الامام علي بن أبي طالب- عليه السلام- و ثقافة اللاعنف والتعايش
المهندس فؤاد الصادق
النص الكامل لكلمة معهد الامام الشيرازي الدولي للدراسات للمهندس فؤاد
الصادق والتي افتتح بهاالمؤتمرالعالمي الخامس للامام امير المؤمنين علي
بن ابي طالب عليه السلام في المركز الثقافي العربي بالمزة بدمشق
الخميس 12رجب المرجب - 1426 الموافق 18-8-2005وتحت شعار الامام امير
المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وثقافة اللاعنف والتعايش والتي
تليت بالنيابة ايضا في المللكة المتحدة بلندن يوم الجمعة 19- 8 -
2005في المؤتمر الذي انعقد متزامنا وذلك بمناسبة ميلاد الامام علي بن
أبي طالب عليه السلام :
بسم الله الرحمن الرحيم
نهنئكم بميلاد ربيب الرسول الأكرم - صلى الله عليه واله وسلم - وتحفته
الخالدة لأمته وللأسرة البشرية أميرالمؤمنين الامام علي بن أبي طالب -
عليه السلام -
التعايش .....
هذا الاصطلاح القديم الجديد ... السهل الصعب : الذي يشمل :
تعايش الانسان مع ذاته هوتعايش الفرد مع الفرد الآخرفي الجماعة الواحدة
تعايش الفرد مع الفرد الآخر من غير أفراد جماعته
تعايش الجماعة مع الفرد العضو في نفس الجماعة
تعايش الجماعة مع الفرد من الجماعات الأخرى
تعايش بين الجماعات الأفقية في المجتمع الواحد كالمؤسسات الانسانية
والنقابات،واكثر مؤسسات المجتمع المدني
تعايش بين الجماعات العمودية في المجتمع الواحد كالأديان ، والمـذاهب
والطوائف والقومياتتعايش بين الأكثرية والأقلية تعايش بين الأغلبية من
جهة ،والأقلية ، أو الأقليات من جهة اخرى
تعايش بين المجتمات المختلفة
تعايش بين الشعوب المختلفة
تعايش بين الأمم المختلفة
تعايش بين الحضارات المختلفة
تعايش بين الدول المختلفة
تعايش مع البيئة الطبيعية
تعايش مع البيئة الاجتماعية الداخلية ككتلة واحدة
وتعايش .........
فالحاجة إلى التعايش موجودة اينما وجدت علاقة بين طرفين ،وهي مسؤولية
مشتركة يتحملها الطرفان غالبا .
اجلْ هذا الاصطلاح قديم قدم الانسان فقصة قابيل وهابيل معروفة ، لكنه
جديد في الوقت نفسه لتداعيات سلبيات العولمة ، وضرورات العالميةلاصلاح
ثغرات العولمة ، واصلاح ما يسوق من صراع المصالح بأسم الدين تارة ،
وبأسم صراع الحضارات تارة اخرى .
فالحاجة إلى ارساء ودعم وتشريب مفاهيم التعايش حاجة ماسة
وضرورية،ولاسيما مع تحول العالم إلى قرية صغيرة.
اما وصفنا للتعايش بالسهل الصعب ، فيعود إلى سهولة التنظير والدعوة
اليه ، وصعوبة ممارسته ونشره وتكريسه،لا للصعوبة المألوفة في الانتقال
من النظرية إلى الممارسة فحسب، بل لجملة من التعقيدات والتداخلات
والأسس التي يجب ضمانها مستدامة لزرع التعايش وتأصيله وتكريسه على
مختلف الاصعدة والمستويات والمجالات المتقدمة .
اضافة إلى ان التعايش من صنف الأزهار بطيئة النمو ، سريعة الزوال .
وعملية التعايش تبدأ من نظرة الانسان إلى نفسه وتقيمها،ومدى نجاحه في
اقرار حالة التعايش الداخلي مع ذاته،فالذي ينظر إلى نفسه نظرة ايجابية
مطلقة اوسلبية مطلقة،بينما يقيّم الآخر بأنه سلبي أو ا يجابي بصورة
مطلقة ، لايمكنه ان يتعايش مع الآخر ، وكذلك المتعثرفي التعايش مع ذاته
في محاكاته وحوارته مع الذات للخروج بتوازن بين الارادات الداخلية
المتباينة كالعقل والعاطفة والضمير والنفس وما إلى ذلك فيكون ذا شخصية
بعيدة عن التوازن والاعتدال والوسطية ، وهذا مما يبعد الانسان عن
التعايش ، فالتعايش يبدأ من دائرة الذات ويمتد ليؤثر، ويتأثر بجميع
دوائر التعايش المذكورة في المقدمة.
