ما هي المشكلة الحقيقة في المملكة العربية السعودية؟!
صبحي حديدي
هيئة البيعة" السعودية: هل تردّ للملك باليسار ما منحه الملك باليمين؟ من الإنصاف القول إنّ إصدار «نظام هيئة البيعة» الجديد في المملكة العربية السعودية، خصوصاً تعديل الفقرة ج من المادة الخامسة لنظام الحكم (والتي تسحب من الملك صلاحية تسمية وليّ العهد، وتسنده إلى هيئة البيعة)إحدى فقرات النظام الاساسي للحكم في السعودية، يُعدّ خطوة إصلاحية حاسمة من طراز غير مسبوق في المملكة. غير أنها خطوة ناقصة، لأنّ الملك هو الذي يقترح على أعضاء الهيئة اسم أو أسماء المرشحين لولاية العهد، والهيئة تتألف من أبناء الملك عبد العزيز وأحد أنجال المتوفين من أبنائه، الأمر الذي يعني إبقاء القرار منحصراً في دائرة أبناء سعود، حتى إذا كان النظام الجديد يمنح الهيئة حقّ رفض اقتراحات الملك واختيار مرشح آخر. ثمة، مع ذلك، هامش مناورة مزدوج النتيجة، لأنه قد يتيح المزيد من الاتفاق بين الأمراء، أو المزيد من الشقاق والخروج على إرادة الملك، وهذه حال لم تكن متوفرة في الماضي، أو كانت تتمّ في الخفاء وخلف جدران القصور السميكة الكاتمة للأسرار. هذا، بالطبع، إذا وضعنا جانباً حقيقة أنّ مرض الملك قد يعيقه عن القرار عملياً، رغم بقائه على رأس الحكم وفي سدة القرار، كما حدث مع الملك فهد طيلة العقد الأخير من حياته، حين أصيب بجلطة في الدماغ وعهد بتصريف شؤون المملكة إلى أخيه الأمير عبد الله، وليّ العهد آنذاك. هنالك، إلى هذا، حقيقة عتيقة راسخة تنتقص من الطبيعة الإصلاحية للخطوة الأخيرة، وهي أنّ أوالية التوريث والخلافة في المملكة ليست دائماً بالسلاسة التي تبدو عليها في الظاهر من جهة، وهي من جهة ثانية نادراً ما تأخذ صيغة سيرورة سياسية قائمة على توازنات القوّة ومحاصصة النفوذ وحدها، لأنها أيضاً مسألة إجتماعية تضرب بجذورها عميقاً في هياكل وتقاليد وأنساق المجتمع السعودي. في عبارة أخرى، ليس من الواضح حتى اليوم ما إذا كانت فلسفة الخلافة في المملكة قد ضربت صفحاً عن معظم أو حتى بعض تلك القواعد الصارمة، البسيطة تماماً مع ذلك، التي أرساها إبن سعود في عام 1933، حين اندلعت نزاعات الأبناء وقرّر الملك المؤسس توريث سعود وفيصل في آن معاً، لكي يقرّر ضمناً أن مبدأ الشراكة المعلنة هو القاعدة الناظمة للولاء العائلي. هذا هو بعض السبب في أنّ مبايعة الأمير عبد الله، صيف السنة الماضية، بدت سلسة ويسيرة وخالية من أية عواقب دراماتيكية آنية. صحيح أنه ليس عضواً في نادي «السديريين السبعة»، وهو أخ غير شقيق لهم، والملك الراحل نفسه كان في العام 1992 قد انفرد بتثبيت مبدأ مبايعة العضو «الأقدر» و«الأرشد» بين أبناء عبد العزيز (مما أعطى سقيفة المبايعة صلاحيات الطعن في قدرة أو رشد أي عضو مرشح بحكم السنّ، أو أقدمية التسلسل في الخلافة، أو حتى ولاية العهد بموجب إرادات سابقة واضحة). ولكن من الصحيح أيضاً أنّ الملك المتوّج اليوم كان النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء بقرار من الملك خالد، وكان ولي العهد، والنائب الأوّل، وقائد الحرس الوطني (75 ألف مقاتل، بتدريب أمريكي رفيع)، وأبرز المتحالفين مع عشائر شمّر التي تمتد أفخاذها حتى مثلث الحدود التركية ـ السورية ـ العراقية. ليس واضحاً، تالياً واستطراداً، ما إذا كانت قواعد الخلافة السابقة، مثل هذه اللاحقة، قادرة على إسقاط المبدأ الآخر في تحكيم الوراثة، أي إقامة ميزان الذهب بين القبيلة والفتوى والدولة، وبين السلطة القبلية وسلطة الإفتاء والسلطة المركزية، أياً كان المحتوى الفعلي لهذه الأخيرة. ذلك لأن جزيرة العرب لم تعرف، تاريخياً، مبدأ الحدود التي ترسم شكلاً جغرافياً للدولة ـ الأمّة، وأغلب أراضيها صحارى شاسعة قطنتها قبائل بدوية تمثلت السمة الأساسية لحياتها في التنقل