الانعكاسات السياسية على النظام القيمي في العراق

 

د. رشيد عمارة ياس الزيدي

 

لا ريب ان لكل فعل محددات وانعكاسات، والمحددات قد تكون داخلية او خارجية، اما الانعكاسات فهي المظاهر والكيفيات التي ترافق الفعل. والسياسة، فعل له محدداته وانعكاساته وبوصفه سلطة تمارس في المجتمع والذي يعنينا في هذا المقال الانعكاسات السياسية على الجانب القيمي العراقي سلباً او ايجاباً.

وتجدر الاشارة الى ان العراق يمر بمرحلة انتقالية كبرى شهدت تدميراً لبنى ومرتكزات تحتية وفوقية القت بظلالها على مجمل البناء القيمي العراقي. وبطبيعة الحال فان استمرار نظام سياسي معين لفترة طويلة من الزمن واستقرار مؤسساته السياسية لا بد ان يكون له اثر على تكوين النظام القيمي للمجتمع وان تغيير هذا النظام لا سيما اذا كان التغيير مصاحب لاعمال عنف فان ذلك لا بد ان يشهد تمزقاً في القيم الاجتماعية السائدة التي تنعكس حتى على مشروعية او شرعية النظام السياسي القادم. وذلك بان يفقد الحد الادنى من الاتفاق عليه وبخط متوازن لذلك يكشف عن بروز تناقضات وقيم سياسية جديدة متصارعة فيما بينها ولا تستطيع اي منها ان تفرض نفسها وسيطرتها على الاخرى الامر الذي يقود الى الارباك والضبابية لحين من الدهر على اقل تقدير.

ان الطرح العقلاني والعلمي يدعو الى ضرورة القول بان النظام القيمي العراقي لم يكن بمستوى من الطموح من اجل ان نتمسك به او ندعو له، فقد شهدنا من السلبيات والانتهاكات ما يدعو الى تغييره، بل الى نبذه والثورة التصحيحية عليه جملة وتفصيلا لا سيما بعد ان انتشر فيه الوهن وضربت السلبية اطنابها في نسيجه وما عاد نظام يمكن ان يحقق التقدم والازدهار للعراقيين.

بيد ان الذي يجعلنا نأسف على هدم النظام القيمي العراقي. ان عملية بناء النظام الجديد ينطلق من منطلقات النظام السابق ان لم نقل اسوأ من ذلك وربما يصاب القارىء بخيبة كبرى، اذا كان ينتظر من الحديث عن الامال والاحلام التي كان يرنو اليها من تغيير النظام السابق في بناء قيم اجتماعية وثقافية جديدة لعراق جديد روج لذلك في بداية الاحتلال. بل ان القيمة العلمية تكمن في النظر الى واقع الامر لا على ما يجب ان يكون بل على ما هو كائن.

فواقع الحال يشير الى ان التغييرات التي حدثت في النظام السياسي العراقي لم تشكل وعياً سياسياً حزبياً جديداً كما هو مؤمل منه بغية ممارسة دور فاعل في حركة المجتمع، والذي يفترض ان يرافق التغييرات بصورة تلقائية وربما يعود ذلك الى طريقة التغيير المفاجئة التي رافقت النظام السياسي السابق والتي جاءت على اثر احتلال اجنبي عكس ما تحقق للوعي ولو كانت التحولات بصورة تدريجية او داخلية فان ذلك يسهل على الوعي قبولها.

وعلى الرغم من ذلك فان هناك بعض الجوانب الايجابية التي رافقت عملية التغيير السياسي في العراق اذ اصبح المواطن يشعر بهامش معين من حرية التعبير عن الرأي لا سيما بعد ان كسرت الكثير من القيود وبرزت في الساحة العراقية عشرات الاحزاب السياسية ومئات الجمعيات غير الحكومية والتنظيمات النقابية فضلاً عن بروز الصحف والمجلات في مختلف انحاء العراق انعكس ذلك على تمتع الناس بحرية الحركة والراي وتنظيم المجتمع والتظاهر واصدار النشرات والكتب.