فيما تقدم مفردات لابد من التوقف عند كل منها بايجاز :
النظرة إلى الذات
النظرة إلى الآخر
لاصلاح النظرة إلى الذات ، وبالتالي إلى الاخر يقول سبحانه وتعالى :(
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ
الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا
وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاًكَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ
الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِه وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ
عَلَيْكُمْ رَقِيبا ًً) سورة
النساءالآية: 1.
فالكل مخلوق من نفس واحدة،أي وحدة في الأصل الانساني،والناس ابناء اسرة
وعائلة انسانية واحدة ، والله عزوجل هو الذي كرّم الانسان دون تمييز ،
كما في قوله :
( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ
وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ
الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا
تَفْضِيلا )
سورة الإسراء الآية :70
وما هذا الاختلاف في اللغات والألوان ؟
يقول سبحانه في محكم كتابه :
( وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ
وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي
ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ )
سورة الروم الآية : 22
فـالأصـل الانـساني واحـد ، والجميـع مـكـرمون ، والأخـتـلاف والـتنوع
والتعـدد في اللغـات والألـوان من ايـاتـه ومعجزاته للعالم .
اذا كانت التعددية من اياته سبحانه وتعالى ، وهي الأصل في الحياة :
فما هو الطريق للتعامل بين مكونات التعددية ؟
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم
مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ
لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ
اللَّهَ عَلِيمٌ
خَبِيرٌ) سورة
الحجرات : الآية : 13.
بعد التأكيد مرة اخرى على التعددية يحدد الله عزوجل معيارالتفاضل
بالتقوىالتي هوعليم وخبير بها ، ويشير إلى مقدمة من مقدمات التعايش ،
وهو التعارف بين مكونات نسيج الأسرة العالمية الواحدة :
هلْ التعارف يجلب العداوة والصراع ! ؟
التعارف عادة يمهد للتفهم ، والتقارب فالتفاهم والتعاون والتعايش ،
والأثار الخطيرة للمعرفة الخاطئة ، اوالناقصة عن الآخر، باتت معروفة،و
لذلك يؤكد المصلحون على تجاوزها ، ومعالجتها لدعم التعايش ، لدفعه نحو
التعاون ، كما في قوله تعالى :
( وتعانوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على
الإثم والعدوان )
وفي الحديث الشريف عن الرسول الأكرم ( صلى الله عليه واله وسلم ) :(
خير الناس من ينفع الناس )
نعم التعددية هي الأصل ، وهي اية ، واختبار ،وتنافس ، واستباق الخيرات
في وقت واحد :(
لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً ولو شاء الله
لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم قيما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله
مرجعكم فينبئكم فيما كنتم فيه تختلفون )
فلا للتجانس القهري بضميمة قوله : (
لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي...)
( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر...)
ونعم للتعددية ،فالاختلاف والتمايزسيكون ودائما موجودا ، لكن بالامكان
تحويله إلى اداة ايجابية تنافسية فعالة تغني الأطراف المختلفة
المتمايزة،لتجييره في تخديم الأسرة البشرية الواحدة،وهذا ما يأمر به
الاسلام كما في النصوص المتقدمة وغيرها والوسائل عديدة ومتنوعة منها
ماتقدم مثل تأصيل:
1- وحدة الأصل الانساني .
2- تكريم الانسان بماهو انسان .
3- حرية الانسان .
4- التعددية .
5- حظر التجانس القهري .
6- متطلبات التعايش الاخرى بين الاطراف المختلفة .
