هل نتخطى "جرحنا النرجسي"... ونتعلم من الغرب؟
خالد الحروب
قد يرى كثيرون في السؤال الذي يحمله عنوان المقال تغافلاً عما فعله الغرب بنا ماضياً, وما زال يفعله بنا راهناً. وسيراه كثيرون أيضاً سؤالا ترفياً يتناسى الإرث الاستعماري الطويل ومخلفاته التي لا زلنا نعاني منها حتى الآن, إذ وطأته تشل جوانب عديدة من حركتنا العامة. كما قد يُنظر إليه وكأنه نازل من علياء التنظير التي لا يدميها واقع مرير, فيه حروب وجيوش واستغلال ودم يسيل هنا وهناك, للغرب فيها النصيب الأكبر. لكن ذلك كله, على وجاهته, لا يغطي حقيقة واقعة وهي أن ذلك الغرب المتوحش هو أيضاً الغرب الحضاري الذي صنع العالم الذي نعيش فيه, ليس فقط تكنولوجياً بل نظماً وإدارة وتعليماً وحداثة. والتحدي الذي رافق علاقتنا الملتبسة مع الغرب الجدلي منذ أكثر من قرنين هو كيف نتعامل مع وجهي الغرب: الاستعماري والحضاري. وتتناسل عن ذلك السؤال المقلق أسئلة أخرى عديدة لا تقل إقلاقاً, أولها: هل نوقع أنفسنا بأنفسنا أسرى لعدائنا المبرر لوجه الغرب الاستعماري, فنقطع طوعاً واختياراً سبل التعلم من وجهه الحضاري؟ على بساطة السؤال, وربما سذاجته, إلا أنه لا زال السؤال الأبرز في واقعنا الحضاري, والسياسي, والثقافي, والاجتماعي. فالغرب وما أنتجه في جوانب العيش والحياة والاجتماع يحيط بنا من كل مكان. ولا نستطيع الفكاك من قسوة سؤاله إلا بمواجهته بما أنتجه. لحظة الغرب في التاريخ الإنساني لحظة طاغية وفريدة وتفوقه مبهر وهو لا يحتاج إلى اعترافنا بذلك التفوق. والتحذير المسطح وشبه الصبياني الذي يتردد بسذاجة على ألسنة جمهورنا العام, بما فيه جحافل حاشدة من المثقفين, الناهي عن "الانبهار بالغرب" يعكس عمق قسوة السؤال وفشل التعامل معه أكثر مما يضمر إجابة عقلانية أو نهج تفكير وتعامل. هل ننبهر بحالنا المتخلف إذن؟ أم نتجمد عند التغني بماضينا الذي انقضى منذ قرون طويلة, أم نحلم بمستقبل طوباوي يعيد ذلك الماضي من دون المرور بالحاضر؟ من دون أن نتخطى "جرحنا النرجسي" إزاء تعاملنا مع حضارة الغرب, وما لم نتخطَّ عقبة الانحباس المعرفي والسيكولوجي الطوعي في ماضينا, فسنظل نتخبط ليل نهار فيما هو حولنا الآن. ما لم نعترف بأن مصدر حضارة عالم اليوم الذي يجب أن نتعلم منه هو الغرب فإننا لن نتقدم إلا إلى الوراء! والدرس الأول الذي يجب أن نقرأ أبجديته، والذي علمنا إياه الغرب هو التعلم من الغالب ومن المتفوق حضارياً. وهذا الدرس عمره أكثر من ثمانية قرون عندما أيقن الغرب المتخلف عندئذ أنه لن يتقدم ما لم يتعلم من حضارة العرب والمسلمين المتفوقة. كان العرب والمسلمون قد حاصروا الغرب بالفتوحات والاحتلال. وسيطرت أساطيلهم على فضاء المتوسط وحكموا مدنه وموانئ ضفتيه. وصارت حواضر صقلية وجنوة وجنوب فرنسا وجنوب أسبانيا تشع بالحضارة القادمة من الصحراء. وفي خضم هزيمة الغرب العسكرية والحضارية اشتبكت نخبه مع السؤال الذي نشتبك معه الآن: كيف نتعامل مع حضارة العرب والمسلمين التي فيها الاحتلال وفيها التقدم؟ لم يصل الغرب إلى الإجابة بسهولة إذ كان التعصب الديني والتخلف الثقافي والعداء للعرب كغازين وفاتحين قد أوصد أبواب الاستفادة في مرحلة الاتصال الأولى (تماماً كما هو حال تعصبنا الآن!). لكن مع انتشار حضارة العرب والمسلمين ازدادت وطأة السؤال, وصار الجواب الحاسم يتشكل شيئاً فشيئاً إلى أن جاء على ألسنة مؤرخين ومثقفين نافذي البصيرة: لابد أن نتعلم من الحضارة العربية والإسلامية إن أردنا التقدم وإن أردنا التخلص من التخلف الذي نعيش فيه. ولابد أن نطامن من كبريائنا ونلعق جراحات الهزيمة ونقتبس مصادر التحضر والقوة إن أردنا أن نرتقي إلى سوية ندية مع "الغزاة". إن قررنا التمترس خلف قواعدنا التقليدية ونظمنا الغارقة في التعصب واللاعقلانية، فإن سيل هزائمنا سيتوالى ولن يتوقف. عندما