيد. فهل يجب أن تبدأ الدول والشركات الأوروبية فى بيع السلاح، وتنمية التكنولوجيا العسكرية لنقلها للصين، وفى الوقت نفسه تعريض القوات العسكرية الأمريكية للخطر وتغيير ميزان الأمن فى شرق آسيا كما يحتمل أن تؤدى هذه السياسة الأوروبية لقطيعة كبرى بين أوروبا والولايات المتحدة. فمثل هذه النهاية من شأنها تقويض التحالف الأطلنطى الذى أثبت أنه أساس النظام العالمى على مدى الـ 60 سنة الماضية. لذلك فإن وضع الصين فى المكان المناسب بين الولايات المتحدة وأوروبا يعتبر أمراً يتمتع بأولوية قصوى.

وفى هذا الوقت فإن الفرع التنفيذى للحكومة الأمريكية قد تأخر طويلاً فى إدارة حوار منتظم عن الصين مع أوروبا، وهو المقترح الأوروبى الذى أعلن عنه الاتحاد فى أعقاب أزمة حظر السلاح. كما يحتاج الكونجرس الأمريكى لتعميق تفهمه للعلاقات بين الاتحاد الأوروبى والصين. ولذلك تم تأسيس لجنة مراجعة أمريكية صينية اقتصادية أمنية ككيان انبثق عن الكونجرس فى 1999. وقد سافرت هذه اللجنة إلى بلجيكا وجمهورية التشيك فى 2004 للاستماع لآراء المسئولين الأوروبيين والخبراء ولتعلم المزيد عن العلاقات بين أوروبا والصين. ولكن الجهود لا تقف عند هذا الحد فالمسئولون والمحللون لا يقتصر احتياجهم على تطوير فهم أفضل للمصالح الأمنية الأمريكية فى شرق آسيا، ومدى تعقيدات العلاقات الصينية الأمريكية، بل يجب أن يتطرقوا للفهم العميق للصين المعاصرة. فالمشورة والتفاعل عبر الأطلنطى بشأن الصين أضحى أمراً شديد الأهمية لكلا الجانبين الأمريكى والأوروبى، حتى يتعلم كل منهما من الآخر، وكذلك فى الوقت نفسه للحد من نزوع الصين نحو تأليب الولايات المتحدة وأوروبا ضد بعضهما البعض. وبشكل أكبر، فالأطراف الثلاثة للمثلث الأطلنطى الجديد تتفق حول القضية الأكثر أهمية ومحورية وهى كيفية إدارة تكامل الصين فى النظام العالمى القائم بسهولة وآمان.

فالخبرة التاريخية تشير إلى أن القوى الصاعدة مثل أوروبا والولايات المتحدة قد ساهمت بشكل كارثى فى اضطراب النظام الكونى. لذلك أصبح من المتعين على عاتق أطراف المثلث الثلاثة ضمان ألا يعيد التاريخ نفسه. وهو التعهد الذى سيتطلب تنسيق جهود الأطراف الثلاثة للمتابعة والاهتمام بهذه القضية الكلية وعدم السقوط فى هاوية نزاعات فرعية. كما سيتطلب هذا التأمين للاستقرار العالمى إدارة حوار مكثف بين الأطراف الثلاثة مجتمعة. ويمكن أن تكون فكرة إقامة قمة سنوية أو نصف سنوية ليجتمع فى أروقتها رؤساء الدول الثلاث الولايات المتحدة والصين والاتحاد الأوروبى وسيلة عالية الجدوى كما يمكن أن تتقابل جماعات المصالح الوظيفية المنبثقة عن الحكومات الثلاثة بشكل منتظم لتنسيق المداخل المشتركة لمواجهة التحديات العالمية.

لذلك فإذا أمكن لهذه القوى الكونية القيادية الثلاث أن تلتمس طريق النجاح فى تحقيق مثل هذا الحوار الإيجابى وتنسيق السياسات والتعاون المثمر، فإنه لا محالة سيشهد العالم استقراراً أكبر وسيكون هذا المثلث الاستراتيجى الجديد وقتذاك وعلى إثر هذه النجاحات آلية إيجابية لتدشين حكم كونى فعال.