وبعبارة اخرى فالاسلام يصحح النظرة إلى الذات اولا ، والى الآخر ثانيا
، والى التعددية ثالثا ويزرع متطلبات التعايش رابعا ، فيعالج التحجيم
والتضخيم سواءا في النظرة إلى الذات اوالى الأخر، بتأصيل وحدة الأصل
الانساني ،و تكريم الانسان بماهو انسان إلى جانب نفيه للغرور والتعصب
وماشابه ذلك من معوقات للاتصال والتعارف ، كما يؤصل الحرية للانسان ،
ويرفض التجانس القهري ، مما يصحح النظرة إلى التعددية ، لضمان التعامل
الايجابي البناء معها،وبكل صراحة وصدق وثقة،وبعيدا عن المراوغة
اوالنفاق أوالاضطرار ومانحو ذلك، فعند التدبر في الايات الكريمة
التالية إلى جانب ماتقدم يبدو ذلك جليا :
( وما ارسلناك الا رحمة للعالمين )
( إن الدين عند اللّه الإسلام )
( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من
الغي...)
( لكم دينكم ولي دين )
( لا أعبد ماتعبدون )
( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر...
)
اليس ذلك قمة التسامح المنشود لدعم وترسيخ التعايش ؟
فالتسامح في معناه الاصطلاحي الحديث يدل على قبول اختلاف الآخرين –
سواء في الدين أم العرق أم السياسة– أوعدم منع الآخرين من أن يكونوا
آخرين أو إكراههم على التخلي عن آخريتهم.
بل اكثر من ذلك ، فهو يطبق ما يسمونه مؤخرا بأرقى انواع التسامح والذي
يدعو إلى تجاوز الموقف الذي يقتصر على التسامح بمعنى قبول اختلاف
الآخرين،والتقدم إلى موقف التقديرالمناسب لخصائص الآخرواحترام
"آخريتهم" فالاسلام لم يحترم اخرية الآخرين فحسب ، بل يسمح لقوانين
الآخر بتطبيق قوانينه في بيئته وضمن المجتمع أو النظام الاسلامي
وقاعدتي الالزام ، والامضاء في الفقه الاسلامي خير دليل على ذلك ، وفي
الاحلاف والاتفاقيات التي عقدها وطبقها الرسول الاكرم على الصعيدين
الخارجي والداخلي ما هو اكبر وأرقى من ارقى انواع التسامح المطروحة هذه
الايام مع بداية الألفية الثالثة.
هذا من جهة ، ومن جهة اخرى فالاسلام يكرس كل متطلبات ودعائم التعايش
،وما ينعشه ويضمنه بصورة مستدامة مثل :
القسط ، العدل ، الانصاف ، العفو ، الصفح ، احقاق الحق ، نفي الظلم ،
حسن الظن ما إلى ذلك .
قال الله تعالى:
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا
قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ
شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ
لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا
تَعْمَلُونَ ) سورة
المائدة الآية : 8.
هذه بعض النصوص التي تشير إلى منطلقات وركائزنظرية التعايش في الاسلام
،وقد زرعاها ورعاها الرسول الأكرم ( صلى الله عليه واله وسلم ) ايما
رعاية ، رعاية كاملة وعظيمة للغاية فالعلامة الفرنسي جوستاف لوبون يقول
:
( رأينا من آي القرآن التي ذكرناها آنفًا أن مسامحة محمد لليهود
والنصارى كانت عظيمة للغاية ).
ويضيف روبرتسن في كتابه ( تاريخ شارلكن ) :
( إن المسلمين وحدهم الذين جمعوا بين الغيرة لدينهم وروح التسامح نحو
أتباع الأديان الأخرى )
كما في : كتاب (حضارة العرب ) لجوستاف لوبون - الصفحة 128
اما عن امير المؤمنين الامام علي بن ابي طالب ( عليه السلام ) والتعايش
فنستعرض بعض اللقطات :
يقول عليه السلام في عهده لمالك الاشتر لما ولاه مصر :
(... واشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم ولا تكونن عليهم
سبعاً ضارياً تغتنم اكلهم فإنهم صنفان أما أخ لك في الدين أو نظير لك
في الخلق يفرط منهم الزّلل وتعرض لهم العلل ، ويؤتى على ايديهم في
العمد والخطأ ، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك الله من
عفوه وصفحه . )
وكأنه لضمان التعايش بين الراعي والرعية لايكتفي بمجرد رعاية الوالي
للرحمة والمحبة واللطف في التعامل مع الرعية وبجميع مكوناتها المختلفة
، اذن :
ما هو المطلوب ؟
ماهو البديل ؟
المطلوب هو الانطلاق من الذات ، ومن المركز الستراتيجي للذات ،
الانطلاق من القلب ، لتبدأ بزراعة الحب والرحمة واللطف ، حتى يتحول ذلك
الحب الذي يسع جميع مكونات النسيج الاجتماعي إلى ملكة ، فتحب الرعية
بتعدديتها حبا متواصلا و نابعا من القلب :
وهلْ هناك مايضمن التعايش و التسامح اكثر من الحب الواقعي الصادق
النابع من القلب ؟
انه الحديث الرائع عن خلق مقومات التعايش المستدام ،طبعا في النص
المتقدم ايضا اشارة إلى اصالة التعددية ، وواقعية ، وعدالة
وعقلانـيةالـتعامل معهـا ، اضافة إلى معالجة وتصحيح النظرة إلى كل من
الذات ، والآخربتأكيد وحدة الأصل الانساني في قوله :
فإنهم - أي الناس - صنفان أما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق .
