ملامح مستقبل النظام العالمي الجديد ( 1 )
توصيف النظام العالمي الجديد : ملامح المستقبل
نقول إن النظام القادم،ونؤكد أنه الآن قيد التبلور، قد لا يكون إلاّ نظاماً متعدد الأقطاب .لأننا لا نؤمن بأن المرحلة الحالية تؤهل لنظام أمريكي أحادي،فالاستعراضات الأمريكية تبدو استعراضات الدولة ذات القوة العسكرية والتي تعرف أن وضعها الاقتصادي في حالة تراجع ولهذا وبضرب من القوة تحاول أن تقيم استعراضاتها على أساس أنها قائدة العالم. و في الوقت الذي يؤخذ البعض بهذا الاستعراض،لأنهم اعتادوا على استعراضات القوة فإنهم ينسون أن الاستنزاف الذي أودى بالاتحاد السوفيتي له نظيره في أمريكا التي تبلغ مديونيتها ما يتجاوز /5000/ مليار دولار .وهذا ما تعرفه أمريكا لكن غرور القوة العسكرية يهيء لها التصور بأنها قادرة على تقديم مبررات لقيادة للعالم،وكأنها تنسى أن هذه القوة العسكرية لم تمنع الاتحاد السوفيتي سابقاً من دفع ثمن أخطائه المماثلة نسبياً لأخطاء أمريكا. و لكن إذا ما كان النظام العالمي الجديد يستبعد العمل العسكري على الأقل خلال فترة منظورة فإنه لا يعني فردوساً أرضياً على الإطلاق لأن أيّ نظام عالمي إنما يقوم على الصراع.و إذا كان الصراع العسكري قد تراجع الآن أو قنن ،لافرق ،فإن مبررات هذا الصراع ونعني به صراع الحضارات لا تزال قائمة حتى الآن (( ! )) .وقد يعاود الكرّة وإن بوسائل أخرى أو بنفس آليّات الوسائل القديمة ،مما سيُعتبر عندئذ إرتكاساً عن المشروع المُعلن بإطفاء المناطق المُشتعلة. وستختلف أساليب صراع الحضارات من صراع عسكري واقتصادي وثقافي إلى تفاقم الصراع الاقتصادي والثقافي والاجتماعي بشكل حاد. وهذا يقود إلى أن لايكون هنالك من نظام عالمي بمعنى اشتراك دول العالم جميعاً في صنعه والمساهمة في صياغته إذ أن هذا ما يبدو لنا مستحيلاً بالمنظور الواقعي الحالي. إن الطموحات النظرية بإنشاء نظام عدالة دولية، لا تتوافق مع نظام المصلحة الذي تقوم عليه السياسة على مستوى الدولة وعلى المستوى العالمي. والذين يدّعون أنهم يتخيليون إمكانية ذلك اليوم واهمون،حتى و لو كانوا من الذين يصوغون هذا النظام.فالدعاوى النظرية لم تكن قط دعاوى واقع. والنظام العدالي الدولي يبقى في التحليل الأخير نظام أمل ورغبة خاصة إذا كانت منطلقاته تقع على أساس الأمر الواقع فالنظام الدولي كمصلحة وكواقع ليس وليد هذه الأيام إنما هو وليد التجربة التاريخية للفعل السياسي والعسكري والاقتصادي على الأرض. ويجب أن نحدد أن مصطلح النظام يأتي من (ORDER) وليس من (SYSTEM)،بمعنى أن سمتي الأمر والتنظيم هما السمتان الغالبتان في هذا النظام،وبالتالي فهو ليس مجرد مؤسسة يتكافل أعضاؤها مشروعية اتخاذ القرار وتحمّل المسؤولية،إنما هو مؤسسة قائمة على أساس (الأمر) الذي يأتي من قادته،وهم هنا الدول العظمى. وإن مصطلح النظام السياسي العالمي الجديد يمكن اعتباره مصطلح (سيرورة)؛بمعنى أن النظام هو في طور التشكّل،وعليه فإنه يشير عندئذٍ إلى مجموعة التفاعلات التي تحدث لتصفية آثار النظام القديم والتي تتعاظم وتبلغ حدّ الصراع لتشكيل النظام الحديث.و لكن الوهمَ،كل الوهم في الرؤية التي ترى أن النظام العالمي يمكن أن يكون ثابتاً بمعنى السكون؛إنه نظام بقدر ما هو مُتغيّر،لكن قواعده العامة هي التي تَسِمُهُ بسمة النظام،وهي هنا وفقاً لمتحولات العالم الجديد: 1- الدولة كمطلق؛ أي كنموذج وحيد للمنتظمات السياسية وكرائزٍ أوحد في العلاقات الدولية ؛إذ لا يُسمح بأي علاقات سياسية خارج الدول أما الذين (يضربون من رأسهم كميليشيات ومجموعات ثورية ) فقد دخلوا خانة ما يُسمى بالإرهاب وهو مصطلح يُراد به تغيير القيم السياسية التي رافقت مشاريع الثورة في العالم،وإعادة ضبطه على إيقاع وحيد! . 