هل جاء عصر الدول المجهرية؟
فريد وير
في الوقت الذي أعلنت فيه جمهورية الجبل الأسود نهاية الأسبوع الماضي استقلالها رسمياً عن صربيا، ورحب العالم بنتائج الاستفتاء الذي أفضى إلى الانفصال، تستعد مجموعة من "الدول الصغيرة" وغير المعروفة، للمطالبة بمنحها فرصة مماثلة لتقرير مصيرها. وأحدث مثال على ذلك إعلان ترانسدينيستريا الأسبوع الماضي، وهي جيب في مولدوفا ناطق بالروسية حصل على الاستقلال الفعلي في مطلع التسعينيات، تنظيمه لاستفتاء على غرار الجبل الأسود في شهر سبتمبر المقبل، كجزء من حملته للمطالبة بالاستقلال. ويخشى العديد من الخبراء أن تستيقظ الخلافات مرة أخرى في بعض "البؤر الجامدة" التي نجحت في الحصول على استقلال فعلي، لكنها عجزت عن نيل الاعتراف الدولي، مسعرة الصراع، لاسيما في ظل مطالبة الأقليات العرقية بممارسة حق تقرير مصيرها، كما حدث في العديد من المناطق التابعة ليوغوسلافيا سابقاً. ويأتي تفكير المنتظم الدولي في منح إقليم كوسوفو الاستقلال عن صربيا، فضلا عن انفصال الجبل الأسود، ليزيد من تأجيج الأصوات الداعية إلى تقرير المصير والانفصال عن الدول الأم. وينظر المطالبون بالانفصال في مناطق أخرى بترقب شديد لما ستسفر عنه المفاوضات الجارية حاليا بشأن مصير إقليم كوسوفو الذي مازال تحت إشراف حلف شمال الأطلسي منذ عام 1999. غير أنه بالنظر إلى المشاكل التي تواجهها بعض الدول الصغيرة التي سارت على درب الاستقلال، مثل تيمور الشرقية، فإن ثمة بواعث لقلق المراقبين الذين يتوجسون من التداعيات المحتملة لتشجيع انفصال الجيوب الصغيرة عن الدول الكبرى. وفي هذا السياق يتوقع ديمتري سوسلوف، وهو محلل في مجلس السياسات الخارجية والدفاع في موسكو، بأن "يشكل انفصال كوسوفو وحصولها على الاستقلال سابقة في العلاقات الدولية ستقود إلى مزيد من التشظي في النظام العالمي وخلق دول غير قابلة للحياة". ورغم قيام روسيا في الآونة الأخيرة بدعم العديد من الجيوب الانفصالية في الدول الموالية للغرب في المنطقة التي كانت تابعة للاتحاد السوفييتي سابقاً، كوسيلة لمواجهة جيرانها الذين رفعوا عقيرة التحدي في وجهها، إلا أنها لم تذهب إلى مستوى منحها اعترافاً دولياً، أو تغيير حدود الدول القائمة. ومع ذلك يشكل حصول الجبل الأسود على الاعتراف الدولي وانضمامه إلى أسرة الأمم المتحدة، دافعاً قوياً للدول الصغيرة الطامحة إلى الانفصال للجهر بمطالبها مرة أخرى. وإذا كان ميثاق الأمم المتحدة ينص بشكل واضح على حق الشعوب في "تقرير مصيرها" وعلى حق الدول في الحفاظ على "وحدتها الترابية"، كمبدأين أساسيين للنظام العالمي، فإن هذين المبدأين يتصادمان عندما تهدد إحدى الأقليات الانفصالية الوحدة الترابية لدولة من الدول. وبالنسبة لروسيا التي تضم أراضيها العديد من الأقليات العرقية النشطة، بما في ذلك التمرد القائم في الشيشان فقد انحازت على الدوام إلى شق "الوحدة الترابية" من المعادلة. بيد أن التوجه الروسي التقليدي المساند لوحدة الدول بدأ يتبدل في الفترة الأخيرة، لاسيما فيما يتعلق ببعض الدول المجاورة. وقد عبَّر عن هذا التحول الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نفسه في تصريح أمام الصحفيين بقوله "إذا كانت السوابق صالحة في يوغوسلافيا السابقة، فلا أرى لماذا لا تصلح أيضاً في الفضاء الذي نتج عن انهيار الاتحاد السوفييتي". فبعد تفكك الاتحاد السوفييتي عام 1991 ظهرت 15 جمهورية سارعت إلى اعتناق الحرية ورحب المجتمع الدولي بانضمامها إليه. غير أن تلك الدول نفسها تضم أقليات متعددة بدأت ترفع رايات التمرد والمطالبة بالانفصال. ففي مطلع التسعينيات قامت "جمهوريتان مستقلتان" داخل جورجيا وهما أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية بدحر القوات الحكومية بدعم روسي وأقامتا نظامين مستقلين عن السلطة المركزية في جورجيا، لكن وضعهما القانوني ظل معلقاً منذ ذلك الحين بسبب عدم حصولهما على الاعتراف من جانب المجتمع الدولي، بما فيه روسيا ذاتها. وعلى غرار الحالة السابقة شن إقليم ترانسدينيستريا الناطق بالروسية والتابع ترابياً لجمهورية مولدوفا ذات الأغلبية العرقية الرومانية حرباً ضروسا على الحكومة بمساعدة الجيش الروسي واستطاع الإقليم الانفصال عن مولدوفا. أما في أذربيجان فقد سقط إقليم ناجورني كارباخ تحت سيطرة الأقلية الأرمينية بعد حرب ضارية بين الطرفين، كما تمكن المتمردون الشيشان من نيل استقلالهم مؤقتاً بعد الهزيمة المنكرة للقوات الروسية في ساحة المعركة خلال تسعينيات القرن المنصرم. والملاحظ أنه في جميع تلك الحالات تغلب المبدأ الدولي في الحفاظ على الوحدة الترابية للدول على تطلعات الأقليات في الحصول على دول خاصة بها. واستناداً إلى ذلك المبدأ شنت موسكو حملة عسكرية شعواء ضد الشيشان عام 1999 وأرغمتها على الانضمام مرة أخرى إلى روسيا كواحد من أقاليمها المتعددة. لكن مع تعاظم الفتور في العلاقات بين روسيا وبعض جيرانها، خاصة جورجيا ومولدوفا وأذربيجان بسبب توجهاتها الموالية للغرب، بالإضافة إلى استلهام النموذج اليوغوسلافي الحاضر دائماً في الأذهان، بدأت بعض الأصوات القومية داخل روسيا ترتفع منادية باستعمال النفوذ الروسي لدعم الكيانات التي تطالب بالانفصال عن الجمهوريات المناوئة لموسكو، كي تحصل على اعتراف دولي على غرار الجبل الأسود. وفي هذا الصدد قام إقليم ترانسدينيستريا المستقل بتوقيع اتفاق اقتصادي مع موسكو يسمح للإقليم الصغير ذي القطاع الصناعي الكثيف ببيع بضائعه داخل روسيا والانضمام إلى فضاء العملة الروسية. غير أن الخبراء الغربيين يرفضون سعي روسيا للاستفادة من المثال اليوغوسلافي بهدف منح الأقاليم المستقلة اعترافاً دولياً، معتبرين أن النموذج اليوغوسلافي فريد من نوعه لأنه خضع لإشراف الأمم المتحدة، كما أن الأقاليم اليوغوسلافية لم تنفصل إلا بعد تقديمها ضمانات ديمقراطية تمنع انتشار الفوضى. وفي حال قيام موسكو بالتصرف منفردة في المنطقة فإنها بسلوكها ستنفر العالم من سياساتها وقد تهدد استقرار الدول المجاورة لها. فريد وير : مراسل "كريستيان ساينس مونيتور" في روسيا و كل ذلك بحسب راي فريد وير في المصدر المذكور . المصدر : الاتحاد الاماراتيه : نشرته بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور – 7-6-2006
|