ديناميات السيرورة الديمقراطية والمجتمع المدني

 

محمد أبو رمان

 

 

تمثل اللحظة السياسية الراهنة في النظام العربي نقطة تحوّل تاريخية تحمل في ثناياها عملية تبدل وتغير في طبيعة النظام وأسسه  وشرعيته ومشروعيته الواقعية، أي قدرته على البقاء والاستمرار في ظل حالة العجز والضعف التي تزداد مظاهرها يوماً بعد يوم.  فعلى سبيل المثال - لا الحصر- يرى رضوان السيد في رسالته :

"مقالة في الإصلاح العربي"

أن النظام العربي الحالي اكتسب روافع مشروعيته وسماته العامة من فترة "الحرب الباردة". وبما أن هذه الحرب قد انتهت فإن هذا   النظام يسير في طريق الزوال والأفول.

وعلى الرغم من توافق كثير من المفكرين العرب على التوصيف السابق. إلا أن حالةً من الضبابية والاختلاف في تقدير المرحلة  القادمة وتعريفها، وتحديد معالم الطريق المؤدي إلى الإصلاح السياسي المطلوب. فهناك مقاربة فكرية ترى أن التحوّل الديموقراطي  يرتبط بانتشار الثقافة (المدنية- الديموقراطية) في أوساط المجتمع، بينما يرى خبراء أن العامل الثقافي هو عامل مفسر لاستقرار  الحالة الديموقراطية ورسوخها، وليس لنشوء عملية التحول.

ويربط كثير من المثقفين والخبراء بين النمو الاقتصادي وبين التحول الديموقراطي؛ إذ يقيسون درجة التطور السياسي بمستوى  الدخل الفردي، من خلال علاقة طردية بين المتغيرين. إلاّ أن المسافة الفاصلة بين النمو الاقتصادي وبين الوصول إلى التغيير  الديموقراطي غير واضحة لكثير من الخبراء، إذ لا توجد إجابات محددة واضحة عن هذا السؤال.

ما يفتقده العالم العربي هو وجود رؤية نظرية عميقة تسبر أغوار المرحلة الحالية وشروطها ومقوماتها وتقدم تفسيراً وتعريفاً  واضحاً لها، يسمح بإدراك الأرضية التي نقف عليها والآفاق الممكنة والمحتملة. هذه المقاربة النظرية ما زالت ضعيفة، مما يجعل   الواقع الحالي في مرحلة أقرب إلى الضبابية. لكن يمكن في هذا المجال الإفادة من مراحل التحول الديموقراطي في كثير من دول العالم  الأخرى التي تمكنت من العبور، والوصول إلى مرحلة النظم الديموقراطية المستقرة، خاصة ما يطلق عليها صموئيل هانتنجتون

"الموجة الديموقراطية الثالثة".

 بالضرورة لن تمر النظم العربية بالمراحل ذاتها التي مرت بها الدول الأخرى. لكن بلا شك فإن هذه بمثابة "قراءة إرشادية" للمرحلة  الراهنة.

 في هذا السياق يقدم كتاب :

ديناميات السيرورة الديموقراطية والمجتمع المدني"

لـ "غرايم جيل" (ترجمة شوكت يوسف، وزارة الثقافة السورية 2005) دراسة معمقة لمراحل التحول الديموقراطي من خلال  استقراء وتحليل عشرات حالات الدول التي شهدت تحوّلاً ديموقراطياً في الفترة الأخيرة، خاصة في أميركا اللاتينية وأوروبا  الشرقية.

يقوم هذا الكتاب على مقاربة تبدو أكثر واقعية، من خلال تقسيم عملية التحوّل الديموقراطي إلى ثلاث مراحل رئيسة:

الأولى: مرحلة اعتلال النظام.

الثانية: التحول الديموقراطي.

والثالثة: استقرار الديموقراطية. وفي النظر إلى الحالة السياسية العربية اليوم، فإنها تعيش مرحلة الاعتلال بأينع صورها..

 اعتلال النظام : أسبابه ومؤشراته

ُ عرّف "اعتلال النظام" بأنه تفكك النظام الرسمي وانحلاله واستبدال بنىً جديدة بالبنى والأساليب القديمة. لكن ليس بالضرورة أن  ينشأ عن عملية الاعتلال استبدال النظام الحالي بآخر ديموقراطي، فهناك العديد من التجارب التاريخية التي قام فيها نظام سلطوي  محل النظام السلطوي السابق.

