إعادة إعمار الشخصية العراقية
علي تركي نافل
الكل يصف الشارع العراقي الآن سواء على الصعيد الرسمي أو الشعبي، بانه يفتقد إلى الأمن والاستقرار، وقد يكون هذا جزءاً مهماً ورئيساً من مشهد هذا الشارع، ولكن هذا لا يمنع من أن يكون هناك عامل مهم ايضاً ويمثل نسبة كبيرة من مساحة هذا المشهد، غفلته أو تغافلت عنه أو اهملته ولم تعطه الاهمية المناسبة اغلب الجهات الرسمية أو الشعبية، هو (الازمة الاخلاقية والقيمية للشخصية العراقية)، المتمثلة بالكثير من المواقف والحالات، فعلى سبيل المثال نطالع اليوم الحرية المنفلته التي يمارسها البعض باسلوب يتقاطع مع مصالح الآخرين وخصوصياتهم وممتلكاتهم، ونشهد ارتفاع نسبة الجريمة بكل أنواعها، ونتلمس تفصيلياً سيادة مبدأ (المال أولاً) على حساب كل الاعتبارات الانسانية والروحية والاخلاقية، فأصبحت الحياة عبارة عن بورصة تنافسية وليس حياة إنسانية يحتفظ فيها الإنسان بكرامته ومكانته كقيمة عليا. كما صرنا نواجه نزعة شيوع العنف مقابل غياب منطق العقل في اغلب تعاملات الناس اليومية، فبات العنف هو الوسيلة المفضلة لدى الكثيرين للحصول على حقوقهم أو للحصول على ما هو ليس من حقهم أيضاً. لقد اهتمت سلطة الاحتلال والدول المانحة ومجلس الحكم والوزراء بمسألة اعمار العراق (شكلياً في الأقل)، ولا أحد يستطيع أن ينكر الاهمية القصوى لهذا الامر، إلا أن ذلك لا يمثل سوى نصف الصورة أو نصف الحل، فلا بأس أن يكون اهتمامنا بالجانب الاقتصادي والعمراني كبيبراً، ولكن علينا أن نتذكر، إن الحضارةلا تبنى بالاسمنت والحديد فحسب، بل يحتاج بناؤها إلى المعرفة والاخلاق ايضاً. ماذا ينفعنا لو بنينا ناطحات سحاب وطورنا محطات البترول والكهرباء وغيرها، والانسان العراقي مخرب من داخله؟ وماذا تنفعنا والنسيج الاجتماعي ممزق؟ ماذا تنفعنا والاخلاق في ازمة متفاعلة؟ وماذا تنفعنا والعنف هو اللغة المفضلة لحل المشكلات في معظم قطاعات الحياة الاجتماعية؟ ماذا تنفعنا والنزعة الفردية مستشرية كأن الوعي الجمعي سقط صريعاً بفايروس الانانية؟! هناك رأي يقول أن الجانب الاقتصادي يأتي أولاً من حيث الاهمية في عملية إعادة الاعمار، ثم يأتي بعد ذلك الجانب الاجتماعي والاخلاقي، نقول إن هذا الرأي صحيح لو كانت الأزمة الاجتماعية والاخلاقية أقل شدة من الازمة الاقتصادية، إلا أن الوقائع تشير إلى عكس ذلك، إذ تتقارب الازمتان في العراق في مدى اتساعهما وتعقيدها وشموليتها، حتى يصعب الحكم عمن يستحق الاولوية والصدارة، فالعلاقة مركبة وجدلية بين البناء الاقتصادي والبناء الاخلاقي والقيمي لأي مجتمع. فالمجتمعات المتماسكة بأواصر الصدق والتسامح والحب تبني وتحافظ على منجزاتها الاقتصادية والعمرانية. والمجتمعات التي تمزقها خناجر النفاق والتعصب والكراهية، تقوض هذه المنجزات ولا تحافظ عليها، مما يعني عودتها من جديد إلى نقطة الشروع. والدوران في حلقة مفرغة. فهل هذا هو الذي نريده؟ حتما لا، ولذلك ندعو إلى تأسيس "هيأة نفسية تربوية" تهتم باعمار الشخصية العراقية في جميع النواحي الاخلاقية والقيمية، ليس على طريقة الهيئات الاجتماعية النمطية الموجودة حالياً أو سابقاً، بل هيأة حقيقية ترتبط باعلى مؤسسات اتخاذ القرار بالبلاد، وتمتلك صلاحيات وامكانيات مادية كبيرة، ويعمل فيها باحثون واختصاصيون في علم الاجتماع والتربية وعلم النفس والفلسفة والقانون والاعلام، تأخذ هذه الهيأة على عاتقها عملية اجراء البحوث في المشكلات المختلفة التي تنطوي على ابعاد نفسية أو اجتماعية أو اخلاقية أو قيمية، ومن ثم وضع معالجات لها بناءاً على نتائج وتوصيات تلك البحوث، وتغيير وتعديل اللوائح والقوانين بما يتناسب وتلك المعالجات. بمعنى آخر اللجوء إلى منهج البحث العلمي بوصفه وسيلة مضمونة لحل المشكلات وليس على طريقة اجتهاد هذا المسؤول أو ذاك. ولعل هذا هو الدرس الذي تعلمته الامم المتقد\مة من تجاربها وسارت عليه فوصلت إلى نور الشمس بعد أن نامت قروناً طويلة في عالم الظلمات. إن ما يثقل كاهل الانسان العراقي، اليوم، ليس العامل الامني أو السياسي أو الاقتصادي فحسب، بل هي أيضاً التراكمات النفسية التي ضغطت على الذات العراقية وجعلت هذا الانسان يغمض عينيه عن مشكلاته الاصلية النابعة من توترات اعماقه القلقة، وينشغل عنها بامور خارج ذاته. فهل قوات الائتلاف هي وحدها التي اشاعت الانانية أو الروح العدوانية أو الفساد الاداري أو الرشوة؟ ربما إنها اسهمت في ذلك جزئياً، ولكن الاساس إن هذه الظواهر موجودة فينا اصلاً، بل وتضرب جذورها في المساحات العميقة من شخصية الفرد العراقي بعد عقود من الحروب والاستبداد والظلم الاجتماعي. نقول هذا ولسنا متشائمين أو مغالين، بل واقعيين نرتجي حلولاً جذرية بعيداً عن انصاف الحلول وانصاف التحليلات، سنجد لقولنا آذاناً صاغية، أم سنواجه بالاهمال أو الابعاد أو تكميم الافواه؟ وحسبنا الاشارة والتنبيه والتذكير، وحسبنا تعبيرها عن وفائنا لمجتمعنا وبلدنا، وحسبنا ونحن وسط كل هذه الفوضى أن نحلم بمجتمع كريم، يحذو حذو المجتمعات الراقية على ارض المعمورة، ليكون عونا لابنائه ويكونون عونا له، ويكون راعياً لابنائه ويكونون راعين له. وكل المآثر الكبرى لا بد أن تبدأ بحلم مهما كان يبدو شاحباً أو غير واقعي. و كل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور. المصدر: أصدقاء الديمقراطية- 19-6-2006
|