ماهي البنية التحتية الإدارية، الضرورية لحسن سير انتخابات ديمقراطية ؟

سنحاول تحليل مختلف أنواع الأجهزة التي تكلَّف بإدارة الانتخابات، ووظائفها ومسؤولياتها.

مع التطرّق في هذا القسم إلى جوانب إدارية وعملانية عدّة، ولا سيما التكاليف المرتبطة بالمكننة والموظفين والجودة والتجهيز.

مع السعي للاجابةعن الأسئلة التالية:

- ما هي مختلف أنواع الأجهزة المكلَّفة إدارة الانتخابات؟

- ما هي صلاحيات هذه الأجهزة ومسؤولياتها؟

- ما هي المبادىء التي ينبغي أن يستند إليها مديرو الانتخابات لضمان أخلاقية العملية الانتخابية وطابعها الاحترافي؟

الإدارة الانتخابية

الانتخاب الناجح حدث مكلف وواسع النطاق، يستلزم تنفيذ عدد ضخم من المهمات الأساسية والثانوية على يد جمع من الأشخاص الذين يتوجّب عليهم إدراك مسؤولياتهم في العملية الانتخابية وتحمُّل تبعات أعمالهم تجاه القانون.

ويتناول هذا القسم بصورة أساسية البنى والاجراءات الإدارية الضرورية لحسن سير الانتخابات الديمقراطية.

وهذا ما يفسّر أهمية الدور الموكل إلى مديري الانتخابات والموظفين التابعين لهم، وهو دور يتطلَّب التزاماً شخصياً كبيراً.

ففي مؤلَّف بعنوان: Elections libres et régulières: Droit et Pratique internationaux (Genève: Union interparlementaire, 1994). أورد البروفسور غي غودوين - جيل الملاحظة التالية:

تأمين مراقبة العملية الانتخابية...

ومن إيكال مسؤولية التطبيق إلى مسؤولين انتخابيّين حياديّين...

فالآلية الرقابية المتمتّعة بثقة الأحزاب والناخبين ضرورية جداً في الحالات الانتقالية من نظام الحزب الواحد إلى التعدّدية الحزبية مثلاً، أو كلما كان حياد السلطات الإدارية موضع تشكيك.

إنَّ الضمان الحقيقي للحقوق السياسية والانتخابية يلزم الدول... بوضع نظام انتخابي ملائم والوفاء بالالتزامات التي يفرضها عليها القانون الدولي فيما يتعلَّق بالحقوق الفردية... وبوضع آلية حيادية و/أو متوازنة لإدارة الانتخابات التشريعية".

من المبادىء الرئيسية

على كل جهاز انتخابي أن يراعي المبادىء الثلاثة التالية:

1- الاستقلالية .

2-  الحياد .

3- الاحترافيَّة.

ويجب أن يخضع لاجراءات واضحة تبيّن حدود مسؤولياته وتسمح بتقويم فاعليته، بوصفه مديراً ومقدّم خدمات على السواء. يجب أن يكون هذا الجهاز قادراً على العمل في بيئة سياسية مع الامتناع عن إصدار قرارات أو القيام بمبادرات ذات طابع سياسي.

في نظام متعدّد الأحزاب، لا يمكن الجهاز الانتخابي أن يحظى بثقة الأحزاب ويحافظ عليها إلاّ إذا عُدّ مستقلاً حيال جميع الأحزاب والحكومة. ففي بعض البلدان، كما في بابوا-غينيا الجديدة وجنوب أفريقيا، يكفل الدستور استقلالية الأجهزة الانتخابية.

الجهاز الحيادي لا يهتمّ بنتيجة الانتخاب الذي يديره. فدوره يقوم على تهيئة الساحة التي سيتواجه فيها المرشَّحون والأحزاب، وعلى تزويد جميع الناخبين كل المعلومات المطلوبة لتمكينهم من التصويت بطريقة متنوّرة إلى حدّ معقول، وعلى تجميع الأصوات وإعلان النتائج دون الإضرار بأيّ حزب أو مرشَّح.

