جدلية التعاون والصراع بين العرب وإيران

 

صلاح سالم

 

ثمة مشترك ديني - ثقافي، وجغرافي - استراتيجي يجمع بين العرب وإيران على نحو لا يجعل العرب خصما من رصيد إيران، أو إيران خصما من رصيد العرب، وإذا حدث ذلك فالدافع اليه ليس إلا نوعا من العمى الاستراتيجي لدى أحد الطرفين أو كليهما وقوعا في أسر ذاكرة تاريخية يشوهّا هاجسان متقادمان:

ـ أولهما يعود الى «الحركات الشعوبية» التي يزخر بها التاريخ الإسلامي حيث تنامى الدور الفارسي في التنافسات السياسية التي دارت بين الأجناس المتزايدة مع امتداد خريطة الإسلام ضد تفرد العنصر العربي بالسلطة المركزية في العصر الأموي، كما أسهم بدور أساسي في انتقال السلطة الى الدولة العباسية، بعد أن كان قد أضفى عليها مسحة من التقليد الفارسي الملكي الاستبدادي، وكذلك في الصراع الثقافي الذي دار بين الروح العربية الأولى الفطرية والنصية، وبين الروح الجديدة الأكثر تركيبا وتأثرا بحركة الترجمة والانفتاح على الثقافات الأخرى المعاصرة منذ عصر المأمون، ما ولد تيارا من السجالات الكلامية وكرس لتعددية الفرق الإسلامية التي تنامى عددها رويداً رويداً ومنها الفرقة الشيعية، والتي تم توظيفها مع غيرها في الصراعات السياسية في كثير من الأحوال.

ـ وثانيهما ينبع من الصراعات التي شهدها العصر الحديث بين إيران وخصوصاً الدولة الصفوية (1502 ـ 1736) التي أعلنت التشيع الرسمي وبين الأتراك العثمانيين حول العراق وولاياته الثلاث التي كانت أقرب لكونفيديرالية متماسكة اسميا تحت التاج العثماني ولكنها مستقلة فعليا وخاضعة للنفوذ الإيراني بأكثر من شكل، وفي أكثر من لحظة تاريخية وحتى عقد معاهدتي «أرضروم» الأولى عام 1823 والثانية عام 1837.

وأما الحقبة المعاصرة، فلا تخلو هي الأخرى من بعض الخبرات الصراعية مع إيران «الدولة القومية» على منوال سيطرتها على الجزر الإماراتية الثلاث منذ انسحاب القوات البريطانية بداية السبعينات، ومطالباتها بالبحرين آنذاك، والخلاف مع العراق حول شط العرب وصولا الى حرب السنوات الثماني التي شنها صدام حسين مدفوعا بأوهام الهيمنة الإقليمية. غير أن هذه الخبرات جميعا لا تدل في الحقيقة على تناقض حتمي بين مصائر الطرفين، بقدر ما تدل على القربى الحضارية مجسدة في «التداخل الجغرافي» و «التشابك التاريخي» وهي القربى التي تصنع الخلافات الحدودية بين أغلب دول المغرب العربي، وكذا المشرق العربي، بل وداخل مجلس التعاون الخليجي نفسه، أو بين دوله وبين اليمن فضلا عن العراق وصولا الى غزو الكويت. ولذا فهي صراعات قابلة دوما للحل لأنها غير جذرية ولا تجرح كرامة شعوبها حيث يغيب العداء القومي أو الديني الذي يغذي الشعور المرير بـ «الهزيمة».

وأما إيران «الجمهورية الإسلامية» فتبقى شريكا حضاريا بامتياز رغم بعض الحساسيات التي أثارها مفهوم تصدير الثورة، والذي لا يعمل أصلا إلا في إطار تلك القربى الحضارية، حيث الثقافة الغالبة على إيران تنبع من مصادر إلهام عربية، فالمذهب الشيعي الجعفري الإثني عشري الرسمي (اعترف به الأزهر كمذهب فقهي خامس في الإسلام الى جانب المذاهب السنية الأربعة في عهد شيخه الكبير محمود شلتوت في خمسينيات القرن العشرين) يرجع بكل رموزه الى العنصر العربي من البيت الهاشمي القرشي. أما في العراق حيث مراقد سبعة أئمة من الاثني عشر فتقع في مدينتي النجف وكربلاء. كما أن إيران هي البلد الوحيد الذي جعل اللغة العربية اللغة الثانية في مراحل التعليم المختلفة بنص دستوري صريح منذ قيام الثورة. ومن ثم فإيران التي ينظر اليها على أنها مركز الثقل السياسي الشيعي كدولة، ليست هي القبلة الروحية للشيعة كمذهب، فهذه القبلة تبقى في العراق.

