أباطرة الصحافة وسدنة النظم
د. حسن حنفي
سقوط النجوم علامة من علامات الساعة (والنجم إذا هوى)، عندما يتهم البريء صاحب الدعوة بالضلال والغواية، أما في حالة بعض أباطرة الصحافة في الوطن العربي فإنهم قد ضلوا الطريق، وأغووا الناس، وزينوا لبعض النظم أعمالها، وقلبوا الحق باطلاً والباطل حقاً. يظل إمبراطور الصحافة على مدى عقود من الزمان نموذجاً للوطنية، ثم يتحول في غمضة عين إلى نموذج للفساد. ويسقط من أعلى رأس المجد إلى حضيضه، ومن دخول مبنى المؤسسة، دخول النجوم، إلى دخول دور المحاكم والقضاء كالمتهمين والمجرمين للتحقيق، ومن ترأس مجلس الإدارة في الهيئة، في أعلى السلم الوظيفي، إلى قفص الاتهام محاطاً بالحراس في الطابق الأرضي لقصور العدالة. ومنهم من يقفز من القطار قبل أن يصطدم، وتقع الواقعة. ويدعي الوطنية وينضم إلى صفوف المعارضة، وينقد النظم والحزب الحاكم بعد أن استفاد عدة عقود من الزمان. فيترجَّل، ويستعد للقادم. ومنهم من ينتظر إلى سِن المعاش بعد أن يكون قد استنفد آخر قطرة، ثم يتحول إلى معارض داخل الصحف القومية أو داخل صحافة المعارضة بالمقالات الملتهبة، وبالمقابلات الصحفية الرنانة. فقد تحول بقدرة قادر من "الجاهلية" إلى الإسلام. ومنهم من يقوم بذلك وهو مازال تحت السلاح، في سن الخدمة ليضمن مستقبلاً يبنيه في المرحلة القادمة بعد أن أوشكت هذه المرحلة من مسيرته على الانتهاء. يترك الحزب الحاكم، ويتنازل عن مكاسبه العاجلة في السلطة والثروة، انتظاراً لمكاسب آجلة في المرحلة البديلة، والثروة مستمرة. يموت الأنبياء والملوك، ويستمر الكهان والأحبار والسدنة! أما بعض رجال الاقتصاد والمال فإنهم يهربون خارج البلاد بعد تهريب أموالهم وبيع شركاتهم وانتظار عقد الصفقة مع النظم للعودة مع تنازل عن جزء من رأس المال للوسطاء ومبعوثي النظم. ومنهم من يزاح في صمت بعد أن أصبح عبئاً على النظم. وطوابير الانتظار طويلة.. طويلة! الإعلام الرسمي في يد الدولة مثل كل شيء. وهو الكتيبة الأولى في الدفاع عن النظم، بالتمويه والكلام، كما تفعل أجهزة الأمن والشرطة بالعصي والقنابل المسيلة للدموع. وما أكثر الموظفين الأيديولوجيين الذين يستعملون العلم والدين والثقافة ويزيفون التاريخ والحقائق دفاعاً عن النظم. يتبعونها، ويخالفون الضمير. والنظم تعلم ذلك. والمصالح واحدة. لهم مرتبات تبلغ عشرات الألوف شهرياً، وعلاوات وبدلات سفر مع أنهم في طائرة رسمية. وينالون شرف المقابلات الصحفية مع الرئيس أو مع رؤساء الدول على الصفحات الأولى. ويوضعون في مناصب أكبر من قاماتهم، ويلبسون أثواباً أوسع من أجسادهم حتى يظلوا رهناً للشهرة والثروة والقوة والمنصب والجاه. لهم اللسان الذي يعبر عن عباقرة السياسة ومنقذي العالم. ويتفاوتون في الذكاء وحسن التبرير وجمال الأسلوب، والقدرة على الإقناع كما يفعل الراوي في سرد حكايات "ابن البلد"، وكما يفعل عازف الربابة في التغني بمآثره. وفي القرآن (قتل الخرَّاصون) وهم المدَّاحون، في قول. وفي الأثر: "لا تُطْروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم". وتحفظ جهات الحكم ملفات بعض أباطرة الصحافة في الفساد. فعندما يحين الوقت، ويصبح هؤلاء الأباطرة عبئاً على النظم، أو عندما تفوح رائحة الفساد، أو