هل الحب والتلطف والكلام المعسول لوحده يكفل التعايش ؟
يشير عليه السلام إلى عدم جدوى كل ماتقدم ما لم يعزز بتكريس حقوق
الرعية ، وتحاشي الاضرار بها ، و بمكوناتها المختلفة بقوله :
ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً - أي تضرهم - تغتنم اكلهم - أي تهضم
حقوقهم - .
ثم يؤصل عليه السلام العفو والصفح لخلق الارضية الخصبة للتسامح
والتعايش بقوله :
يفرط - أي يسبق - منهم - أي من الناس - الزّلل - وتعرض لهم العلل -
أي علة الأعمال السيئة ، ويؤتى على ايديهم في العمد والخطأ - وهذا
طبيعة الانسان -، فأعطهم من عفوك وصفحك ... و لاتندمن على عفو - اذ
العفو احسن عاقبة من الانتقام - ولاتبجحن بعقوبة - أي لا تفرحن بسبب
ما عاقبيت به احدا ، فأن العقوبة شر عاقبة مهما كانت حقا .
وماهي حدود العفو والصفح المطلوب ؟
يقول - عليه السلام - : فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك
الله من عفوه وصفحه .
يا ترى ماهي حدود العفو والصفح الذي نطمع ان يمنحنا الله اياها ؟
هلْ ثمة حدود ؟
ويقول عليه السلام في خطبة اخرى : بما يرتبط بمقومات التعايش
وتحديدابما يتعلق بانصاف الناس والصبرعلى حوائجهم ودون تمييز :
( انصفوا الناس من أنفسكم وإصبروا لحوائجهم
فإنكم خزان الرعية ووكلاء الأمة.... ولاتضربن احداً سوطاً لمكان درهم
ولاتمسّن مال أحد من الناس مصلّ ولا معاهد )
والمعاهد هو غير المسلم من أهل الكتاب.
وعن دور العدل المستدام في ارساء اسس التعايش ، فالامام - عليه السلام
- يقول :
بأن استـقامة العـدل لايحول دون اعتداء البعض الاخر ، بل تعمل على حب
وود الرعية للراعي ، وهو اكثر تقدما من التعايش :
( وان افضل قرة عين الولاة - الموجب لفرح واطمئنان الولاة - استقامة
العدل في البلاد- فيأمن كل انسان للعدالة المطبقة فلايتعدى بعض الرعية
على الآخرفينتعش التعايش - وظهور مودة الرعية - أي حبهم للدولة -,
وانهم لا تظهر مودتهم الا بسلامة صدورهم - بسبب تكريس العدل - .. )
فالامام عليه السلام لم يكتف بمجرد ارساء اسس التعايش ، بل يدعو
التعامل والتعاطي على اساس الحب الصادق الذي يستند إلى العدالة .
اما عن المواطنة الكاملة ولجميع الشرائح فورد عن امير المؤمنين(ع) :
مرّ به شيخ كبير مكفوف البصر يسأل الناس الصدقة فقال أمير المؤمنين(ع)
:
ما هذا؟
قالوا: نصراني.
فقال(ع): استعملتموه حتى إذا كبر وعجز منعتموه؟ انفقوا عليه من بيت
المال .
فالمواطنة كاملة وللجمـيع ، دون تمييز ، والضمان الاجتماعي ومن بيت
المال عام يشمل الكل ، فالحاجة لابد وأن تسد مع حفظ الكرامة الانسانية
.
