نقص في السياسة وليس فقط في الإصلاح: مصير الإصلاح السياسي في مصر
وحيد عبد المجيد
حكام لا يعرفون كيف يحكمون، ومعارضون لا يفهمون كيف يعارضون. هذا أمر يندر حدوثه لأن تراجع أداء نظام الحكم يرافقه، عادة، تحسن في ممارسات المعارضة أو على الأقل قسم فيها، والعكس. غير أن ما يحدث في مصر الآن هو تدهور في أداء الحكم والمعارضة في آن على نحو يهدد الإصلاح السياسي الذي بدا في مثل هذه الأيام في العام الماضي أنه يقترب بعد طول انتظار. فالتفاؤل الذي استهل به المصريون العام 2005 أخذ في الانحسار. والسؤال عن المستقبل القريب، وليس فقط الأبعد، مطروح بقوة في ظل اتهامات متبادلة تسود ساحة سياسية مضطربة. فلا الحكم - نظاماً وحزباً - يمتلك رؤية لهذا المستقبل. ولا المعارضة - المشروعة والمحظورة - لديها تصور واضح لدورها. ولذلك يصعب فهم مشكلات اللحظة السياسية الراهنة في مصر عبر تفسيرات أحادية. فالتفسير الأحادي الذي يُحمِّل نظام الحكم وحده المسؤولية عن تراجع التفاؤل بالإصلاح يعفي المعارضة بأطيافها المختلفة من مراجعة أدائها وتصحيح أخطائها. أما التفسير الأحادي الذي يحصر المشكلة في سوء أداء المعارضة وعشوائية تحركاتها وافتقادها الرؤية وهزال بعضها وهزل البعض الآخر فهو يصرف الانتباه عن العقلية البيروقراطية المسؤولة عن الخلل في هيكل النظام السياسي وطريقة أدائه لوظائفه. فالإصلاح يتعثر لأن نظام الحكم لا يزال غير مهيأ لإنهاء الجمود السياسي، ولأن المعارضة لا تعرف ما الذي ينبغي عليها عمله للمساهمة في ذلك، بل يؤدي بعض ما تفعله إلى نتائج عكسية. يحدث ذلك، بينما يوجد في نظام الحكم والحزب الحاكم وفي المعارضة على حد سواء من يدركون أخطار استمرار المناخ الراهن ويعرفون كيف يمكن تغييره. ولكنهم قليل هنا وهناك. قليل في نظام الحكم والحزب الحاكم هم الذين يضعون أياديهم على موطن الخلل الذي يعوق إصلاحاً سياسياً تبناه الرئيس حسني مبارك في برنامجه الانتخابي أو يفرغه من مضمونه. يعرف هؤلاء أن النظام والحزب لا يزالان خاضعين إلى عقلية بيروقراطية تكونت واستشرت في مرحلة نُزعت فيها السياسة من المجتمع، وأنها ما برحت عاجزة عن التطور فيما تقف مصر على مشارف مرحلة مختلفة. فلم يعد ممكناً إعاقة إصلاح سياسي تشتد حاجة المجتمع موضوعياً إليه. ولن يكون هذا الإصلاح آمنا إلا عبر حوار وطني عام حول قواعد إدارة العملية السياسية. ولا مجال لحوار فاعل إلا إذا رعاه نظام الحكم وشارك فيه الحزب الحاكم. ولا سبيل لهذه المشاركة وتلك الرعاية من دون توفر حد أدنى من السياسة، وعقلها، في النظام وحزبه. وهذا هو أحد أكثر ما ينقصهما الآن. فقد اعتاد النظام لفترة طويلة أن يعتمد على عناصر من البيروقراطية والتكنوقراط غير المسيسين. والحزب الوطني الحاكم، الذي ورث الكثير من اختلالات وأمراض التنظيم الواحد من هيئة التحرير إلى الاتحاد الاشتراكي، لم يشهد تطورا في اتجاه التسييس إلا منذ العام 2003، ويحدث هذا التطور ببطء شديد في لحظة تقتضي ضخ أكبر قدر من السياسة في شرايينه وفي أقصر وقت ممكن. فبسبب نقص السياسة، وليس فقط النقص في الميل الديموقراطي، يدير النظام والحزب الحاكم الإصلاح السياسي باعتباره عملية فنية وليست سياسية. ويؤدي ذلك إلى إهدار فرصة تاريخية يستطيع النظام والحزب الحاكم فيها امتلاك زمام المبادرة وقيادة عملية إصلاح سياسي يكسبان عبرها قسماً كبيراً من الغالبية الصامتة التي تقدر بنحو 73 في المئة من المسجلين في قوائم الانتخاب. ففي إمكان الحزب الحاكم أن يقود تغييراً في المناخ السائد عبر نقل عملية الإصلاح الدستوري والتشريعي التي يتبناها إلى الشارع وفتح مقراته للشبان والشابات في حوارات