يجب أن يكون هذا الجهاز مؤلَّفاً من أشخاص أكفاء، وخصوصاً في نظر المشاركين في الانتخاب، وأن يتصرَّف بحياد ويتمتّع بثقة الأحزاب الرئيسية.

- الاحترافيَّة:

إضافة إلى الاستقلالية والحياد، يجب أن يتَّصف الجهاز بصفة أخرى لا تقلّ أهميةً، هي: الاحترافية في الاضطلاع بتلك المهمة الضخمة التي هي إدارة الانتخابات.

فكل ضعف تنظيمي عائد إلى قلَّة الاحترافيَّة قد يحمل الناخبين على التشكيك في الالتزام بمبدأَيْ الاستقلالية والحياد الرئيسيَّيْن، ويثنيهم عن المشاركة في الانتخابات المقبلة.

إنّ ضرورة إضفاء الطابع الاحترافي على العمليات الانتخابية دفعت إلى قيام تجمّعات من القيّمين على إدارة الانتخابات وإلى نشوء العديد من مؤسسات التدريب المتخصّصة، على المستويين الوطني والمناطقي.

فمؤسسة الانتخابات الفدرالية في المكسيك (TFE) أنشأت دائرة انتخابية مهنية (SEP).

والغاية من هذا النظام، الذي يعمل لتأطير مهنة الاختصاصيَّين، هي تدريب موظفين قادرين على تلبية جميع شروط الخدمة الانتخابية.

ذاك أنه يتعيَّن على موظفي هذه الدائرة التقيّد بشرط ساهم إلى حدّ كبير في رفع المستوى الاحترافي لمؤسسة الانتخابات الفدرالية: الاشتراك في مختلف برامج التدريب المهني طوال مسارهم المهني.

أما المبادئ العامة التي تسمح بتأمين جودة العمليات الانتخابية، فتشمل النقاط التالية:

- الشفافيَّة:

يجب أن تُتاح إمكانية إخضاع العمليات لمراجعة دقيقة وأن تكون في متناول جميع المشاركين.

يجب أن تكون مختلف المسؤوليات المتعلّقة بالعمليات الانتخابية محدَّدة بوضوح: فالكل يجب أن يعرف مَن هو صاحب السلطة التقريرية، وما هي سلسلة المراتب.

يجب أن يكون لدى المشاركين اليقين بأن الاقتراع سرّي، والثقة بأن حرية التعبير مضمونة لهم.

يجب أن توضع أنظمة فعّالة لتدارك عمليات التزوير في الانتخابات، وأن يكون ثمة قانون لمكافحة المخالفات بحيث يدرك جميع المشاركين العقوبات المرتبطة بكل تصرُّف غير مناسب.

يجب أن يكون في وسع المشاركين والرأي العام الحصول على المعلومات المتعلِّقة بالعمليات الانتخابية. ومن واجب مديري الانتخابات نشر هذه المعلومات بطريقة فعَّالة.  

بعض أهم الخيارات العملانيَّة

ليس ثمة بنية كاملة للجهاز الانتخابي، ولا يمكن إنشاء مثل هذا الجهاز من دون تسوية إذا أردنا أن يستجيب لشروط وحاجات متضاربة عدّة.

وبين المهمات التي يمكن أن يُعهد فيها إلى جهاز انتخابي، نجد العناصر التالية:

- تنظيم الانتخابات والاستفتاءات.

- إعداد وتيويم سجلّ الناخبين.

- تحسيس الجمهور بأهمية القضايا الانتخابية عن طريق حملات التنشئة المدنية والحملات الاعلامية.

- إعداد برامج لتشجيع المشاركة، تستهدف بخاصة النساء والشبان والأميّين والأقليّات المحرومة.

- إعلام المرشحين والأحزاب السياسية وكل شخص معني آخر، بما ينبغي معرفته عن العمليات الانتخابية.

- وضع الأنظمة التي ترعى العمليات الانتخابية.

- التحقيق في المخالفات المزعومة لقانون الانتخاب وتطبيق العقوبات المناسبة.

- دراسة السياسة الانتخابية والمسائل المرتبطة بها.

