مدخل لفهم السياسة الخارجية الأميركية في القرن الحادي والعشرين

 

 

إسم الكتاب :وهم التحكم (القوة والسياسة الخارجية في القرن الحادي والعشرين)

إسم المؤلف: سيوم براون

عرض: معقل زهور عدي

 

مقدمة: 

يتأرجح العقل السياسي العربي بين اغراقين فهو ممزق بين الإغراق في الإيديولوجيا (إسلامية أو قومية أو اشتراكية) وبين الإغراق في التكتيك (البراغماتية) ولهذا التأرجح جذر ديني فمازالت هناك حلقة مفقودة بين (العقيدة) و(الممارسة) تعكس في أحد جوانبها عجزا عن التكيف مع معطيات العصر، ويمكن ملاحظة إسقاطات لتلك الحلقة المفقودة في أكثر من ثنائية مثل الأصالة والمعاصرة.

وهناك أيضا جذر قبلي فالروح القبلية لا تعرف الاستقرار والثبات ولا تحتمله والتغيير بالنسبة لها يعني الانتقال الكلي فهي تعشق القلق وتهرب من الارتباط بالثوابت، وحين تتعب من التنقل تعود إلى ثوابتها ذات الرجع البعيد لترتاح وترتمي فيها مرة واحدة في حركة تشبه الاستسلام.

وفي السياسة فان ثمن هذه النقيصة الفكرية يتمثل في فقدان الحس الاستراتيجي، ولكون المرء يميل بصورة طبيعية لتصور الآخرين على شاكلته نجد باستمرار إساءة لفهم قيمة الاستراتيجية لدى الآخر، فالآخر في وعينا الكامن لا يمتلك استراتيجية وكل ما يقال حول ذلك هو محض (تنظير)، أما الحقيقة المستقرة في باطن العقل السياسي العربي فهي أن الآخر مثلنا يمكن أن ينتقل من النقيض إلى النقيض وهكذا يهبط فهم السياسة إلى شيء يشبه شطارة التجار في سوق موسمية.

لا يمكن للعقل السياسي العربي أن يتقدم دون ردم هذه الفجوة بين (الإيديولوجيا) و (التكتيك) وقبل التفكير في صناعة الاستراتيجية ينبغي التسليم بقيمتها ووجودها لدى الآخر، ومما يمكن عمله في هذا الصدد دراسة وفهم الاستراتيجية الأمريكية.

ليس ثمة في الحقيقة استراتيجية أمريكية واحدة شاملة ولكن هناك مجموعة من النظم الاستراتيجية فهناك استراتيجية عليا ذات ثبات نسبي واستراتيجيات وسيطة أقل ثباتا وأكثر تعرضا للمراجعة.

ويضطلع بوضع الاستراتيجيات جهاز ضخم يتكون من دوائر ضيقة ملحقة بوزارتي الدفاع والخارجية ودوائر أوسع تتضمن مراكز البحوث الاستراتيجية والجامعات والمنتديات المشتركة (تضم مدراء شركات ومسؤولين كبار سابقين ومسؤولين حاليين وأكاديميين)، ويعمل ذلك الجهاز الضخم بتناسق وفعالية كاملين ويستخدم أحدث ما توصلت إليه تكنولوجيا المعلومات والعلوم العسكرية والاجتماعية والإنسانية.

سيوم براون هو أستاذ التعاون الدولي في قسم العلوم السياسية بجامعة برانديز، سبق أن شغل مناصب رفيعة في مؤسسة راند ومعهد بروكنغز ووقف كارنيجي للسلم العالمي، نشر كتاب سيوم براون (وهم التحكم) قبل مباشرة أمريكا بغزو العراق بفترة وجيزة، وتتضاعف أهميته لكونه موجها بصورة مباشرة لصناع القرار السياسي والعسكري في الولايات المتحدة، فهو يمثل بالنسبة لنا نافذة إطلالة على المطبخ الداخلي لصناعة القرار في الولايات المتحدة لذلك يخلو نسبيا من أساليب التمويه والكلام المعسول الذي يلجأ إليه الكتاب حين يكون الجمهور المستهدف مزيجا غير واضح المعالم.