اليس التمييز عدوا للتعايش ؟
ألا يكون التعايش-انْ وجد - هشا مع الحاجة والفقر والخوف من المستقبل
واهدار الكرامة الانسانية لسد العوز ؟
فالامام - عليه السلام _ يوصي مالك بالضمان في قوله :
...الله الله - يامالك - في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم - أي
لاسبيل لهم لادارة امورهم - من المساكين -
المسكين هوالذي أسكنه الفقر من الحركة - ,و المحتاجين - المحتاج هو
صاحب الحاجة - , واهل البؤسى - أي شديدي الفقر - والزمنى - أي ذوي
الامراض والعاهات التي تمنع عن العمل -, فان في هذه الطبقة قانعا - أي
سائلا - ومعترّا - أي متعرضا للعطاء بلا سؤال - واحفظ لله ما استحفظك
من حقه فيهم , واجعل لهم قسما من بيت مالك ,وقسما من غلات صوافي
الاسلام في كل بلد ، فانّ للا قصى منهم مثل الذي للادنى - أي دون تمييز
في ذلك الضمان بين المركز والمحيط أو بين العاصمة والمحافظات أو بين
المدينة والأرياف - ,فلا يشغلنك عنهم بطر - أي طغيان الملك والنعمة -
, فانك لا تعذر - أي لايقبل الله ولا الناس عذرك - .
في الاقتصادوالتنمية والتعايش :يوصي - عليه السلام - :
( ثم اسبغ - أي أوسع - عليهم الارزاق - باعطائهم مقدار حاجاتهم في رفاه
- فان ذلك - الاسباغ - قوة لهم على استصلاح انفسهم - فمنْ صلح حاله
لايفكر الا في عمله -, وغنى لهم عن تناول ما تحت ايديهم - فلا يظلمون
الناس بأخذ أموالهم ، ولا المال العام -, و حجة عليهم - أي سحبا
للذرائع - انْ خالفوا امرك , او ثلموا - أي خانوا - امانتك) فالرفاه
المتناسب مع الحاجة يساعد على اصلاح الفرد لحاله وذاته وتفعيل اداءه ،
ويحول دون ظلم الآخر، وتفشي الاحقاد .
وهل يمكن اهمال دور الرفاه في احياء التعايش وانعاشه ؟
ويضيف في هذا الاتجاه - عليه السلام - مايزيد الصورة وضوحا :
( ... وانما يوتى خراب الارض من اعواز اهلها ... )
ولذلك يؤكد - عليه السلام - على التنمية مشددا على التنمية ورفع
الانتاج لدعم الميزانية العامةمحذرا من اللجوء إلى الضرائب المشروعة
مشيرا إلى اخطار ذلك على البلاد والعباد بقوله :
(... وليكن نظرك في عمارة الارض ابلغ من نظرك في استجلاب الخراج,لان
ذلك لا يدرك الا بالعمارة, ومن طلب الخراج بغيرعمارة اضر بالبلاد واهلك
العباد, ولم يستقم امره الا قليلا …فان العمران محتمل ما حملته... )
فالرفاه ينعش التعايش ، ولضمانها لابد من تنمية مستدامة ، والحاجة
والعوز تقودان إلى الخراب ، والتعويل على الضرائب دون رفع الانتاج
والارباح يضر بالبلاد ويهلك العباد، وكيف لا تكون النتائج كذلك ؟
فحين تتوقف التنمية ، تتدنى وتنعدم الارباح ، وتهبط فرص العمل ، وترتفع
البطالة،لكن دفع الضرائب المجازة متواصل ، فيستمر الفقر والافقار
والبطالة ، فيبدأ التذمر بالنمو ، فتختل التوزانات والعلاقات لتختفي
فرص التعايش بين الرعية نفسها من جهة ، وبين الحاكم والمحكوم .
هذه بعض الفقرات من وصية امير المؤمنين - عليه السلام- لمالك الأشتر ،
والتي باتت معروفة عالميا بالدستور العلوي ، وقد أجاد حقا المفكر
المسيحي جورج جرداق في تعليقه على هذا الدستور بقوله :
(( فليس من أساس بوثيقة حقوق الإنسان التي
نشرتها هيئة الأمم المتحدة إلاوتجد له مثيلا في دستور ابن أبي
طالب ثم تجد في دستوره ما يعلو ويزيد…
))
اما الأمين العام للأمم المتحدة : كوفي عنان فقال قبل ثلاث سنوات :
(( قول علي ابن أبي طالب :
يا مالك إن الناس إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق..، هذه
العبارة يجب أن تعلَّق على كل المنظمات، وهي عبارة يجب أن تنشدها
البشرية
))
وبعد أشهر اقترح عنان أن تكون هناك مداولة قانونية حول كتاب الإمام علي
إلى مالك الأشتر. اللجنة القانونية في الأمم المتحدة، بعد مدارسات
طويلة، طرحت هل هذا يرشح للتصويت أم لا، وقد مرت عليه مراحل ثم رُشِّح
للتصويت، وصوتت عليه الدول بأنه أحد مصادر التشريع الدولي.