وتتعمق تلك القرابة بالتشابك والتداخل الديموغرافي المشهودين، فدول الخليج العربي تزخر بنسبة شيعية معتبرة تتعاطف مع إيران مذهبيا، وفي المقابل هناك ملايين عدة من العرب يعيشون في إقليم «خوزستان» يتعاطفون مع العرب قوميا. كما أن الأكراد كوجود وقضية يمثلون هاجسا مشتركا لايران مع تركيا والعراق وسورية، فالقضايا الحساسة في المنطقة تبدو جامعة بين العرب وإيران مما يجعلها قطعة من نسيج المنطقة بامتياز الآن وفي المستقبل.

هذا الإطار الحضاري الجامع يجعل العلاقة بين إيران مهما تزايدت قوتها، وبين العالم العربي حتى في أشد لحظات ضعفه، تبقى أشبه بعلاقة حبل سري على منوال تلك القائمة بين الولايات المتحدة كتجسيد لقوة الغرب العسكرية والاستراتيجية، وبين أوروبا الغربية كمصدر للقيم والرموز والأفكار التي صاغت القوة الأميركية بقدر ما ألهمت العقل الأميركي، أو على منوال العلاقة بين روما تلك الإمبراطورية السياسية والعسكرية المتمددة، وأثينا المدرسة الفكرية والفلسفية الملهمة. فإذا كانت إيران فعليا ليست إلا قوة من الحجم المتوسط، الذي يزخر العالم العربي بثلاثة نماذج له على الأقل، يصبح الأفق مفتوحا أكثر على شراكة استراتيجية - حضارية متكافئة، لا مكان فيها لعداء مطلق رغم بعض التباين في المصالح، إن لم تكن صداقة مطلقة يحتمها التجانس في الثقافة.

ولا شك أن غياب طرف استناد دولي يمكن الاستعانة به ضد التحديات المشتركة والجذرية التي يواجهها الطرفان معا إزاء الهجوم الصهيوني - المسيحي المحافظ على المنطقة برمتها، يفرض على الطرفين إنضاج معطيات هذه الشراكة بتنمية منطق التجانس، وتجاوز هامش التناقض عبر حوار جاد ومثمر. وهو لن يكون جادا إلا إذا اعترف العرب بإيران كدولة كبيرة وكتلة حيوية معتبرة لها مصالح يجب أن تحترم، وتفاعلوا معها مباشرة بجسارة واستقلال عن الأجندة الأميركية. كما لن يكون مثمرا إلا إذا استعاد العرب ثقتهم بأنفسهم كأنداد لإيران على الأقل، وكقلب تاريخي لا غنى عنه في تشكيل استراتيجيات الشرق الأوسط، وقيادة التطور الحضاري لعالم الإسلام الواسع بكل حيويته وديناميكيته.

وهنا تبدو الحاجة الى ضرورة دمج إيران في تفاعلات المنطقة العربية وخصوصا الخليجية من خلال إطار واضح سياسي أو استراتيجي قد يمنحها بعض المزايا التي تستحقها كدولة كبيرة لها مصالح لا بد من احترامها طالما كانت مشروعة ولا تنقص من سيادة جيرانها. ولكنه في المقابل يشكل قيدا يفرض عليها ضرورة احترام مصالح باقي الأطراف ويحتم عليها الحوار معهم، ما سيلجم سلوكياتها الراديكالية التي تتغذى من شعورها بالعزلة الإقليمية، ويوفر إطارا لمراجعتها، حتى لا تبقى إيران بمثابة «فاعل شبح» يؤثر واقعيا في تفاعلات المنطقة ولكن من دون قدرة على ضبطه، ما يمنحها حرية مطلقة في ممارسة دورها الإقليمي.