يعكس كتاب سيوم براون الترابط الوثيق بين النظم الاستراتيجية الأمريكية، وحقيقة وجود منحى تطوري ضمن هذه النظم بمعنى أن نزعات محددة مثل التدخل العسكري يمكن بسهولة رصد تطورها من الأدنى نحو الأعلى وبالتالي رسم خط بياني لها يسمح بتوقع إحداثياتها (موقعها) في السياسة الأمريكية لفترة قادمة دون خطأ كبير.

ويترافق هذا التطور بصورة لافتة للنظر مع العولمة. يعترف سيوم براون بصراحة بتلك العلاقة التي تناولها بالتفصيل نعوم تشومسكي في كتابه (الهيمنة أم البقاء)، وقد تم وضع الأساس الفلسفي الذي يربط بين العولمة والاستراتيجية الأمريكية العليا في عام 1993 وفقا لورقة ليك الذائعة الصيت والمقدمة في معهد جون هوبكنز للدراسات الدولية المتقدمة حيث لخص أربع ضرورات أساسية تقوم عليها الاستراتيجية الأمريكية وهي:

أولا:  تعزيز أسرة أنظمة السوق الديمقراطية الرئيسية بما فيها النظام الأمريكي لكونها تشكل النواة التي تنطلق منها عملية التوسيع (لاحظ كلمة التوسيع).

ثانيا:  رعاية الأنظمة الديمقراطية الجديدة واقتصاديات السوق ومساعدتها حيثما أمكن ولاسيما في الدول ذات الأهمية والفرص الاستثنائية (اقرأ دول الثروات النفطية).

ثالثا:  التصدي للعدوان (اقرأ معاداة المصالح الأمريكية) ودعم اشاعة اللبرلة في الدول المعادية للديمقراطية والسوق.

رابعا:  متابعة برنامجنا الإنساني ليس من خلال توفير المساعدات فقط ولكن عبر العمل على تمكين الديمقراطية واقتصاد السوق من مد الجذور في مناطق ذات أهمية إنسانية كبرى (اقرأ:  استخدام الأوضاع الإنسانية للتدخل بهدف فرض النفوذ وإفساح المجال أمام الاستثمارات).

يمكن أن نتابع مع سيوم براون نمو نزعة التدخل العسكري اعتبارا من أوائل التسعينات وهو التاريخ الذي بدأ يشهد القفزة الكبرى في وضع الشركات متعددة الجنسيات، هكذا اندمجت مصالح العولمة مع التعريف الموسع للأمن القومي، ومنذ ذلك التاريخ شهد العالم تطبيقات متلاحقة مثل التدخل في هايتي، قصف العراق، قصف صربيا، قصف مواقع في السودان، احتلال أفغانستان وأخيرا العراق.

وقبل أن نسترسل في متابعة تطور نزعة التدخل العسكري يجدر بنا التوقف عند وجه آخر لاستراتيجية الأمن القومي الأمريكي وهو المتعلق بالجانب القومي – الإمبراطوري، فالنظام العالمي الذي انهار بعد اختفاء المعسكر الاشتراكي أسفر عن تبدل جوهري يتعرض له سيوم براون بالتحليل حيث يقرر أن بنية السياسة العالمية التي تطورت منذ انتهاء الحرب الباردة تبرز الهيمنة العالمية للولايات المتحدة في إطار الحقل التعددي للأطراف الفاعلة (الدول القومية، الجماعات شبه القومية، الأديان العابرة للحدود القومية، المشروعات متعددة القوميات، المؤسسات العالمية والإقليمية).

إذن حسب نموذج سيوم براون للنظام العالمي الحالي لا يوجد قطب وحيد مسيطر سيطرة مطلقة ولكن هناك قطب واحد يهيمن هيمنة نسبية على أقطاب صغيرة (قوى متنوعة)، وهنا من المناسب التوقف عند فكرة أن هذه الأقطاب – القوى ليست دولا فقط، فالدول القومية لم تعد اللاعب الوحيد في السياسة العالمية.