وعلى الجهة المقابلة للمقاربة التي تربط الديموقراطية بدرجة النمو الاقتصادي، فإن اعتلال النظام ينشأ غالباً عن "أزمة اقتصادية"   تؤدي إلى العديد من المشكلات الاقتصادية التي يشعر بها المواطنون، كتزايد معدلات الفقر والبطالة والتضخم وضعف القدرة  الشرائية لدى الناس، مما يطرح تساؤلات كبيرة حول السياسة الاقتصادية للنظام. وفي حال كان النظام متماسكاً قوياً فسيكون قادراً  على احتواء الأزمة من خلال إجراءات اقتصادية ليبرالية، لكن إذا كان النظام ضعيفاً قد تؤدي الأزمة الاقتصادية إلى زلزلة جذوره  وبنيانه السياسي ذاته.

 المشكلة لا ترتبط بالأزمة الاقتصادية ذاتها. لكن بتداعياتها الاجتماعية والسياسية، خاصة في ظل النظم السلطوية التي تعتمد في  مشروعيتها على استرضاء فئات كبيرة من المجتمع من خلال سياسة اقتصادية رعوية. وفي حالة الأزمة الاقتصادية وتفاقمها يحدث  تعبئة مضادة للنظام، الذي يبدأ بخسارة قاعدته الاجتماعية شيئاً فشيئاً، وتتحول فئات كبيرة لممارسة الضغوط على النظام. في هذه الحالة قد تتفاقم أزمة النظام إذا ما بدأت النخبة الحاكمة تشعر بالقلق وعدم الثقة بالنفس، وهو ما يحصل إذا كانت النخبة  الحاكمة جديدة لم تُختبر في محكّات السياسة بعد. مما يؤدي - في المحصلة- إلى تضافر الأزمتين (السياسية والاقتصادية) على قدرة  النظام في احتواء المشكلات.

 ومن علامات عجز النظام حالة التفكك والاستقطاب التي تظهر داخل القوى المتحكمة والرئيسة فيه. فغالباًِ ما تنقسم هذه القوى إلى  جناحين:

الأول: "المحافظ" يرى أن النظام لا يزال قادراً من خلال سماته الحالية، على الاستمرار والبقاء.

بينما الثاني: "الإصلاحي" يرى أن النظام، حتى يحافظ على وجوده ويتلافى احتمالات الانهيار، لا بد أن يجدد ذاته، ويعيد النظر  في كثير من مقوماته بحيث يحافظ على الهيكل العام، لكن يغير كثيراً من التفاصيل. ومن الممكن جداً –كما سيأتي في المقال التالي- أن  تحدث "صفقة سياسية" بين الإصلاحيين في داخل النظام وبين "المعارضة المعتدلة".

ومن العوامل المؤدية – أيضاً- إلى اعتلال النظام ونمو أزماته العامل الدولي، الذي يتمثل بضغوط سياسية واقتصادية، إذا استبعدنا  انهيار النظام من خلال الغزو العسكري؛ فهذه الضغوط تساهم بدرجات متفاوتة في تأزم النظام. وهناك ضغوط النظام الاقتصادي  الدولي التي تلقي أعباء كبيرة على مدى قدرة النخب الحاكمة على رسم إستراتيجية اقتصادية داخلية تتجنب الانعكاسات السلبية للنظام  الاقتصادي العالمي. ويضيف عدد من الباحثين دور النظام الدولي في إيجاد مناخ عالمي محفز للديموقراطية، خاصة بعد إخفاق الأيدلوجيا الشيوعية، وظهور اتجاه عالمي نحو الديموقراطية والليبرالية إذا أسقطنا المؤشرات السابقة في "اعتلال النظام" على واقع النظام الرسمي العربي، نجد أنها تتجلي بدرجات متفاوتة في أغلب الدول  العربية. لكن السؤال هو:

إلى أي مدى يمكن أن يحتفظ النظام العربي بقدرته على البقاء؟

بالتأكيد لا يرتبط الأمر بالشرعية السياسية؛ فالنظم السلطوية تعتمد على الأمن بالدرجة الأولى، وعلى خوف الناس من التغيير. لكن  هناك عامل مدى قوة النظام ذاته ودرجة تماسكه، والمدى الذي وصلت إليه الصراعات داخل النخب الحاكمة، فكلها عوامل مؤثرة في  عملية الانتقال. إلاّ أنّ "بريزورسكي" يشير إلى عامل مؤثر، له أهميته الخاصة في الحالة العربية، وهو:

مدى وجود أو غياب البديل المقنع للناس.