الحرّ طلباً للكلأ والماء والغزو في «ديرة» قبيلة أخرى. وبذلك لم يُطرح مفهوما «الوطن» أو «المواطنة» بمعانيهما السياسية والاجتماعية والثقافية، وكان الإنتماء إلى هذا الكيان أو ذاك يتحدد من خلال علاقة شيوخ العشائر برأس ذلك الكيان أو بشيخ القبيلة المهيمنة. ولأن تلك العلاقات ظلت متحركة وغير ثابتة وبقيت عرضة للتبدل السريع والنوعي، فإن انخراط أبناء القبائل ضمن حدود ترسم كيانات سياسية أو تفصل بينها، بدا صعباً على الدوام. ولقد عرف هذا التقليد التاريخي ـ الاجتماعي منعطفات مركزية حين تعاظم التوتر بين العشائر ومراكز العمران والولايات العربية المأهولة (الحجاز، العراق، سورية)، وحين هاجرت عشائر عنزة من نجد إلى الحجاز، أو إلى شرق الجزيرة العربية لكي يشكّل بعضها ما يعرف اليوم بدولتَيْ البحرين والكويت، وحين بلغ التناقض أشدّه في العقد الأول من القرن بين مفهوم السير بيرسي كوكس والسلطة الكولونيالية البريطانية للحدود بمعانيها الجيو ـ سياسية، ومفهوم ابن سعود لحدود "الدولة ـ القبيلة" أو "الدولة ـ الديرة". وحين اضطر مؤسس المملكة إلى تطبيق مبدأ الزعامة المركزية، فإنه في الآن ذاته كان يستجيب صاغراً لواحد من أخطر مقتضياتها: الإلغاء التدريجي لامتيازات وأعراف وأنماط عيش الدولة ـ القبيلة حيث «الديرة» عالم صغير متماسك متلاحم مهما امتد في الفيافي والقفار. وليس من المبالغة التفكير في أنّ المعارضة الإسلامية المسلحة التي يواجهها آل سعود اليوم، هي بمثابة تطبيقات معاصرة لتلك التي تعيّن على ابن سعود أن يواجهها في مطالع القرن الماضي، وأن يقاتلها قتالاً لم يكن أقلّ ضراوة ممّا تفعل السلطة السعودية اليوم. تلك كانت مفارز فيصل الدويش وسلطان بن بجاد وضيدان بن حثلين، وهؤلاء كانوا كبار زعماء حركة «الأخوان» الوهابية المتشددة، والميليشيات الدينية المسلحة التي شيّدت العمود الثاني في السلطة السعودية. إنهم، حسب أمين الريحاني، «رُسُل الهول ورسل الموت في كل مكان»؛ وأمّا عند أحمد عبد الغفور العطار، في كتابه «صقر الجزيرة»، فهم: «كانوا جامدين يعيشون في ما يشبه الجبّ لا يبرحونه. وبلغوا من العنف والجهل أن حرّموا ما أحلّه الله، وأفتوا بغير ما أنزل، وكفّروا المسلمين، وأعلنوا الحرب على كل ما أنتجته الحضارة، وأنكروا على المصلحين إصلاحهم». وأما الشاعر عبد العزيز بن العثيمين فقد كتب، بعد انقلاب ابن سعود على "الأخوان" وتنكيله بهم: "يا غلاة الأخوان ضيّقتم الدين ورغبتم عن منهج الحنفاء/ قد عرفناكم جنود مليك، فمتى صرتم جنود السماء؟»... والأرجح، بذلك، أنّ معركة ابن سعود مع العشائر لم تنتهِ حتى يومنا، أو هذا على الأقلّ ما يستنتجه أندرو هيس في دراسة موسعة نشرتها «مجلة الشؤون الدولية» مؤخراً، ولم يتمكّن من بسط السلطة المركزية على العشائر و«رسل الموت» والدعاة الوهابيين المتناثرين هنا وهناك في أرجاء المملكة إلا بعد العام 1930. وإذا كانت أسلحة الحديد والنار قد نجحت في تطويعهم عسكرياً، فإن "أصول الدين" واصلت بقاءها في نفوسهم، واتخذت شكل مؤسسة عقائدية مستقلة جبارة، تتبادل التأثير والتأثر والشدّ والجذب مع بيروقراطية الدولة وشروط العصر وعواصف التحديث التي كانت تهبّ بين الحين والآخر لأسباب موضوعية صرفة. وهكذا فإنّ صيغة التعاقد بين المؤسسة السياسية والمؤسسة الدينية فرضت على النظام اعتماد مزيج من سياسات القوة بما تتضمنه من إضعاف للإمتيازات القبلية، وتوطيد للقرابات والولاءات، ودعم للأسس الإدارية وللبيروقراطية الضرورية الوليدة، وإتمام للزواج الناجح بينها وبين شركات النفط العملاقة، واستيراد التكنولوجيا، والمضيّ قدماً في التحالفات الإقليمية والدولية، وتطبيق استراتيجية أمنية انعزالية وجامدة ووقائية... في آن معاً. وكانت أربعة عقود من التصارع بين السلطة القبلية وسلطة الفتوى