2- ضبط جميع أشكال الصراع. 3- وضع مقاييس ضابطة للدول داخلياً وخارجياً. 4- إرساء قواعد دولية تمثّل التجسيد "المطابق" لتوازن القوى السائد. 5- النظام لا يعني بالضرورة "العدالة"؛إنما يعني "عدالة الضرورة"،أي إنه يجب أن ينسجم ومقاييس العدالة التي يفرضها الطرف أو الأطراف المهيمنة على هذا النظام. 6- إيقاف الأعمال العسكرية غير المضبوطة و تغيير مفاهيم العمل السياسي التي كانت تُشرعن العنف غير الرسمي تحت عنوان "الثورة" لتصبح كل الأعمال سابقة الذكر تحت لافتة "الإرهاب"،وبالتالي تستدعي القصاص. 7- تسوية المنازعات بالطرق السلمية. و رغم أن النظام العالمي، الجديد هو الآن في طور التكوّن،إلاّ أن الحديث عنه قد ظهر وللمرة الأولى في الخطاب السياسي العالمي على لسان الرئيس السوفياتي السابق "ميخائيل غورباتشوف" عندما أعلن عن بدء حقبة جديدة بالتعاون مع الغرب ونهاية الحرب الباردة،على اعتبار أن هنالك مجموعة جديدة من المبادئ الحاكمة للعلاقات بين الدولتين والتي ظهرت بعد البيريسترويكا وتتضمن: إحلال مفهوم المصالح والاعتماد المتبادل على مكان مفهوم الصراع في العلاقات الدولية مكان مفهوم التوازن الحرج،وكذلك إطلاق سياسة نزع السلاح وتفكيك النظم اللوجيستيّة العسكرية ذات سمة المواجهة. لقد استعاد الرئيس الأمريكي جورج بوش عام 1990 نفس المفهوم بهدف «التعبئة السياسية» الأمر الذي بدا وكأن النظام العالمي قد أنجز فعلاً،و أن كل ما تبقى هو تجسيده ممارسة،وهو أمر يبدو وكأنه "حرق للمراحل" استدعته ظروف الانفجار الجيو- ياسي إثر أزمة الخليج آنذاك. ورغم ذلك فإن الرئيس الأمريكي قد ذهب لاحقاً إلى التراجع واستخدام عبارة تقول: "أن حرب الخليج كانت المحك الأول لنظام عالميّ جديد"،بما يعني أن التسرّع في استخدام المصطلح على أنه واقع قائم قبل الحرب،قد تم تصويبه باستخدام هذا المصطلح، باعتباره نظاماً في طور التحقق لاحقاً. و عليه فإن سمة الطور الانتقالي الذي يمر فيه (واقع) النظام العالمي الجديد،تجعل الباحث يضطر إلى التريث في إطلاق المصطلح و كأنه أمر واقع .كما لا يجب التسرّع في اعتبار أن ما يشهده العالم اليوم هو أقرب وصف "الفوضى العالمية"المستمرّة إذ أن الانتقال من نظام إلى نظام قد يستغرق سنوات،و لكنه من المُلاحظ أنه انتقال «عقلانيّ» و تدّرجي.صحيح أن آفاق المستقبل غير واضحة إلاّ أنه من المؤكد أن هنالك قواعد عامة لهذا الانتقال،كما أن العالم المسيطر والمعنّي بتبلور صورة هذا النظام لا يسمح باختراق لا عقلاني لها،أثناء هذا التدرّج،و سمة الفوضى (الظاهرية) هي سمة مرافقة لكل مرحلة إنتقالية بين نظامين،إلا أنها هنا لا تلغي إن العقلانية السياسية مستمرة في أداء عملها. ولا بد لنا أن نقول أن الملامح المستقبلية لهذا النظام تفيد في القول أن هذا النظام رغم أنه يبقي على مفهوم السيادة من خلال إطلاقية مفهوم الدولة في العلاقات الدولية،و عدم السماح باختراق هذا المفهوم،إلا أن "الدولة"كما هي ذات سيادة بالمعنى المفهوميّ إلاّ أنها أيضاً بلا سيادة بالمعنى الحيثيّ.فقد بات واضحاً أن هنالك شرعنة لتعديّات بعض الدول العظمى على طلاقيّة مفهوم السيادة تحت عناوين مثل:«مبدأ التدخل الدولي الإنساني» أو مبدأً «التدخل الدولي لاعتبارات القيم الدولية»،وهذا ما حدث في الصومال أوائل 1993،وما حدث ولو سياسياً- ي البوسنة عام 1996.