تبنى الغرب ذلك الجواب بدأ زمنه وزمن العالم يتغير. يُدهش المرء عند قراءة تفاصيل جواب الغرب هذا على سؤال الحضارة الإسلامية في العصور الوسطى, كما يوردها كتاب: "الدين الخفي للحضارة الإسلامية" لمؤلفه صالح الجزائري، الصادر بالإنجليزية حديثاً. ولئن كانت أطروحة الكتاب تعيد إنتاج المقولة المشتهرة حول إنكار المساهمة العربية في تأسيس حضارة الغرب, إلا أن ما يرد على هامش تلك الأطروحة هو الأكثر أهمية. وهو تسجيل الاندفاعة الغربية الهائلة للتعلم من المصادر العربية والإسلامية بلا حدود. فيرصد الكتاب على سبيل المثال كيف وقف علماء الغرب إزاء الإنتاج العلمي العربي والإسلامي, وقرروا ترجمته كله إلى اللغات اللاتينية. وكيف أن حركة الترجمة الواسعة من العربية التي نشأت أول ما نشأت في طليطلة في القرن الثاني عشر الميلادي, وضعت نصب عينها هدف النهل من المعرفة بلا حدود. ويقتبس المؤلف عن أحد المؤرخين الأوروبيين, "غرانت", قوله: "لقد كان العلماء اللاتينيون في القرن الثاني عشر على يقين مؤلم بأن حضارتهم متخلفة بمراحل عن حضارة الإسلام في حقل العلوم الطبيعية والفلسفة. وقد واجهوا خياراً واضحاً: إما أن يتعلموا من تفوق العرب أو يستمروا في تخلفهم. وقد اتخذوا قرار التعلم وأطلقوا حملة واسعة للترجمة وبأقصى مدى واستطاعة ممكنة. ولو اعتبر أولئك العلماء أن حضارتهم مساوية لحضارة العرب وأنه لا حاجة بهم إلى الترجمة لربما ما رأينا الازدهار العلمي الذي وصلته أوروبا فيما بعد". يفصل المؤلف في دور الأماكن والمناطق التي مثلت مصادر مهمة من مصادر التأثير الإسلامي في الحضارة الأوروبية فشملت كل نقاط التماس الجغرافي التي اختلط فيها العرب والمسلمون بالأوروبيين. وكيف انتقلت علوم العرب والمسلمين عبر العقود وبتناغم وئيد ومدهش. والمهم في هذه المسألة أن الإقبال على العلوم العربية والاعتراف بها من قبل مجتمعات هذه المدن, وقادتها, وعلمائها امتاز بعدم التردد. بل كان ثمة نهم عند كثير من الحكام مثل "فردريك الثاني" ملك صقلية بعد انتهاء الحكم الإسلامي فيها في القرن الحادي عشر, والذي كان بلاطه نموذجاً لتشجيع المعرفة والعلم والاقتباس منقطع النظير عن العرب. ويذكر المؤرخون أن "فردريك الثاني" كان منبهراً بالحضارة العربية وما خلفته, مقارنة بظلام أوروبا, وأحاط نفسه بعلماء متبحرين في علوم العرب والتحضر الإسلامي. وفي سياق دور الأفراد يدرس المؤلف دور العلماء سواء العرب والمسلمين أو الأوروبيين الذين تأثروا بالحضارة الإسلامية وجاءوا إلى جامعاتها وتعلموا العربية ثم رجعوا إلى الحواضر الأوروبية ولم يترددوا في نسخ ما رأوه عند العرب. كما يدرج أدوار الرحالة والتجار والطلبة والحجاج في نقل المعرفة العربية الإسلامية إلى أوروبا. فقد كان هؤلاء جميعاً بمثابة رسل للحضارة الإسلامية. وُيضاف إليهم دور المترجمين والوسطاء اليهود في الحضارة الإسلامية الذين أتقنوا العربية واللغات الأخرى وترجموا العلوم الإسلامية إليها. وينقل المؤلف عن مؤرخين أوروبيين وصفهم ليهود الحضارة الإسلامية بأنهم كانوا "مخازن الحكمة العربية", وهم الذين نقلوا تلك الحكمة إلى مدن جنوب أوروبا في إيطاليا وأسبانيا وفرنسا. الدرس العميق هنا ليس نفخاً لنفس بالتفاخر بالماضي, بل بالتعلم من الحضارة السائدة بلا تردد وعدم الوقوع في أسر الماضي. للمرء أن يتخيل أن "الجمهور الغربي العام" في القرون الوسطى المسيطر عليه بدعوات التعصب الديني كان يتهم كل من يدعو إلى تقليد العرب والمسلمين والاستفادة منهم بـ"الانبهار بالعرب" والتبعية لهم. لكن لولا ذلك التقليد والاستفادة من العرب لما نهض الغرب بالأمس, ومن دون تقليد الغرب والاستفادة منه فلن ينهض العرب اليوم. و كل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور. المصدر: الإتحاد الإماراتية-26-6-2006
|