فكثير من الأوقات يكون مصدر قوة النظام خوف الناس من حالة الفوضى والاحتمالات القادمة، ولعل هذا أحد الأسرار الرئيسة في   عدم انهيار النظام العربي إلى الآن.

التحوّل الديموقراطي: مراحله وسيناريوهاته

عملية ولادة الديموقراطية من رحم النظام السلطوي ليست بالنظرية الناجزة بعد في حقل العلوم السياسية، لكن يشير (غرايم جيل)    إلى جملة من العمليات والمراحل التي تصاحب عملية التحول الديموقراطي، أبرز هذه المراحل "اللبرلة" التي يلجأ إليها النظام  السلطوي للحيلولة دون حدوث تغييرات بنيوية في قواعد النظام وأصوله، وتدفع النخب الإصلاحية في النظام باتجاه "اللبرلة" ودرجة  من الانفتاح السياسي مقابل حالة من التعنت من قبل النخب المحافظة، التي لا ترى أن حالة اعتلال النظام وصلت إلى مرحلة الخطر،  الذي يبرر المراهنة بتبني إصلاحات ليبرالية.

 ترى العديد من الأدبيات التي تتناول موضوع الإصلاح السياسي أن "اللبرلة" هي مرحلة أساسية – في أغلب الدول التي تمر  بمرحلة انتقالية-، وتمثل "اللبرلة" محاولة من النظام السلطوي للتحايل على استحقاق الإصلاح السياسي الديمقراطي، من خلال انفتاح  سياسي جزئي يقوم في بعض الحالات على إطلاق سراح السجناء السياسيين، وحرية التعبير، وتوسيع قاعدة المشاركة  السياسية في القضايا غير الحساسة أو غير المؤثرة. فيما يُعرّف هانتنجتون "اللبرلة" بأنها " اختيار جزئي من قبل النظام السياسي لا  تتضمن إمكانية اختيار المسؤولين الحكوميين من خلال انتخابات تنافسية حرة". أما (لوسيانو مارتيز) فيعرف "اللبرلة" أنها تبني  الديموقراطية باستثناء أربعة مبادئ رئيسة في اللعبة الديموقراطية: الإجماع على قواعد اللعبة، تحمّل الحكام مسؤولياتهم السياسية،  حق التمثيل السياسي، تداول السلطة.

صحيح أن "اللبرلة" خيار النخبة الحاكمة، للحد من تداعيات اعتلال النظام، إلا أن نتائج ومخرجات عملية "اللبرلة" ليست مضمونة   دوماً. فقد تحفز هذه الفترة قوى اجتماعية وسياسية على زيادة هامش مطالباتها ومدافعتها للنظام السياسي باتجاه مزيد من الإصلاح  السياسي والتحول الديموقراطي. في هذا المجال، وإذا كانت المعارضة أو القوى السياسية على درجة من القوة والكفاءة السياسية قد  تصل إلى عقد ميثاق جديد مع النخب الإصلاحية داخل النظام الحاكم، يقوم هذا الميثاق أو تلك "الصفقة" – بعبارة أدق- على الحل  الوسط والالتقاء بمنتصف الطريق. في حين تختلف مضامينها من دولة إلى أخرى بين شروط إجرائية أو شروط جوهرية تتعلق  بصميم الحياة السياسية و يعرف هانتنجتون الصفقة السياسية بين اللّينين في النظام والمعتدلين في المعارضة بأنها :

مقايضة المشاركة بالاعتدال"؛

بمعنى السماح للمعارضة بالمشاركة في مقابل رفض المعارضة للخيارات الراديكالية، وقبولها بالحلول الإصلاحية المعتدلة. وتمثل    "الصفقة مرحلة متقدمة وإيجابية في عملية التحوّل؛ إذ إنها تحد من حالة الضبابية واللا يقين الناشئة عن اعتلال النظام، وهي  ضمانات كبيرة للطرف الليّن (الإصلاحي) في النظام بالتقليل من خسائره أو مخاوفه من عملية التحوّل أو بعبارة أخرى ترشيد  الانتقال إلى الديموقراطية.