- تزويد الحكومة والسلطة التشريعية المعلومات والمشورات في شأن الانتخابات.

- المشاركة في مشاريع التعاون والمساعدة الدولية، ولا سيما بإيفاد واستقبال مراقبين أو مستشارين تقنيّين.

إنَّ الهدف، في الإدارة الانتخابية، هو إقامة البنى ووضع الإجراءات الأكثر تلاؤماً مع الظروف السائدة. فهناك العديد من نماذج الإدارة الانتخابية، والخيار النهائي يمليه إلى حدَّ كبير السياق التاريخي والثقافي للبلد المعني، ومستوى تطوره الثقافي ووضعه المالي والسياسي والمستوى التعليمي لأبنائه. أما الخيارات الأساسية، فهي التالية:

- أجهزة دائمة أو موقَّتة.

- أجهزة حزبية أو غير حزبية.

- أجهزة إدارية أو قضائية.

- أجهزة وطنية أو محليَّة.  

الاعتبارات المالية والإدارية

الإدارة الانتخابية معترف بها الآن كخدمة مماثلة، من نواحٍ عدة، لخدمات القطاعات الأكثر تقليديةً. وهناك العديد من اختبارات قياس الفاعلية، المستخدمة في القطاعات الأخرى، تنطبق على إدارة الانتخابات.

ولكن، خلافاً لبقيَّة الخدمات، فإنَّ إدارة الانتخابات تكون، في فترة الانتخابات، محور الاهتمام الإعلامي، في حين لا يفطن لها أحد في الفترات الأخرى. ومن المهم جداً أن تُدار العملية الانتخابية على نحوٍ سليم وفعَّال، وإلاَّ فإنه يُخشى :

سواء كان مديرو الانتخابات محطَّ اهتمام أم لا، فمن واجبهم أن يسعوا دائماً لجعل العملية الانتخابية، بقدر المستطاع، في متناول جميع المواطنين.

فكل انتخاب يحرم قسماً من الناخبين حقّهم في الاقتراع، إما لأن مكاتب الاقتراع بعيدة جداً منهم أو بسبب عراقيل مادية يواجهها الأشخاص المعاقون أو لأي سبب آخر، لا يكون انتخاباً ديمقراطياً تماماً.

- إعداد استراتيجية واضحة تبيِّن أهم الأنشطة والنتائج المنشودة.

- إعداد خطة عملانيَّة مفصَّلة مقرونة بروزنامة استحقاقات.

- إعداد اجراءات لتعيين الموظفين وتأمين تدريبهم وتزويدهم التجهيزات اللازمة قبل بدء العمليات الانتخابية.

- لحظ آليات لتعيين وتدريب الموظفين الموقَّتين.

- وضع نظام عادل لمعالجة الشكاوى وإعلام الجمهور الواسع به.

- وضع أنظمة وآليات متَّفقة مع قانون الانتخاب، وسهلة الفهم والتطبيق. ويمكن أن يُعهد في المهام العملانية إلى موظفين موقَّتين. لكن، في حالة الأنظمة المعقَّدة، حيث يكون خطر ارتكاب الأخطاء أعلى درجةً، لا بدّ من لحظ مهلٍ أطول لشرح طرائق عمل هذه الأنظمة للموظفين.

إنَّ إدارة الانتخابات، التي هي من وظائف الدولة الطبيعية، تسبّب على العموم نفقات مرتفعة (فكلفة الانتخاب في الديمقراطيات المتقدّمة يمكن أن تراوح بين 4 و 6 دولارات أميركية لكل ناخب).

ويتعيَّن على المشرّعين أن يوافقوا على إمداد مديري الانتخابات بالأموال اللازمة لممارسة وظائفهم المشروعة، وإلاَّ أصبحت العملية الانتخابية مهدَّدة. في المقابل، يجب أن يعي مديرو الانتخابات، كقيِّمين على أموال عامة، أن للمجتمع حاجات أخرى كثيرة.