بالمقابل فأن هذه الحرية خرجت عن الحدود المسموح بها وأضحت اقرب الى الفوضى منها الى الحرية المقيدة بالمصلحة العامة للعراقيين لا سيما بعد ان انتشر السلاح والمليشيات العلنية والسرية بشكل ملفت للنظر واصبح العنف السمة البارزة في الساحة السياسية والاجتماعية العراقية.

ولم يقتصر الامر على المستوى المسلح الذي يعكس حالة فقدان الامن التي يتحمل مسؤوليتها بالدرجة الاولى قوى الاحتلال بكل مستوياتها فانه اضحى هناك تغير ملفت للنظر في النظام القيمي العراقي. يبدو ان العقل الوطني العراقي قد اخضع لعملية تاهيل اجبارية الهدف منها استبدال الانتماء الوطني بالانتماءات الفرعية الاقليمية والطائفية وبقيت خلايا العقل الاجتماعي في سياسته محملة برواسب وارهاصات تاريخية واجتماعية ومهيئة للحظة المناسبة التي حفزتها طريقة التغير السريع والخارجية للنظام السياسي السابق الامر الذي ولد حالة جديدة على النظام القيمي العراقي وذلك بانتشار ظاهرة الانفصام الوطني بين العديد من العراقيين لا سيما بعد ان تمكن المحتل من فك رموز اواصر النظام القيمي العراقي في محاولة لاعادة ترتيبها فتعذر عليه ذلك بانفراط العقد الاجتماعي العراقي فالاندماج ما زال مطلبا اكثر مما هو واقع اذا تتنازع الولاءات الفرعية الولاء للدولة وعلاقة الدين بالدولة مطلبا لم تحسم تماما والتعددية السياسية التي تشهدها الساحة العراقية لا تقوم على برامج سياسية واقتصادية واجتماعية بل تعددية طائفية وأثنية.

وتجدر الاشارة الى ان شكل النظام السياسي يمارس دورا جوهرياً في تحديد مقتربات النظام القيمي للمجتمع وقد ساهم النظام السابق في هدم البناء القيمي للشعب العراقي وخلف تركة ثقيلة من ظواهر الضعف في الوعي الوطني وربما يعود ذلك لمحاولة النظام السياسي فرض رؤية سياسية معينة على الشعب بالقوة لا سيما مع شعب يمتاز بالتعددية والتنوع مثل الشعب العراقي مما جعله عرضة للاستغلال من قوى اجنبية واطراف محلية واصحاب مصالح وضعاف نفوس فضلا عن دور التخلف وتوظيف كل ذلك لاغراض ضيقة لا لخدمة المصلحة الوطنية الامر الذي عرض منظومة القيم العراقية للاهتزاز.

ويبدو ان التحول في النظام السياسي العراقي بعد الاحتلال لم يتمكن من الخروج من هذه الدائرة لا سيما بعد ان اتخذت التعددية الحزبية العراقية منهج تأسيس الرموز الفرعية في مناورة تهدف الى استبدال القدرة الفرعية للسياسات بشان الفروقات الاساسية في المجتمع لا لمعالجة هذه الفروقات واحتوائها بل للتنافس السياسي فيها وذلك بواسطة الحيلة على جدلية الخاص والعام.

والتي لم تكن متداولة قبل الاحتلال في الخطاب السياسي العراقي بل وكانت مستهجنة من اطياف المجتمع العراقي جميعا وحتى من الفرقاء السياسيين.

من خلال ما تقدم يمكن القول بان العراق يمر بمرحلة انتقالية تشهد عملية صيرورة جديدة و يبدو ان التغيرات السياسية لم تتمكن من احداث تغير ايجابي في النظام القيمي العراقي الذي يعاني من عوامل ضعف كثيرة بل ان تدخل اطراف محلية واقليمية ودولية قد اسهم في ارباك هذا النظام وتعقيده اكثر من السابق.

مركز الدراسات القانونية والسياسية 

و كل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور.

المصدر: جريدة الصباح-22-6-2006