ما يلفت الانتباه في حالة "الصفقة" أنّها تقوم على خيارات وممارسات نخبوية أي بين نخب في الحكم ونخب في المعارضة، وتستبعد  غالباً خيار الجماهير. وهذا الاتجاه يعكس رؤية تيار عريض من الخبراء والمثقفين الغربيين، الذين يعدون دَوْرَ الجماهير    وقوى المجتمع المدني ثانوياً وليس أساسياً في عملية التحول الديموقراطي؛ إذ يرصد هانتنجتون (6) حالات فقط من (33) حالة تحوّل لعبت فيها الجماهية دوراً محورياً ورئيساً في المقابل فإنّ سيناريوهات التحوّل الديموقراطي استناداً إلى أدبيات التحوّل الديموقراطي تأخذ عدة صيغ؛

الأولى "مبادرة النظام"، ويقوم هذا (السيناريو) على تصوّر أن ميزان القوى بين الحكم والمعارضة يميل لصالح الحكم؛ إذ ينشأ  إصلاحيون - في النظام- ويتمكن الإصلاحيون من تحقيق نفوذ كبير داخل النظام، ويبادرون إلى القيام بإصلاحات ليبرالية، تتسع  دائرة مطالب المعارضة المعتدلة بمزيد من الإصلاحات. فيقوم الإصلاحيون بالتفاوض مع المعتدلين في المعارضة ويتوصّلون معهم  إلى اتفاق يعيد تأسيس جزء من بنية النظام وأدواته باتجاه توسيع دائرة صنع القرار ومحاسبة السلطة والحريات العامة.

في المقابل يقوم (السيناريو) الثاني على تصور أن ميزان القوى يميل لصالح المعارضة على حساب الحكم، ويقوم هذا التصور أن  النظام ينشغل بـ"اللبرلة"، وتستغل المعارضة هذا الوضع لتكثيف نشاطها، فترد الحكومة بعنف لاحتواء الموقف، يعمل قادة  الطرفين على احتواء الوضع من خلال سلسلة كبيرة من المفاوضات التي تتسم بالصعوبة والشد والجذب مما يؤدي في المحصلة إلى  اتفاق يقوم على توسيع الضمانات ومكاسب سياسية كبيرة للمعارضة.

أما (السيناريو) الثالث والأخير فيقوم على تصوّر أنّ تقود جماعات المعارضة التحوّل والتغيير بعد أن يسقط النظام أو يُسقَط. ويفترض هذا (السيناريو) أن النظام ضعيف من حيث الكفاءة السياسية، وأنه لا ينجح في صد ضغوط وحملات المعارضة المتتالية؛ فيردّ بعنف، مما يزيد حالة العزلة والضعف، ويؤول في النهاية إلى السقوط، فتتولى المعارضة تصميم عملية التحوّل والصيرورة الديموقراطية.

القيمة الحقيقية للسيناريوهات السابقة، المستنبطة من استقراء حالات التحوّل في العديد من دول العالم، أنّها تقدم رؤية استشرافية للمرحلة السياسية القادمة، بعد حالة الاعتلال التي يعاني منها النظام العربي اليوم. لكن – كما ذكرتُ سابقاً- ليس بالضرورة أن تمر الدول العربية بالمراحل أو السيناريوهات نفسها، وإن كان سيناريو "الصفقة" مرشح للنضوج في العديد من الدول العربية. لكن الأمر يتطلب كفاءة وجرأة سياسية من قبل الإصلاحيين في الحكم والمعارضة المعتدلة. لكن في الحالة العربية تمثل جماعة الإخوان المسلمين وحركات الإسلام السياسي الانتخابي مركز الثقل في المعارضة العربية، وهو ما يضع على عاتق هذه الحركات مسؤولية إدراك اللحظة السياسية وقواعد التعامل مع النخب الحاكمة من ناحية. وأن تجعل مسألة الإصلاح السياسي والمطالب الديموقراطية لبّ خطابها السياسي وتفاوضها مع النخب الحاكمة.

فهل نشهد مثل هذا السيناريو في المرحلة القادمة؟

وكل ذلك نصاً ودون تعليق بحسب رأي الكاتب في المصدر.

المصدر : http://204.187.100.80/articles