والملاحظة الثانية هي الفرق بين نظام القطب الأوحد الذي يعني سيطرة قطب واحد على العالم ونظام هيمنة القطب الواحد مع وجود أقطاب متعددة لا يتمكن من السيطرة التامة عليها.

وبصورة أكثر تحديدا فالنظام العالمي الراهن والدائب التطور هو نظام هجين يجمع بين الأحادية القطبية الفضفاضة التي تسمح بوجود أطراف على قدر من الاستقلال الذاتي وبين نظام الكثرة (البولياركي) القائم على وجود مراكز قوى متعددة (دول قومية، جماعات شبه قومية، مصالح عابرة للقارات، مؤسسات متعددة القوميات) فعالم اليوم بخلاف ما هو شائع بعيد عن أن يكون أحاديا قطبيا مطردا على الرغم من وضوح أن الولايات المتحدة هي القوة المسيطرة في النظام.

ماذا يعني ذلك ؟

يعني عدم استقرار ذلك النظام بسبب عدم قدرة القطب الأكبر على الهيمنة التامة على الأطراف (يذهب السيد ناي في توصيف البنية السياسية العالمية المعاصرة إلى أنها بنية قائمة على حكم الكثرة لأن مراكز القوى حتى في الميدانين العسكري والاقتصادي ليست قادرة تماما على إخضاع الأطراف الأخرى).

وهكذا لا يكون العنف ناتجا عن نظام القطب الأوحد (ولو كان مهيمنا لما احتاج للعنف) ولكن من الفرق بين نظام القطب الأوحد والبنية الواقعية للنظام الحالي وهذا مما لا يريد سيوم براون قوله بوضوح، ويمكن النظر إلى السياسة الخارجية الأمريكية بوصفها ميلا متزايدا لتحويل بنية النظام العالمي الحالي إلى القطبية الأحادية

إن النزوع المطرد نحو الأحادية القطبية تم تعزيزه بواسطة مؤثرين هامين:

الأول:  ما يسمى بالثورة في الشؤون العسكرية (R M A) وهي التي شملت إعادة بناء القوات المسلحة الأمريكية لتعزيز قدرتها على التحرك الحاسم لمواجهة طيف واسع من التحديات بدءا بالصراعات الكبرى ومرورا بالتدخل السريع والضربات الانتقائية وانتهاء بفعاليات زمن السلم، وقد ساعدت الثورة في مجال تكنولوجيا المعلومات على الجمع بين الدقة والسرعة والتحكم الكامل عن بعد والاستطلاع والرصد والتفوق في المعلومات والسيطرة المباشرة على ساحة القتال.(أشارت جملة التوجهات السياسية والاقتصادية في بداية القرن الحادي والعشرين إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية ما عادت قادرة على تحمل عالم مؤلف من أصدقاء وأعداء دائمين بسبب تطورات أصبحت الآن ناضجة على صعيد القدرة العسكرية) وبصورة خاصة فان القدرة المتنامية على شن الحروب دون الحاجة إلى حلفاء أو مع عدد قليل جدا من الحلفاء شكلت منعطفا في الاستراتيجية العسكرية وحافزا قويا لنمو نزعة التدخل العسكري في العالم.

الثاني:  تزايد الشعور بالتهديد بعد أحداث أيلول (سبتمبر) 2001، فضرورات مكافحة الإرهاب قد اندمجت بصورة تامة مع طيف واسع من الأهداف على صعيدي الأمن القومي والسياسة الخارجية وهكذا وفرت الحرب على الإرهاب حسب تأكيد بوش الصارم: (فرصة عظيمة لقيادة العالم نحو قيم كفيلة بجلب السلام الدائم). أما المنطلقات الحقيقية الكبرى للسياسة الخارجية فلا يتم التطرق إليها إلا في مناسبات قليلة يقول سيوم براون (جاء منطلق الاستراتيجية الجديدة انسجاما مع حماسة كلينتون للعولمة متمثلا بالقول: أن السلوك الدولي المسؤول والظروف السياسية الخارجية المرحبة بالاستثمارات الأمريكية يسيران جنبا إلى جنب مع اقتصاديات السوق والعملية الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان).

