أهمية استقلال النظام القضائي بقلم ساندرا داي اوكونور عضو في المحكمة العليا للولايات المتحدة المنتدى القضائي العربي في المنامة، البحرين15 أيلول - سبتمبر، 2003. كتب الكزاندر هاملتون، أحد واضعي دستور الولايات المتحدة في العدد 78 من مجلة "ذي فدراليست"، مدافعاً عن دور النظام القضائي في تشكيل الهيكلية الدستورية، فشد ّد على أنه: "لا وجود للحرية دون فصل السلطة القضائية عن السلطتين التشريعية والتنفيذية. وما على الحرية ان تخشى أي أمر يتعلق بالنظام القضائي بمفرده لكن عليها ان تخشى كل أمر إذا ما اتحد القضاء مع أي من السلطتين الأخريين." يتعدى تفكير هاملتون المتبصر التباينات بين الأنظمة القضائية للدول. حيث أنه لا يمكن ضمان واقع ومظهر الالتزام الحريص بحكم القانون للناس إلاّ من خلال استقلال القضاء. كتب وودرو ويلسون، الرئيس الأسبق للولايات المتحدة، قائلاً: الحكومة "تحافظ على وعودها، أو لاتحافظ على وعودها، من خلال محاكمها، وعليه يصبح كفاح الفرد من أجل إقامة حكومة دستورية هو كفاح لسن قوانين جيدة، ولكن، بالطبع، أيضاً لإقامة محاكم مطّلعة ومستقلة وغير متحيزة." دعونا نتذكر دوماً أهمية الاستقلالية لضمان فعالية عمل السلطة القضائية. إن مبدأ ضرورة قيام نظام قضائي مستقل كشرط أساسي لتطبيق العدالة مترسخ بعمق في صلب المؤسسات القانونية العربية. فالواقع ان كل دستور عربي يضمن استقلال القضاء. فمثلاً تتضمن المادة 104 من دستور مملكة البحرين نص أن : "شرف القضاء ونزاهة وعدم تحيز القضاة يُشكّل أساس الحكم والضمانة للحقوق والحريات. لا يجوز ان تتجاوز أي سلطة الحكم الذي يصدره قاضٍ، ولا يجوز، تحت أي ظرف التدخل في مجرى العدالة. يضمن القانون استقلال النظام القضائي"... أن "النظام القضائي المستقل يُشكّل الدعامة الرئيسية لدعم الحريات المدنية، وحقوق الإنسان، وعمليات التطوير الشاملة، والإصلاحات في أنظمة التجارة والاستثمار، والتعاون الاقتصادي الإقليمي والدولي، وبناء المؤسسات الديموقراطية." يُشكّل هذا المبدأ الأساس للنظام القضائي في الولايات المتحدة. أدرك الآباء المؤسسون للولايات المتحدة على ان من الأمور الأساسية للعمل الفعال للنظام القضائي عدم إخضاعه لسيطرة السلطات الأخرى للحكم. بغية تحقيق هذا الهدف أنشأ دستور الولايات المتحدة : نظاماً قضائياً فدرالياً مستقلاً من خلال فصل وظيفة سن القوانين التي تؤديها الهيئة التشريعية عن دور تطبيق القوانين الذي تقوم به الهيئة القضائية. اثبت هذا الفصل بين السلطتين التشريعية والقضائية على انه أساسي للحفاظ على حكم القانون. فعندما تقوم هيئات حكومية منفصلة بدوري المُشرّع والقاضي يتقلص خطر السلوك الاستبدادي للحكومة بدرجة كبيرة. وعندما تُفصل سلطة تشريع القوانين عن سلطة تفسير وتطبيق هذه القوانين يتعزز أساس حكم القانون بالذات، بحيث يتم الحكم في النزاعات وفق قواعد التشريع المؤسسة سابقاً. يفرض أي نظام قضائي مستقل على القضاة أنفسهم أن يكونوا مستقلين في ممارسة سلطاتهم، وان يكون النظام القضائي ككل مستقلاً، وان تتم حماية نطاق سلطته من التأثيرات، الظاهرة أو المستترة التي تمارسها هيئات حكومية أخرى. وباستعمال مفردات مبادئ بنغالور، لدى الاستقلال القضائي ناحيتان : فردية ومؤسساتية إذا بحثنا في بادئ الأمر مسألة استقلال القضاة الفرديين، تظهر أمامنا طريقتان لضمان ذلك الاستقلال: الأولى : حماية القضاة من التهديد بالانتقام، وذلك