والسلطة المركزية قد أقنعت ابن سعود باستحالة إغفال أيّ منها لصالح أخرى، فأوصى أبناءه بإدامة التوازن الدقيق، وبذل آخر ما تبقى في جعبته من حنكة سياسية في ضمان خطّ تعاقبي آمن في وراثة العرش. ولكن تحوّل المملكة إلى منتج أساسي للنفط في عهد الملك سعود، وتجاوز سقف المليون برميل يومياً، أسند للعائدات النفطية وظيفة سوسيولوجية جديدة وخطيرة هي تدمير هياكل التوازن التي شيّدها إبن سعود، خصوصاً ذلك التشارك القلق بين القِيَم القبلية وأصول الدين ونظام الإدارة. والخبرة التي راكمتها الأسرة الحاكمة في تدبير الشأن القبلي لم تستطع تقديم إجابات مناسبة على أسئلة وتحديات العمران والتحديث (التي أضعفت الأواصر القبلية بالضرورة)، وتوزيع عائدات النفط (التي ضاعفت إيقاع الولاءات الشخصية وعلاقات الاستزلام)، والظواهر السياسية الإقليمية والدولية في ظل المدّ القومي العربي واشتداد الحرب الباردة. وربما كان العجز عن تقديم تلك الإجابات هو العامل الأكبر وراء قرار الأسرة الحاكمة بتنحية سعود وتنصيب فيصل، وذلك بغرض مواجهة تلك التحديات دون المساومة على مبادىء التركيبة السعودية، أي سلطة آل سعود، واستمرار الشراكة مع سلطة الفتوى والقراءة الوهابية للإسلام عموماً، فضلاً عن توطيد علاقات القرابة والولاء الشخصي. وكان عهد فيصل هو الطور الذهبي لدخول المملكة في النادي السياسي والإقتصادي الدولي، وفي البناء الحثيث لما عُرف فيما بعد بـ «الحقبة السعودية» في السياسة العربية. أما داخلياً فقد انطوى على مزيد من المقاربة المحافظة للشؤون الثقافية والدينية، وعلى حصر مهام التحديث في السلطة الممركَزة أكثر من ذي قبل، وعلى تخصيص قدر أكبر من العائدات النفطية لإحياء التراث القبلي من جهة، وإخضاع تنميته وتطويره لمؤسسات سلطوية صرفة من جهة ثانية. ولكن المعادلة كانت مسقوفة، أو محتومة بمعنى ما، ولم يكن في وسع المملكة أن تواصل انشطارها العميق والمؤلم بين حاجات المجتمع والحياة، وبين تركة الزواج القسري الذي جمع المؤسسة والقبيلة. من جانب آخر كانت سيرورة ارتهان المملكة للسياسة الأمريكية (من الإنفاق على الإنتخابات البلدية الإيطالية لكي لا ينجح الشيوعيون، إلى تحالف حفر الباطن واستقدام القوّات الأمريكية، وصولاً إلى غزو العراق...) تخلق وقائعها وظواهرها الرديفة أو المكمّلة التي لم تكن دائماً تأتي برياح تلائم سفائن آل سعود: من استيلاد "الأفغان العرب"، إلى الـ 15 سعودياً من أصل 19 انتحارياً نفّذوا هجمات 9/11، وصولاً إلى المعركة الراهنة ضدّ إرهاب "الفئة الضالة" حسب التعبير الرسمي، لكي لا نتحدّث عن اهتزاز شرعية آل سعود الدينية والسياسية، وتفاقم الازمات الإقتصادية، ومشكلات البطالة وانخفاض الدخل الفردي، ارتفاع والمديونية العامة، وعشرات المشكلات الإجتماعية والسياسية الأخرى. وتلك، غنيّ عن القول، هي ذاتها السيرورات التي استولدت ما يُسمّى بـ «القوى الليبرالية» أو «التكنوقراط» أو دعاة الإصلاح في صفوف المثقفين خصوصاً، وتوجّب أن تشكّل قطباً موازياً موضوعياً للقطب العقائدي الوهابي المشيخي، الذي التحم الآن بهيكليته القبلية وبات الحامل الرسمي للقِيَم القبلية والأعراف والتراث والماضي التليد والدين... ههنا التركة الثقيلة المعقدة التي يجابهها آل سعود اليوم، والتي لا تدفعهم إلى التكاتف الأقصى حول الملك الجديد، في أيّ وكلّ ملفّ يخصّ أمن الحكم واستمراره فحسب، بل تزجّهم ـ على نحو لا مثيل له منذ تأسيس المملكة ـ في صراع شرس من أجل البقاء. هذا مشهد يقوم على وضع عالق ومعضلة مفتوحة ومأزق مستديم، وعلاجه بحاجة ماسة إلى ما هو أكثر جذرية من محض "هيئة بيعة" تردّ للملك باليسار ما منحه الملك باليمين! * كاتب سوري- باريس و كل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور. المصدر: المثقف-20-11-2006
|