وربما كانت الصيغة العملية لهذا الإطار بمثابة طبعة منقحة من «إعلان دمشق» الذي كان تأسس في أعقاب «عاصفة الصحراء» لموازنة نفوذ عراق مهزوم، وإيران طامحة، ولكنه تجمد بفعل الوجود الأميركي المكثف، واستراتيجية «الاحتواء المزدوج» للطرفين. وإذا كان التحدي اختلف الآن، فلم يعد يكمن في صراع إقليمي بين العراق وإيران، بل في وجود أميركي ينزع الى استراتيجية «الابتلاع المزدوج» للدولتين، فإن صيغة الإعلان الأولى (6 - 2) تصبح عاجزة عن العمل ولابد من تعديلها الى (6 - 4) بضم العراق وإيران إليها لتعمل ليس كصيغة أمنية محدودة، بل كإطار لشراكة سياسية واستراتيجية متكاملة:

ـ فاستراتيجياً تسعى هذه الشراكة الى تجفيف منابع التهديد الأميركي سواء العسكري من خلال شن حرب على إيران بحجة نزع قدراتها النووية أو السياسية من خلال السيطرة الطويلة المدى على الشأن العراقي بما يتجاوز حدود العلاقات السياسية العادية. وبداية يجب التأكيد أن عراق ما بعد الاحتلال لن يعود مباشرة الى الفضاء القومي العربي بل سيدخل مرحلة انعدام وزن قد تطول أو تقصر يعاني خلالها من تصارع النفوذ الأميركي ـ الإيراني عليه. ولتجاوز هذه المرحلة بسرعة، يتوجب على العرب تحديد الطرف الذي يمكن مشاركته في إدارتها. هل هو الولايات المتحدة التي تنوي إقامة قاعدة عسكرية كبرى لضمان مصالح تسهم في توجيهها أجندة إسرائيلية تهمش البعد القومي للعراق؟ أو هو إيران الدولة الجارة التي لها مصالح مؤكدة في العراق يمكن الحوار حولها، ولكنها لا تحتاج الى قاعدة عسكرية ولا تستطيع فرض إملاءات حقيقية على العالم العربي حتى لو أرادت.

وهنا يمكن عقد صفقة تبادلية، فإذا كانت المرحلة الانتقالية في العراق تتطلب دورا إيرانيا يبقى حاسما في تقرير مستقبله، فللعرب دورهم المهم في مستقبل الملف النووي الإيراني، فسلبياً يمكنهم تسهيل الخيار العسكري الأميركي بتقديم دعم لوجستي فضلا عن اسباغ الشرعية الإقليمية، وإيجابياً يمكنهم خلخلة الحصار حول إيران بإعلان تأييدهم لحقها الأصيل في امتلاك التكنولوجيا النووية طالما أن إسرائيل تملك السلاح النووي، ودعمهم لتخليها عن هذه التكنولوجيا فقط في حال تخلت إسرائيل عن سلاحها لإخلاء المنطقة من أسلحة الدمار الشامل.

ـ وسياسيا تستطيع هذه الشراكة كسر الحصار الجاري لعدد من الدول العربية من خلال احتواء الاحتقانات المتزايدة فيها وحولها منذ احتلال العراق، واغتيال رفيق الحريري ثم نجاح «حماس» في الانتخابات وتشكيل حكومة فلسطينية. ثم إعادة صياغة الاصطفاف العربي في مواجهة القضايا الأساسية المثارة الى وضعه الطبيعي بحيث يكون هناك موقف عربي مشترك مدعوم ايرانياً يتسم بالعقلانية والاعتدال والإيجابية من القضايا الأساسية في فلسطين والعراق وسورية ولبنان، في مواجهة الموقف الإسرائيلي المتعنت أو الأميركي المتغطرس.

ولا تعني الدعوة الى تضامن عربي ـ إيراني مواجهة حتمية مع الولايات المتحدة بل محاولة لإعادة صياغة الشروط العامة التي تتعامل بها مع المنطقة، حيث أن الركون العربي التام الى مألوف السياسة الأميركية، والعجز عن الخروج من أسر المعادلات الحاكمة للاقليم لخوض رهانات سياسية واستراتيجية جديدة ولو بدرجة معقولة من المخاطرة، هو ما يجعل العرب مهزومين نفسيا وليس سياسيا. ورغم أن الخروج من هذا الأسر يبدو مهمة صعبة الا انه يبقى ممكناً اذا أصرت الدول الكبرى في الاقليم على انجازه وأخذت في صياغة حدودها من دون ارتعاش لما لها من وزن كبير لا يمكن تجاهله، وما عليها من مسؤولية كبرى تجاه النظام والاقليم والمصير.

و كل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور.

المصدر: الحياة اللندنية-17-6-2006