وجلسات استماع حول هذا الإصلاح. ومن شأن تحول على هذا النحو في إدارة عملية الإصلاح أن يفتح الباب أمام حوار وطني جاد يؤسس لقواعد تنظم الحياة السياسية التي تسودها العشوائية لأن كل لاعب يضع القواعد التي يريدها وفق مقاسه ويلعب بها. ولم تكن أزمة القضاة التي أخذت أكبر من حجمها بكثير إلا أحد مظاهر غياب قواعد للحياة السياسية تحظى بقبول عام. ويبدو مثل هذا التحول في منهج النظام والحزب الحاكم هو المدخل الأكثر فاعلية للبدء في تغيير المناخ السائد. فالمعارضة بمختلف أطيافها لا تعرف الطريق إلى هذا التغيير. والقليل الذين يعرفونه في أوساطها تائهون وسط فيض من العشوائية والمزايدة في الحركة والخطاب. لقد باتت الساحة السياسية تعج بعدد متزايد من اللافتات التي تحمل أسماء لمجموعات صغيرة للغاية، وبعضها متناهي الصغر، ولكنها تملأ الدنيا ضجيجاً بأصواتها العالية التي يشعر المصري العادي حين يسمع بعضها بأنها قادمة من عالم آخر. لعب بعض هذه المجموعات، خصوصاً حركة «كفاية»، دوراً مباشراً في إعادة التظاهرات إلى الشارع بعد غياب استمر لأكثر من نصف قرن. وكانت هذه هي إحدى علامات الربيع الذي بدا أنه يقترب في العام الماضي. لكن الذين انتزعوا حرية التظاهر لم يعنوا بالسعي إلى تقنين هذه الحرية، لأنهم يفتقدون الرؤية التي تنير الطريق أمام العمل الديموقراطي فيتراكم خطوة وراء أخرى في اتجاه صعودي. فانتزاع حق ديموقراطي لا يصبح مكسباً إلا عند تثبيته عبر التفاوض في اللحظة الملائمة لتقنينه بشكل ييسر استخدامه. وطالب بعض المعارضين، من بين القليل الأكثر إدراكاً لمعنى النضال الديموقراطي، بالتحرك في هذا الاتجاه. لكن الاتجاه الرئيس لحركة المعارضة، والذي سادته العشوائية والمزايدات، لم يلتفت إلى أهمية ذلك الطرح. ولهذا أصبح سهلاً على سلطة الدولة أن تحظر التظاهر في الأسابيع الأخيرة متعللة بأنه لا تظاهر من دون إذن مسبق. وهي تعلم أنه لا توجد مرجعية قانونية في هذا المجال. هذه المرجعية هي ما كان يتعين على المعارضة أن تتفاوض عليها في اللحظة التي انسابت فيها المظاهرات في وسط القاهرة ومناطق أخرى بسلاسة أعطت انطباعاً بأن الإصلاح يقترب. وهذا ليس إلا مثالاً واحداً على افتقاد المعارضة الرؤية والقدرة على تقدير الموقف في كل لحظة بما يعصمها من التخبط الذي دفع بعضها أخيراً إلى الرهان على أزمة القضاة والسعي إلى تصعيدها. وبدا هذا الموقف بمثابة «إعلان إفلاس» بما انطوى عليه من إقرار ضمني بالعجز عن خوض معركة الإصلاح بشكل مباشر ومستقيم. وكان أعلى مراتب هذا الإفلاس لدى من تطلعوا إلى أن يحل القضاة محلهم في النضال الديموقراطي في الشارع. إن للقضاء دوره المهم في الإصلاح. لكنه دور محدد ومحدود بطابعه كسلطة من سلطات الدولة وليس جزءاً من الحركة السياسية ناهيك عن أن يكون طليعة لها. إن موقف المعارضين الذين سعوا لتأجيج أزمة القضاة يعيد إلى الأذهان شطط بعض قادة «الحركة الطلابية المصرية»، ومعهم أحد التنظيمات اليسارية، قبل أكثر من ثلاثة عقود عندما رفعوا شعار «الثورة الطلابية» أو قيادة الطلاب للثورة الاشتراكية! ولذلك كان رهان بعض رموز المعارضة على القضاة لقيادة هذه المعركة مؤشراً الى إفلاس سياسي، ودليلاً على سوء تقدير لدور القضاء في الإصلاح. كانت المبالغة في تسييس هذا الدور تعبيراً عن نقص السياسة في أوساط المعارضة، أو الاتجاه الغالب فيها. وإذ يعاني الحكم بدوره نقصاً في السياسة، تبدو مصر بكل أطيافها في حاجة إلى شيء من التسييس يعينها على تلمس الطريق إلى الإصلاح. كاتب مصري. و كل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور. المصدر: الحياة اللندنية-26-5-2006
|