حتى لا يؤثر الخوف في عملية اتخاذ قراراتهم. والثانية : في ان تقوم طريقة اختيار القضاة، وعملية تحديد المبادئ الأخلاقية المفروضة عليهم، على أساس منهجية تقلل إلى الحد الأدنى من خطر الفساد والتأثيرات الخارجية. في الولايات المتحدة، تتحقق الحماية من الانتقام بصورة أولية من خلال المحافظة على مناصب ورواتب القضاة بمنأى عن نطاق تأثيرات القوى الخارجية عليها. ينص الدستور الأميركي على ان القضاة الفدراليين يحتفظون بمناصبهم "أثناء سلوكهم الجيد." ويُفهم من هذا على انه يعني مدى الحياة، في غياب حالات سوء السلوك الفادح. كما يضمن الدستور أيضاً عدم جواز تخفيض رواتب القضاة الفدراليين خلال إشغالهم لمراكزهم. تؤمن هذه الأحكام مع بعضها عدم خشية القضاة من فرض تطبيق القانون حسبما يرونه مناسباً. تحرر ضمانة الراتب والمركز القضاة بحيث يتمكنوا من ممارسة أفضل الأحكام التي يستطيعونها عند تطبيقهم القانون بإنصاف ودون تحيز تجاه الفرقاء الماثلين أمامهم. اتبعت مملكة البحرين مقاربة مماثلة لضمان بقاء أعضاء المحكمة الدستورية الجديدة في مراكزهم، وذلك من خلال النص في المادة 106 من الدستور على ان أعضاء المحكمة : "لا يكمن أن يتعرضوا للفصل" خلال فترة خدمتهم. يجب أيضاً اتخاذ خطوات لتأمين ممارسة القضاة لسلطاتهم دون تحيز وليس استناداً إلى مصلحة ذاتية أو تأثيرات خارجية. فعلى القضاة عدم التأثّر والانحياز لصالح أو ضد أحد المتنازعين بعينه، ولا ان تكون لهم مصلحة شخصية في النتيجة النهائية لأي قضية معينة. لن يكسب القضاة أبداً احترام وثقة المواطنين في حال خضعوا لتأثيرات مفسدة. كل قرار يتخذه قاضٍ لمصلحته الشخصية، أو لكسب حظوة، أو اعتماد أي تفضيل شخصي لديهم، فإن هذا العمل يشوّه سمعة حكم القانون. يجب أن تدار عملية انتقاء القضاة وتحديد المبادئ الأخلاقية التي تقود سلوكهم بحيث تضع هذه الاعتبارات في مقدمة الاهتمام. ومن الطبيعي ان يُشكّل انتقاء القضاة استناداً إلى جدارة المرشحين المفتاح اللازم لتأمين عمل القاضي دون تحيّز. ومن المرجح ان يؤدي اعتماد اعتبارات غير الجدارة في قرار مسؤول سياسي تعيين قاضٍ (أو لدفع الناخبين لاختيار قاضٍ معين) هي نفس الاعتبارات التي سوف تمنع القضاة من الحكم في قضايا بإنصاف ودون انحياز. وإدراكاً من أكبر عدد ممكن من المرشحين الجديرين، فقد أوصى إعلان بيروت الصادر عن المؤتمر العربي الأول للعدالة بان : "يكون اختيار القضاة متحرراً من التمييز على أساس العرق، واللون، والجنس، والدين، واللغة، والأصل القومي، والمركز الاجتماعي، ومكان الولادة، والملكية، والانتماء السياسي، أو أي اعتبار آخر. وبصورة خاصة عند اختيار القضاة، يجب اتباع مبدأ تساوي الفرص لضمان التقييم الموضوعي لجميع المتقدمين لإشغال منصب قضائي". علاوة على ذلك، يوصي الإعلان المذكور : "بعدم السماح لأي تمييز بين الرجال والنساء من حيث تولي المسؤولية القضائية". ان مراعاة هذه التوصيات سوف لا يخدم الحاجة لاختيار كل مرشح استناداً إلى الجدارة فحسب، بل وأيضاً سوف تخفف من أي انحياز مؤسساتي قد ينجم في حال كان القضاة متجانسين بالكامل. ان الالتزام بمبادئ استقلال القضاء لا يخلو من صعوبات. والمسألة المقلقة بنوع خاص تعود للتوتر الذي ينجم، إثر تعيين قاضٍ، بين الاستقلالية من الضغوط السياسية وبين التحرر من أي شائبة تخص المصالح الشخصية. المصدر : النهج الدستوري والديمقراطيات الناشئة .
|