أوروبا تحتاج إلى سياسة شرق أوسطية مختلفة
كريستيان كوخ
في خطاب ألقاه أخيرا بنيتا فيريرو ـ فالديز، مفوض العلاقات الخارجية الأوروبي، وصف الأزمة القائمة في منطقة الشرق الأوسط بأنها «إحدى أخطر الأزمات في المنطقة منذ سنوات عديدة». من المؤكد أن تقييمها لا يجانب الحقيقة، ولا سيما أن الوضع الإقليمي برمته مرشح للانفجار. الوضع القائم، بكل ما أوقعه من خسائر بشرية ومادية، استمر أكثر مما يجب بسبب الخلاف بين الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن على وضع آلية كفيلة بوقف الحرب المستعرة في لبنان. لقد كشفت هذه الأزمة عن خلافات حقيقية بين الولايات المتحدة وأوروبا في ما يتعلق بمنطقة الشرق الأوسط. وفي هذا السياق، فإنه ما دامت المبادرات قريبةً أكثر مما يجب إلى الموقف والتوجه الأميركيين، فإن تأثير السياسة الأوروبية سيبقى محدوداً جداً. لذلك، فإن أوروبا تحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى أن تسأل نفسها هل بإمكانها فعلاً التمسك بأهمية الشراكة بين ضفتي الأطلسي في ما يتعلق بمنطقة الشرق الأوسط؟ أو هل انتهاج مسارٍ أكثر استقلاليةً ـ وربما منفصلاً ـ سيكون أكثر نجاحاً ونجاعةً؟إن الجهود الأميركية ـ الأوروبية المشتركة تُجاه منطقة الشرق الأوسط فشلت في تحقيق نتائج تُذكر. أما في ما يتعلق بإيران، فإن الجهود الدبلوماسية التي بذلتها الترويكا الأوروبية (بريطانيا وفرنسا وألمانيا) أُجهضت لأن الولايات المتحدة ترفض دخول أي مفاوضات مباشرة مع طهران، ولم تبقَ الآن سوى محاولة أوروبية لتقديم موقف غربي موحد يحدوه أمل واهم بأن تقبل حكومة أحمدي نجاد التراجع عن موقفها مقابل منافع اقتصادية وسياسية لا يزال يكتنفها الغموض وتفتقر إلى معالم واضحة، وهي تعتمد في جميع الأحوال على حسن التصرف الإيراني المستمر. لقد لعب الاتحاد الأوروبي حتى الآن دور الوسيط لا المفاوض. أما إيران، فقد نجحت حتى الآن ولا سيما أنها ترى الولايات المتحدة ضعيفةً وعاجزةً استراتيجياً أمام هذه المعضلة. أضف إلى ذلك، أن احتمال توجيه ضربات جوية إلى منشآتها النووية لا يخيف القيادة الإيرانية. في العراق، وعلى الرغم من أن بعض الدول الأوروبية لا تزال تشارك في قوات التحالف، فإن من الواضح أنه لم يؤخذ مطلقاً برأي هذه الدول، ولم تتم استشارتها حول كيفية سير العمليات أو الخطط الطويلة الأجل المتعلقة بإدارة العراق وتنميته. وبعد ثلاث سنوات من الإدارة الأميركية الكارثية التي تدفع العراق إلى شفير حرب أهلية، ترى أوروبا نفسها الآن أمام إمكانية انسحاب أميركي لتقوم هي بالتعامل مع الفوضى العارمة التي خلفها الاحتلال الأميركي للعراق. لقد أصبح من الصعب القبول بأن تستمر أوروبا بدورها «الداعم» في العراق. أما في فلسطين، فإن الاتحاد الأوروبي هو الذي عمل على استمرار الإدارة الفلسطينية طوال سنوات الفوضى وبذل الجهود المضنية للحد من آثار الكارثة الإنسانية. فمنذ عام 1994 حتى الآن، وصلت قيمة مساعدات الاتحاد الأوروبي وبعض دول الاتحاد لفلسطين إلى ما يزيد على أربعة مليارات يورو. الآن وبعد مرور عقد، فإنه يصعب الحديث عن إنجازات تذكر، ويعود الفضل في ذلك للتدمير الإسرائيلي المستمر للبنية التحتية الفلسطينية وعدم رغبة الولايات المتحدة في إعادة عملية السلام إلى المسار الصحيح.