وهكذا فان المفهوم التقليدي للأمن القومي تمت مراجعته ليس للتعامل مع تهديدات جديدة مثل الإرهاب بل للإحاطة بطائفة غير مسبوقة من أهداف السياسة الخارجية وبصورة أوضح لدعم مصالح العولمة وشق الطريق أمامها.

ونعود إلى تطور نزعة التدخل العسكري فحسب سيوم براون (يمكن النظر إلى الاستعداد الراهن لاستخدام القوة أداة من أدوات السياسة الخارجية الأمريكية على أنه الحلقة الأخيرة من سلسلة التحولات الكبيرة الأربعة التي مرت بها استراتيجية الأمن القومي منذ عام 1945). التحول الأول كان ردا على صيرورة الحرب ذات قدرة تدميرية شاملة بعد قصف اليابان بالقنابل النووية، وتمثل بالتالي في اعتبار الحرب ملاذا أخيرا ودليلا على فشل الدبلوماسية، والتحول الثاني تمثل في تطوير طيف من الاستراتيجيات والقدرات العسكرية القابلة للاستخدام بمرونة للتصدي للعدوان الشيوعي المحدود والشامل كما في حالة كوبا. والتحول الثالث كان ردا على إخفاق الولايات المتحدة في فيتنام وتمثل في الانتكاس من مفهوم الرد المرن إلى حصر الحرب بأوضاع يكون فيها الأمن القومي الأمريكي معرضا للخطر. أما التحول الرابع فقد استند إلى تجربة حرب الخليج وتعزز بنتائج الحملتين على كوسوفا وأفغانستان وينظر إليه باعتباره عودة لتأكيد مرحلة ما قبل حرب فيتنام. وهكذا تم تكريس القوة العسكرية ليس في مواجهة خطر يتهدد الأمن القومي بالمفهوم الضيق ولكن كأداة بيد الدبلوماسية وفقا لمفهوم موسع للأمن القومي مدمج مع المصالح النامية باطراد للعولمة

لقد شكلت الحرب على العراق إحدى أهم الحلقات في تطور نزعة التدخل العسكري وللأسف فقد تمت تلك الحرب بعد صدور كتاب سيوم براون مما حرمنا فرصة الإطلاع على تقييمه لنتائج تلك الحرب، وفي حين كانت الحرب تصعيدا للمرحلة الرابعة في تطور نزعة التدخل فان نتائجها النهائية قد لا تكون على درجة من الوضوح  فهناك ظاهرة المقاومة العراقية غير المتوقعة غير أن المنحى العام للتدخل العسكري مرشح للاستمرار والصعود في أنحاء متعددة من العالم يأتي في مقدمتها سوريا ولبنان وإيران. ويتضح ذلك من تعزز مراكز الصقور في الإدارة الأمريكية وازدياد التشدد في لهجة التعامل مع سورية وإيران، وربما أسهمت الانتخابات في العراق والأراضي الفلسطينية في دعم وجهة نظر المحافظين الجدد وإعطائهم انتصارا رمزيا بالادعاء بنجاحهم في نشر الديمقراطية، بل أن من غير المستبعد أن تدفع الانتكاسة العسكرية الأمريكية في العراق المتمثلة في العجز عن السيطرة على البلاد رغم احتلالها، وانعدام وجود أفق لهزيمة المقاومة نحو الاندفاع لإنجاز انتصار عسكري وسياسي في مكان آخر خارج العراق كتعويض عن الانتكاسة الحاصلة هناك ولمنع تحول تلك الانتكاسة إلى فيتنام أخرى تدفع الاستراتيجية الأمريكية نحو الانكفاء.

وهكذا في حين لم تتمكن المقاومة العراقية من كسر شوكة العسكرية الأمريكية حتى الآن فقد أفلحت في جعلها تنزف، ولكن ذلك يجب أن يفتح أعيننا على احتمال زيادة خطورة وشراسة العسكرية الأمريكية بسبب جراحها في العراق.