عندما يستهلكون ويصبحون غير قادرين على الإقناع، أو يفقدون الأهلية كلية في خطاب الناس، عندها تفتح ملفات الفساد. ويضحى بهم ككبش الفداء. ويظهر المسؤول أنه الراعي للحق والعدل، وأنه نظيف اليد، وأنه بريء من دم يوسف، وانتهاك كرامة الأوطان، براءة الذئب. والعيب كل العيب فيمن لبسوا قميص عثمان. وقد يحدث ذلك عندما تبدأ صحف المعارضة في النيل منهم، وتسريب أخبار فسادهم بما لدى الصحفي من مصادر معلومات مستقلة أو بما تسربه إليه النظم. فقد خلقت النظم بعض أوجه المعارضة لاستعمالها ضد سدنتها عندما تأزف الآزفة، وتقع الواقعة. وقد يهدد المسؤولون أنفسهم بإعلان ملفات الفساد للكل، لهم ولغيرهم، لهدم المعبد على رؤوس الجميع. ومنهم من لا يُمس لأنه تحت مظلة حماية. إن بعض النظم السياسية هي أداة الفساد الأولى في البلاد. وبعض أباطرة الصحافة أداة الفساد الثانية لتزييف الوعي الشعبي وتضليل الرأي العام. وإنها أسطورة أن الصحافة ملك للشعب، وأنها قطاع عام. وقد تنازلت كثير من الدول عن القطاع العام. وباعته بأبخس الأسعار. وهي في سبيل خصخصة الماء والكهرباء والنقل البري والبحري والجوي. ومازالت تسيطر على قطاع الصحافة لأنها اشترته لنفسها إلى الأبد. وذاعت تجارة تراخيص الصحف من الأحزاب الصورية الموجودة على الورق إلى الأحزاب والتيارات والقوى السياسية الموجودة في الشارع دون شرعية قانونية. وتنشأ صحف جديدة للمعارضة من الإرث الوطني القديم. بل تنشئ النظم السياسية نفسها صحيفة جديدة بين الصحف العامة وصحف المعارضة لشق طريق ثالث، يد في النظم واستمراريتها، ويد في المعارضة الإصلاحية من الداخل لتجديدها من جيل جديد يرث الجيل القديم، وينتظر الثروة والسلطة بعد أن فاضت في أيدي الرعيل القديم. أما صحافة المعارضة فإنها مثقلة بالديون. تطبع في مطابع الصحف الرسمية ومهددة بالغلق إن لم تسدد ديونها. صوتها عالٍ وحزبها ضئيل. وتنقسم على نفسها أيضاً إلى صحافة جيل قديم لا يريد أن يترجَّل، وصحافة جيل جديد يظن أنه أوْلى بريادة الأحزاب والتصدي لقضايا الواقع المرير. ومازال الكل صرخة في واد. قد تؤدي دوراً مزدوجاً، دوراً في إحداث التراكم التاريخي الضروري لتحركات شعبية بدأت من قبل ومازالت مستمرة، وفي نفس الوقت تستشهد بها النظم لتجميل صورتها في الداخل والخارج كدليل على الحرية والديمقراطية. من الطبيعي أن تكون هناك صحافة الحزب الحاكم. ومن البديهي أن تكون هناك صحف للمعارضة. وتلقائياً تنشأ صحف وطنية مستقلة تشق طريقاً ثالثاً بين السلطة والسلطة البديلة، بين من يحكم بالأمس ومن يريد أن يحكم في الغد. وكلاهما يتنافسان على حكم اليوم. وفي القرن الثامن عشر قسم "فيكو"، أحد فلاسفة التاريخ في إيطاليا، تطور التاريخ إلى ثلاث مراحل. وقال إنه استمدها من تاريخ الحضارة المصرية القديمة. الأولى مرحلة الآلهة، والثانية مرحلة الأبطال، والثالثة مرحلة البشر. الأولى طويلة، والثانية متوسطة، والثالثة قصيرة في الدورة الأولى. وفي الدورات التالية تقل مرحلة "الآلهة" لصالح مرحلة الأبطال. وتقل مرحلة الأبطال لصالح مرحلة البشر. فمتى يسقط أباطرة الصحافة لصالح الناس؟ وكل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور. المصدر: الإتحاد الإماراتية- 29-4-2006
|