في جميع هذه الحالات، أدى تردد أوروبا في اتخاذ موقف أكثر استقلالية عن واشنطن إلى تعزيز الوضع القائم في المنطقة. ولم يعد بإمكان أوروبا بعد الآن الاستمرار في ترويج السياسات الأميركية في الوقت الذي ترفض فيه واشنطن إجراء محادثات مباشرة مع دمشق وطهران وحكومة حماس، أو في الوقت الذي لا تزال فيه واشنطن عاجزة عن التوصل إلى فهم واضح بأن العديد من المشكلات جاءت نتيجة لسياساتها في هذه المنطقة. لقد حاولت الحكومات العربية مراراً أن تخبر واشنطن بالخطوات التي يجب اتخاذها لتهدئة الأوضاع، إلا أنها لم تَلْقَ منها آذاناً صاغية. وبدلاً من ذلك، تقوم الولايات المتحدة بتزويد إسرائيل بالأسلحة والقذائف «الذكية» حتى تستمر في قصف بيروت في وقت تتحدث فيه واشنطن عن احتمال قيام حرب مع إيران. إن الأزمة القائمة لم تجر حتى الآن إلا المزيد من مشاعر العداء لأميركا والغرب بين صفوف الشعب العربي. لقد أدت هذه الأوضاع إلى تشجيع التطرف من ناحية وإحراج الحكومات العربية ووضعها في موقف الدفاع عن النفس من ناحية أخرى. وكانت وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس قد دعت إلى إقامة «شرق أوسط جديد»، إلا أن السياسات الأميركية المتبعة الآن لم تؤدِّ إلا إلى تفاقم الخسائر البشرية والمادية. وفي ظل إدارة الرئيس بوش نجحت أميركا في عزل نفسها عن العالم كما لم يحدث من قبلُ منذ نشأتها. فدائرة أصدقاء أميركا في منطقة الشرق الأوسط آخذة في الانكماش، والذي تبقى منهم لم يُخفِ خيبة أمله وامتعاضه من فشل إدارة بوش حتى الآن في الاستماع إلى صوت العقل.نتيجة لذلك، فإن البحث عن بدائل أخرى وحلفاء محتملين قد بدأ فعلاً. صحيح أن الولايات المتحدة ستحتفظ بدور مهم في المنطقة حتى الآن، وذلك بسبب تفوقها العسكري، إلا أن العديد ينظر إلى هذه القوة على أنها ذات منافع محدودة. فما يحدث في أفغانستان والعراق ولبنان يؤكد أن أنظمة التسليح التي تكلف مليارات الدولارات والقوات الجوية الخارقة ليست بالأدوات التي تستخدم للتعامل مع الجماعات المسلحة، وأن القوة العسكرية لا يمكن أن تضمن الأمن القومي أو تسهم في إعادة بناء الأمم ونشر الديمقراطية. في ما يتعلق بمنطقة الشرق الأوسط، فإن أوروبا بقيت في الظل أكثر مما يجب، وحان الوقت الآن لتنأى بنفسها عن السياسات الأميركية الفاشلة في هذه المنطقة. أما إذا كانت أوروبا لا تستطيع أخذ مبادرة جماعية، فإن على بعض الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي أن تأخذ زمام المبادرة. إن استعداد بعض الدول الأوروبية مثل ألمانيا وفرنسا لاتخاذ مواقف معارضة لغزو أميركا للعراق يجب أن يُنظَر إليه على أنه سابقة لا بد من الاقتداء بها وتكرارها في المستقبل. من المؤسف حقاً أن التركيز منذ ذلك الوقت ينصب على ترميم العلاقات بين ضفتي الأطلسي وتناسي تلك الخلافات بأسرع وقت ممكن. ولكن، وكما تؤكد الأزمة في لبنان، فإن السياسات الأميركية لا تزال تسير في الاتجاه الخاطئ، ولم يعد بإمكان أوروبا أن تتحمل بعد الآن السير على هذا الطريق. * مدير برنامج دراسات العلاقات الخليجية الأوروبية ـ مركز الخليج للأبحاث و كل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور. المصدر: الشرق الأوسط اللندنية-15-8-2006
|