يخصص سيوم براون الجزء الثاني من كتابه لموضوعين:  الأول يتضمن فلسفة تبرير الحرب (عودة إلى تراث الحرب العادلة) والفكرة هنا لا تقف عند حدود التبرير ولكن تتعداها إلى وضع قيود ومعايير (أخلافية) للحرب، وفي النهاية فان ذلك لا يشكل في جوهره سوى حرص على الاهتمام بتخفيف الجوانب التي تدعو الرأي العام إلى استنكار الحرب والوقوف ضدها من ناحية ووضع ضوابط تساهم في كبح جماح بعض القيادات المندفعة نحو توسيع غير مبرر لنطاق الحرب.

أما الموضوع الثاني فهو (التحكم بالأوهام – استخدام القوة العسكرية بحصافة) ويتضمن خلاصة ما يريد سيوم براون قوله، فبعد 11 أيلول 2001 انتهى زمن الجدل وأصبح الفرقاء المتحاورون حول استخدام القوة العسكرية الأمريكية في الخارج وحدود ذلك الاستخدام جميعهم دعاة (عولمة عسكرية) والتعبير ليس لي ولكنه لسيوم براون وبالتالي فعلى الفكر الاستراتيجي والعسكري الأمريكي أن يناقش ظروف وشروط المرحلة الجديدة لا أن يعيد النظر في أساسها الذي تم حسمه وكأن سيوم براون يقول:  أيها الأصدقاء تعالوا للنظر كيف ننفذ (العولمة العسكرية) بأقل التكاليف وأفضل النتائج، مع إعادة النظر بين الحين والآخر بالتعويل الكبير على استخدام القوة العسكرية في هذه الحالة أو تلك وفقا للنتائج وتطور الوضع المحدد. فإغراء استخدام القوة العسكرية قد يدفع في بعض الأوقات للتورط في حروب ومعارك غير ضرورية، بمعنى إمكانية الحصول على النتائج السياسية بوسائل أخرى، وتقود تلك الحكمة إلى ما يسمى بدبلوماسية الإكراه.

يجذب عرض سيوم براون لدبلوماسية الإكراه الانتباه باعتبارها أفضل مرجع لسياسة الولايات المتحدة الحالية تجاه سوريا وإيران. كيفية التهديد بالقوة العسكرية واستخدامها بأعلى درجات النجاح تيار ملازم للأوساط السياسية الأمريكية وهو متجذر في التغييرات المنهجية الحاصلة في السياسة العالمية والشؤون العسكرية، والدراسات التي تناولت موضوع الإكراه العسكري موجودة في معهد سلام الولايات المتحدة الخاضع لإشراف الكونغرس قام بها دانييل بايمان وماتيو واكسمان وستيفن هوسمر وآخرون في مؤسسة راند وهي تؤكد أهمية امتلاك ترسانة كاملة من (العصي) في جعبة المساومة الدبلوماسية مع الخصوم لدعم جاذبية إغراءات (الجزرات).

وحتى لا يتوهم أحد بأن الولايات المتحدة الأمريكية ستعمد للجوء لتلك الدبلوماسية متهيبة من التدخل العسكري فقد حرص سيوم براون على إنهاء تلك الفقرة قائلا بلسان غيره: (عدد كبير من خبراء السياسة الخارجية والاستراتيجيين في الحكومة وخارجها قالوا بتأكيد حقيقة أن التهيب والجبن أمام استخدام القوة يتنافيان مع دور الولايات المتحدة كقوة عظمى في عالم ممزق بالصراعات) ويذكر سيوم براون في مكان آخر أن كل تهديد باستعمال القوة يجب أن يرافقه استعداد جدي لاستخدامها حين لا ينفع التهديد. أما نحن كأطراف معنية بالتهديد فأعتقد أن علينا حين نضع خيارنا على أساس عدم الرضوخ للتهديد أن نأخذ بالحسبان لجوء الولايات المتحدة إلى تنفيذ تهديدها كأمر لا يمكن استبعاده على الإطلاق.