هذه فقرة من وثيقة واحدة من وثائق الامام علي بن ابي طالب تحفة الرسول
الأكرم - عليهما الصلاة والسلام - لأمته ، وللأسرة البشرية .
لنذكر ثلاث لقطات ترتبط بالتعايش خارج هذه الوصية ، مما هو اكثر خصوصية
،ويسلط الضوء على الممارسة والتطبيق في حياته عليه السلام :
الإمام (عليه السلام) يمشي مع النصراني إلى قاضيه،ليتحاكم كأحد الرعيه،
وقاضيه يقضي عليه غيرمصيب ، فلا يرفض عليه السلام الحكم!
روى ابن الأثير في التاريخ (الكامل) أن علياً (عليه السلام) وجد درعاً
عند نصراني فأقبل إلى شريح قاضيه وجلس إلى جانبه يخاصم النصراني مخاصمة
رجل من رعاياه، وقال: إن هذه درعي لم أبع ولم أهب، فقال للنصراني: ما
يقول أمير المؤمنين؟
فقال النصراني: ما الدرع إلا درعي، وما أمير المؤمنين عندي إلا بكاذب،
فالتفت شريح إلى علي (عليه السلام) فقال: يا أمير المؤمنين هل من بينة؟
قال: لا، فقضى شريح بها للنصراني، فمشى هنيئة ثم أقبل فقال: أما أنا
فأشهد أن هذه أحكام النبيين، أمير المؤمنين يمشي بي إلى قاضيه، وقاضيه
يقضي عليه! أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنّ محمداً عبده
ورسوله، الدرع والله درعك يا أمير المؤمنين .
كما في كتاب : بحار الانوار ج 97 - ص 291هذه القصة رويت أيضاً بشكل
آخر، في الكتب الفقهية في باب القضاء.
هلْ رأى الشرق و الغرب نموذجا كهذا ؟
انها قمة الخضوع لسيادة القانون ، لاستقلال القضاء ، ولمساواة الجميع
امام القضاء دون تميـيز بسبب الدين أو الموقع أو المسؤولية أو ....
وهلْ للتعايش طريق غير النمو والتجذر والتأصل في كنف ممارسات كهذه ؟
يجيب شبلي شميلـو على السؤال المتقدم قائلا :
إن علي بن أبي طالب عليه السلام إمام بني الانسان و مقتداهم ، و لم ير
الشرق و الغرب نموذجا يطابقه أبدا لا فيالغابر و لا في الحاضر.
كتاب : الإمام علي صوت العدالة الانسانية،ج 1 - ص .7
الامام علي - عليه السلام - قائد الدولة يعدل عن طريقه ليشايع صاحبه
الذمي :
ورد عن الإمام جعفر الصادق حكاية عن جده أمير المؤمنين( عليهما السلام
) :
حيث صاحب ذمياً في الطريق فقال له الذمي:
أين تريد يا عبدالله؟
قال «ع»: أُريد الكوفة، فلما عدل عن الطريق، الذمي، عدل معه أمير
المؤمنين«ع» ....
فقال له الذمي: لم عدلت معي؟
فقال أمير المؤمنين(ع) : هذا من تمام الصحبة أن يشيـّع الرجل صاحبه
هنيئة اذا فارقه وكذلك أمر نبينا، وفيه أن الذمي أسلم بذلك
.