الأمر الذي يعني أن النظام العالمي الجديد،رغم كونه يعتمد الدولة أساساً،إلا أنه يتجاوز مفهوم (الدولة-الأمة) إلى مفهوم جديد هو (الدولة -الأمم أو العالم) و بالتالي فقد بدأ هذا النظام بتجسيد مبدأ تجاوز القوميات أو تعدّي القومية الذي كانت الشركات متعدّية الجنسيات قد أقامت شِقَهُ الاقتصادي قبل بزوغ فجر النظام العالمي الجديد بأكثر من خمس عشرة سنة. إذن،يمكننا أن نقول أن وضعية النظام العالمي الجديد يمكن تلخيصه على النحو التالي: 1- على الصعيد الدولي: سيتجسد النظام العالمي الجديد كنظام متعدد الأقطاب (بالمعنى الواسع للكلمة)، وإن كان هذا لا يعني عدم حدوث تحالفات بين الأقطاب لكنها ستكون تحالفات مؤقتة تقريباً. وهذا التعدد لا يكون تعدداً مباشراً فربما تسبقه مرحلة من مركزية تشكل الولايات المتحدة الأمريكية فيه الاساس سياسياً وليس اقتصادياً،وهو ووضع لن يستمر طويلاً بتقديرنا. 2- على الصعيد العسكري: إن النظام العالمي الجديد هو نظام الحد الأدنى من الفعل العسكري،وذلك بانتهاجه لمبدأ إطفاء المناطق المشتعلة.وهذا يعني أن الأزمات السياسية-العسكرية ستكون مهيأة للحل خلال فترة قريبة،وإن كان هذا لا يمنع من إشعال نهائي لبعض المناطق المتوترة من أجل دفعها للوصول إلى حل إنهاكي،إذا كان من غير الممكن الاتفاق على حلول تعكس الواقع المحلي والدولي الراهن والمطلوب،و بهذا تتهيأ الظروف الإقليمية لمجموعة حلول جذرية. 3- على الصعيد السياسي: إن النظام العالمي الجديد يميل إلى إرساء العقلانية السياسية كواقع نهائي في الممارسة السياسية العالمية. وبالتالي عدم السماح لاختراقات لا عقلانية لهذا الواقع.اضافة إلى أن السياسة العالمية ستميل نحو المزيد من المأسسة و بالتالي إلى ضبط السلوك السياسي والعسكري العالمي.كما أن التوجه سيكون نحو أنظمة سياسية تعتمد الضبط أكثر مما تعتمد الاكراه.أي أن الوجه الديمقراطي قد يتعمم بصورة أو بأخرى . 4- على الصعيد الجيو- سياسي : يميل النظام العالمي الجديد إلى التعامل الكتلي (أي كتلة لكتلة) في الوقت الذي كان فيه النظام العالمي القديم أو الأسبق قد مارس التعامل الدولي. فالمطلوب في هذا النظام هو أنظمة كتليّة، على الأقل في التعاملين السياسي والاقتصادي، بحيث لا تستطيع الدول الصغرى أن تتحدى النظام العالمي وكُتلُه العظمى ! وبالتالي فإن الاستقطاب العالمي الذي عرفناه في النظام الدولي السابق على شكل استقطاب دول لدول،سيغدو في النظام العالمي الجديد استقطاب كتل لكتل،أي أننا لن نعدم الاستقطاب بشكل كليّ. وإن هذا النظام سيكون نظام ضبط دولي أكثر فاعلية مما عهدناه من أساليب الضبط في النظام المنصرم.وهكذا فليس ثمة من نظام خارج الدائرة .إنه زمن عالمية السياسة والنظام السياسي العالمي. أخيراً،نستطيع القول بأننا مقبلون على عالم سياسي-اقتصادي جديد،قد تتغير فيه العلاقات الدولية و قد تختلف فيه مركزية القرارات أيضاً،لكن ومنطق اقتصاد السوق محلياً وعالمياً سوف يحكم اقتصاديات دولة، وفق مبدأ هو (الدول-الكتل) في المنتظمات السياسية. وكل ذلك بحسب رأي الكاتب نصاً ودون تعليق في المصدر . المصدر : من كتاب : ملامح الأفق : النظام السياسي العالمي الجديد ( سيرورة التشكّل) - بقلم - د.عماد فوزي شعيبي – في : http://www.dascsyriamag.net – المرسل : اياد محمد العلوي .
مـــواضــيــع ذات عــلاقــة :
◄مصير الفوضى الخلاقة الديناميكية الجديدة! ◄قراءة المستقبل لإدارة المستقبل
|