وبما أن العمليات الانتخابية تستلزم العديد من الموظفين، فغالباً ما تكون كلفة هؤلاء أكبر أبواب الإنفاق. إن عدد الموظفين ومستوى التدريب المطلوب (وتالياً التكاليف) متناسبان مباشرةً مع درجة تعقّد العمليات. كما تمثّل اللوازم الانتخابية بدورها إنفاقاً كبيراً.

لذا، من المهم جداً تقدير جميع العناصر التي من شأنها تضخيم النفقات التجهيزية لمعرفة ما إذا كانت ضرورية أم لا.

يتعيَّن على الجهاز كي يثبت احترافيَّته أن يبحث باستمرار عن سبل تحسين القانون الذي هو مكلّف تطبيقه، إضافةً إلى تحسين طريقته في إرشاد الموظفين والأحزاب السياسية والمرشحين والناخبين في شأن العمليات الانتخابية.

أخيراً، عليه أن يجد الوسيلة الفضلى لتثقيف الناخبين وإرشادهم حول العملية الانتخابية، وأن يسعى لاستخدام الموارد على النحو الأمثل، ولا سيما التقانة الحديثة.

لقد أثبتت تجربة العديد من البلدان أنه من الخطر التقليل من دور الجهاز الانتخابي بين الانتخابات. حتى حين يفتر الاهتمام الشعبي، ينبغي على جميع المتدخّلين - من المشرِّعين والأحزاب السياسية إلى مجموعات المواطنين والقيِّمين على الانتخابات - أن يعملوا معاً لتحسين العملية الانتخابية وللتأكّد من أن الجهاز مستعدّ للانطلاق ثانيةً عند الاعلان عن انتخابات جديدة. فالقدرة على التدخّل السريع والتحسين المتواصل للعملية هما السببان الرئيسيان اللذان يبرّران انشاء دوام عمل دائم داخل الجهاز.

الأجهزة المكلفة بإدارة الانتخابات : من البنى الممكنة:

 دائمة / موقَّتة

غير حزبية / حزبية

إدارية / قضائية

وطنية / إقليمية / محلية

إنَّ الفترة الفاصلة بين انتخاب وآخر هي أيضاً الوقت الأمثل للتخطيط لبرامج تحديثية وتنفيذها. وبما أن إدارة الانتخابات تتطلَّب معالجة كميَّة كبيرة من المعطيات، فإنَّ المكننة تتيح أحياناً زيادة فاعلية العملية ومصداقيتها. ويجب أن تُدرس كلفة المكننة تبعاً لوضع كل بلد. فبعض البلدان توظّف كثيراً في التقانة الطليعيَّة لتكون على مستوى البلدان الأخرى أو لتتقدَّم عليها.

يبقى أن الآليات الأبسط هي الأرخص عموماً. ويتعيَّن على مديري الانتخابات السعي لتقديم خدمات تلبّي حاجات البلد، مع مراعاة الموازنة المتاحة.

حين لا تكون التقنيات الطليعيَّة مطلوبة، فسيعد كل استثمار في هذا المجال نوعاً من الهدر، وقد يزعزع ذلك الثقة بالجهاز.

لعلّه من المناسب الاستغناء عن المعلوماتية في البلدان حيث اليد العاملة رخيصة، إنما حيث لا تتوافر البنية التحتية اللازمة لدعم نظام ممكنن.

في نهاية أحد الاستحقاقات الانتخابية، من المفيد القيام بتحليل النفقات، مع تبيان الأبواب التي كلَّفت أكثر أو أقل مما كان متوقعاً.

وفي حالة الأبواب التي تجاوزت التوقّعات، يكون من مصلحة المسؤولين أحياناً تبسيط الاجراءات لخفض التكاليف. وهذا هو أيضاً الوقت الأمثل لتحضير موازنة الاستحقاق الانتخابي المقبل.

كما أنه من المناسب إطلاع المشرّعين المولجين بموازنة الانتخابات على نتائج التحليل الذي تلا الاستحقاق الأخير والخطط التي يمكن وضعها لخفض بعض أبواب الإنفاق.

وهكذا، سيكون المشرّعون أكثر ميلاً إلى القبول بزيادة النفقات، لا بل الاستثمارات الطويلة الأجل، والتي قد تكون ضرورية لأبواب أخرى.