كما في كتاب : العلاقات الاجتماعية ص : 323
كيف يصف الامام علي - عليه السلام - منْ رفع السلاح ومارس الارهاب :
يقول الإمام محمد الباقر( عليه السلام ) أن جده عليا (عليه السلام) لم
يكن ينسب أحدا من أهل حربه إلى الشرك ولا إلى النفاق ولكنه كان يقول:
(( هم أخواننا بغوا علينا
))
كما في كتاب :
وسائل الشيعة ج11- ص 62
اجلْ لمْ يجتهد امير المؤمنين الامام علـي بن أبي طالب - عليه السلام -
في نشر ثقافة التعايش فحسب ، بلْ ساهم في انشاء وبناء وصناعة وعي فردي
وجمعي من اجل تعايش ايجابي مستدام ومسؤول ، فكان في سلوكه الرسمي وغير
الرسمي والفردي والاجتماعي وفي كل الظروف والاحوال اية وقدوة للتعايش
ودعائمها ، لينقل التعايش بمقوماته من الرصيد المعلوماتي للبشرية إلى
الرصيد المعرفي كي يترجم التعايش في السلوك والقرار.
فأين نحن اليوم من ثقافة التعايش مع هذا الرصيد الهائل ؟
لماذا نسقط المطلقية على الدين ؟
في الوقت الذي لايسمح الدين بالمطلقية حتى في اهم الامور العقائدية ،
وأعني تحديدا :
الايمان ، فالتعددية هي الأصل حتى في الايمان : كـيـفْ !
؟
ورد عن عبد العزيز القراطيسي قال: قال لي أبو عبد اللّه الصادق(عليه
السلام):
(( يا عبد العزيز إن الإيمان عشر درجات
بمنزلة السلم، يصعد منه مرقاة بعد مرقاة، فلا يقولن صاحب الإثنين
لصاحب الواحد: لست على شيء.. حتى ينتهي الى العاشرة، فلا تسقط من هو
دونك، فيسقطك من هو فوقك، وإذا رأيت من هو أسفل منك بدرجة فارفعه إليك
برفق، ولا تحملن عليه مالا يطيق فتكسره، فإن من كسر مؤمنا فعليه جبره
))
كما في كتاب : بحار الانوار ج - 66- ص- 165 فمنطق حصر الألوان في
الأسود والأبيض مرفوض حتى فيما يرتبط بالايمان ،كما هو الاقصاء
والتسقيط كذلك ، حتى لو برز بعباءة الايمان ، فللتسقيط بداية بلا نهاية
، ومنْ أسقط سيسقط بعد حين وختاما : لقد عمل الامام علي بن ابي طالب -
عليه السلام - لتكريس التعايش بزرع مقوماتها مفهوما وممارسة
كالتعددية والتسامح واللاعنف والعدالة كما تقدم ، فالمفاهيم هذه بلا
عدالة ، تبقى مفاهيم نظرية ، عصية على التطبيق ، ولاتتعدى عن كونها
معلومة من المعلومات ، وحلما من الاحلام ، لذلك نرى الامام - عليه
السلام - نذر نفسه الطاهرة لتكريس وتأصيل مقومات التعايش ، وعلى رأس
تلك المقومات العدالة ، في كل خطوة ، وفي جميع الاحوال والمراحل ،
فحوّل التعايش إلى أصل معرفي ، فعبر به من دائرة الفكر ، إلى دائرة
القرار ، ومن غربة النظرية إلى واحة الممارسة ، فأمست بعدالته قادرة
وفاعلة على رفد التعايش بسرّ الحياة والخلود حتى أستشهد لعدالته .
كما يقول الكاتب المسيحي جبران خليل جبران:
( قتل علي في محراب عبادته لشدة عدله.)
ان اليونسكو قد تنبهت لأهمية التعايش ، ومنذ عشر سنوات فاعتبرت شعار
«تعلم للعيش مع الآخرين» احد الأعمدة الأربعة المطلوبة في اي نظام
تربوي إلى جانب الأعمدة الثلاثة الأخرى : «تعلم لتعرف»، «تعلم لتعمل»،
«تعلم لتكون» ، فاني أتمنى ومن مؤتمركم المبارك هذا ، وفي هذه الامسية
المباركة التقدم إلى اليونسكو بأقتراح لجعل شعار :
« تعلم العدالة لتسعد بانتعاش التعايش» أحد الأعمدة المطلوبة في اي
نظام تربوي ،واعتباركتاب نهج البلاغة مصدرا من مصادر النظام التربوي
الدولي والسلام عليكم جميعا ورحمة الله وبركاته ، وكلّ عام وأنتم بكل
خير .
معهد
الامام الشيرازي الدولي - للدراسات
|