ينصح ألكسندر جورج الولايات المتحدة بألا تبادر إلى اعتماد دبلوماسية الإكراه (ما لم تكن مستعدة لرفع مستوى التحرك العسكري إذا لم يذعن الخصم). يشمل ( استخدام القوة العسكرية بحصافة) إضافة لدبلوماسية الإكراه عناوين متعددة لا يتسع المجال لذكرها بالتفصيل منها: 

ضرورة تقييم المعايير التي تجعل من الذهاب للحرب أمرا لابد منه وتطور تلك المعايير من عقد تسعينات ما بعد الحرب الباردة، وقد ذكر سيوم براون ثلاثة معايير هي:  الالتزامات التحالفية، والواجبات الأساسية التي يفرضها النظام العالمي، والضرورات الإنسانية.

يأتي التوجه الحالي لإدارة بوش ليزيد التركيز على معيار (نشر الديمقراطية) موسعا بذلك مبررات استخدام (القوة العسكرية بحصافة)، ويجري ذلك في مرحلة ما بعد حرب العراق حيث لم يتح للسيد براون الفرصة لرصد ذلك التحول، وحتى الآن يواجه ذلك المبدأ – المعيار صعوبة في اعتماده وتطبيقه لكن من الواضح أن التبشير به قد بدء.

الحرص على عدم مهاجمة المدنيين العزل بصورة مباشرة أو غير مباشرة. وللأسف فان وصية سيوم براون هذه سرعان ما يتبدد أثرها في مجرى التحليل حين يضع الكاتب مصلحة الولايات المتحدة كشرط لا غنى عنه لتطبيقها حيث يقول (كانت مراعاة خطر استهداف المدنيين صعبة في حقبة ما بعد الحرب الباردة الزاخرة بالحروب العرقية والدينية التي تتميز بكثرة المتورطين فيها من أشباه العسكريين والجنود المدنيين، يعني ذلك أن الإصرار على الاحترام الدقيق لمبدأ حصانة غير المقاتلين يجب أن يكون مستندا إلى الأساس الأخلاقي والى المصلحة المتنورة والواعية والأبعد مدى للولايات المتحدة) بل انه يضع الأساس لتدمير المبدأ السابق (حصانة المدنيين) في مكان آخر حين يقول: (..وبالتالي فان الإلحاح على ضرب أهداف ستلحق ضررا بالمدنيين قد يثبت أنه إلحاح غير قابل للمقاومة). إذن فالمسألة هنا لا تعدو كونها مراجعة لمبدأ حصانة غير المقاتلين في ضوء تطورات مرحلة ما بعد الحرب الباردة حيث تواجه الاستراتيجية الأمريكية قوى غير تقليدية، وكأن سيوم براون يمهد لما تم فعليا في العراق من قتل حوالي مئة الف مدني.

هكذا فالحكمة والحصافة لا تعني دائما الالتزام بالمعايير الأخلاقية والإنسانية ولكنها تعني الالتزام بتلك المعايير طالما أنها لا تتعارض مع الاستراتيجية الأمريكية وضروراتها.

ينهي سيوم براون فصله الأخير بتذكير القادة العسكريين أنه لا يرغب أن تكون نصائحه الهادفة إلى تشذيب وعقلنة استخدام القوة العسكرية كأداة للسياسة الأمريكية ضمن الاستراتيجية الأمريكية الجديدة التي لم تعد موضع جدال (عسكرة العولمة)  سببا في تردد صانعي القرار (كتردد هاملت وضياعه) فهي ليست دعوة للمراجعة والوقوف بوجه استخدام القوة العسكرية المتزايد الاتساع في العالم بقدر ما هي دعوة لجعل ذلك التدخل العسكري أكثر فعالية وأقل تكلفة وأكثر قبولا من الرأي العام في أمريكا والعالم.

إن العبرة من كتاب سيوم براون لا تتضمن فقط فهم تطور أبرز المحاور للاستراتيجية الأمريكية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، ولكن أيضا فهم عمق واتساع التيار الذي يصاحب (عسكرة العولمة)، وأن المسألة أبعد ما تكون عن صراع سياسي بين يمين محافظ ويسار ليبرالي وتلك مقدمة لابد منها لوعي مرحلة طويلة قادمة.

وكل ذلك بحسب الكاتب في المصدر نصاً ودون تعليق .

المصدر :  http://kefaya.org