و كل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور نصاً و دون تعليق.

المصدر: الأهرام الإستراتيجية نقلاً عن The Washington Quarterly

 

مواضيع ذات علاقة:

 

التجربة الصينية تستحق الدراسة للاستفادة منها

هند تفتح أبوابها على المستثمرين في مجال الإعلام

وظائف شاغرة في الصين!

قوة الصين الناعمة.. مقاصدها وأخطارها

رغم مخاطر الاحتواء الحلم الصيني ..التجارة والقوة الناعمة

كيف تستـقطب الصين الخبرات العالمية ؟

الصين... مستقبل غامض لتجربة "الجمع بين نقيضين"

الصين في القرن الحادي والعشرين :المؤتمر السنوي للمجلس المصري للشئون الخارجية

مَـنْ يـنـتـظـر مَـنْ  ؟ ... الهـنـد والـعـالـم

دول الخليج والصين

الصين قادمة 

.. لكي لا تلعب الصين في المنطقة الرمادية..!

منْ سيفوز بسباق القرن··· الصين أم الهند؟

الصين: القمع الديني للمسلمين الايغور

حول نهضة الصين

فلنكن على بصيرة بطموحات الصين العسكرية  

ّّّّّاقتصاد مفتوح ... مجتمع مغلق!!

هلْ حقا الصين نمر من ورق ؟

آفــاق التجربــة الصينيــة··· وأسئلتهــا

فرصة العرب على المسرح الدولي في ظل تنامي نفوذ التنين الصيني

ماذا لو توقّفت الصين عن دعم الولايات المتحدة ؟

توجه الصين لزيادة مخزونها النفطي يثير قلق الأسواق

بدائل إفلاس العولمة

صراع القوتين العُظميين··· هل بلغ ساعة الخطر؟  

ميزان القوة العالمي يميل إلى آسيا

سؤال مرهق: هل تسيطر آسيا على القرن الحادي والعشرين...؟

قوة الصين الناعمة.. مقاصدها وأخطارها

رغم مخاطر الاحتواء الحلم الصيني ..التجارة والقوة الناعمة

تنافس العملاقين الهندي والصيني يهزّ صناعة المعلوماتية عالمياً

حول نهضة الصين

وظائف شاغرة في الصين!

الاقتصاد الصيني... والمبالغة في البيانات الإحصائية

الشيخوخة هل تهدد وفرة الأيدي العاملة في الصين؟

أميركا اللاتينية والحيرة بين النموذجين الصيني والهندي

الاقتصاد الصيني يجتاح أفريقيا

الصين تدهش العالم وتقترب من قمته 

الإغراق ...الصين ... منظمة التجارة العالمية

الهند تحاكي النموذج الصيني

دول الخليج والصين

حرب التجارة بين أمريكا والصين..بيان حقائق

أبعاد التعاون بين أميركا اللاتينية والصين

الرئيس الصيني قلق من النمو السريع لاقتصاد بلاده

ثورة الصين الجديدة في أمريكا اللاتينية

الهند والصين وصناعة المعلوماتية

مشكلة الصين.. ازدهار المدن ومعاناة الريف

آفــاق التجربــة الصينيــة··· وأسئلتهــا

توجه الصين لزيادة مخزونها النفطي يثير قلق الأسواق

الصين... مستقبل غامض لتجربة "الجمع بين نقيضين"          

هل تتحول الصين إلى عملاق اقتصادي أخضر؟               

انتقادات الغرب تدفع الصين إلى الكشف عن خاصرتها الرخوة    

الصين قادمة           

الصين تخطط للانتقال من التقليد إلى الابتكار والتحول إلى أمة الاختراعات

كيف تستـقطب الصين الخبرات العالمية ؟

تنافس العملاقين الهندي والصيني يهزّ صناعة المعلوماتية عالمياً

حرب التجارة بين أمريكا والصين..بيان حقائق

العجز التجاري مع الصين يثير مخاوف الأميركيين

حول تعقيدات الشراكة الأميركية- الصينية     

مساعٍ أميركية لتحسين العلاقات العسكرية مع الصين