الصحافة الإليكترونية... ونهاية الزحام في قاعات التحرير

 

باتريشيا سوليفان

 

يبدو أن صناعة الأخبار التي كانت في مزدهرة في السابق وتدر الأرباح الطائلة، منشغلة هذه الأيام بطرح الأسئلة الوجودية حول مستقبلها في ظل التقدم المهول للإنترنت واستقطابها قسطاً كبيراً من تلك الصناعة. فالقراء والمعلنون يفرون إلى الشبكة العنكبوتية، كما أن المطبوعات الصحفية التقليدية كالجرائد والمجلات تلجأ أكثر فأكثر إلى صفحات الإنترنت نافرة من الطبعات الورقية. وفي الوقت نفسه بدأت القنوات التلفزيونية والبرامج الإخبارية تفقد العديد من مشاهديها لصالح العالم المبهر الذي تقدمه الإنترنت. هذه الخلخلة في مفاهيم صناعة الأخبار التي أحدثتها الشبكة العنكبوتية دفعت مديري الأموال في "وول ستريت" إلى بيع ثاني أكبر صحيفة في الولايات المتحدة، رغم الأرباح الكبيرة التي مازالت تجنيها تلك الصحيفة. وفي العدد الأخير لدورية "الصحافة الأميركية" نشر مقال رئيسي تحت عنوان "التأقلم أو الاختفاء" محيلة إلى المصير الذي ينتظر المطبوعات الصحفية. ولاشك أن العديد من الهيئات الصحفية ستتلاشى وتختفي عن الساحة بسبب دخول الإنترنت إلى الحلبة ومنافستها لعملية صناعة الأخبار التقليدية.

لكن وقبل نعي صناعة الأخبار في الولايات المتحدة وإعلان موتها الرسمي علينا أولاً أن نوضح بعض الأمور. فرغم توزع عملية تزويد الأخبار طيلة الثلاثين عاماً الماضية بين العديد من الوسائط التي تتنافس فيما بينها على استقطاب المشاهد، أو القارئ، إلا أن الطلب على الأخبار استمر بالوتيرة ذاتها دون تراجع. وتتنافس على صناعة الأخبار وتقديمها للجمهور البرامج التلفزيونية الصباحية والمسائية، والقنوات الخاصة، فضلاً عن وسائل الإعلام الإلكترونية الأخرى التي غزت الأسواق، دون التوقف عن تقديم الجديد لمشاهديها وإغراقهم بالمعلومات الفورية على ضوء الطلب المتزايد على الأخبار. وبينما تراجع معدل توزيع الصحف والمجلات وانخفض عدد المشاهدين الذين يتسمرون أمام شاشات التلفزيون لمشاهدة آخر الأنباء، ظهرت وسائل جديدة تقدم المعلومات بسرعة أكبر وسهولة غير مسبوقة. فقد عوضت الإنترنت على نطاق واسع فورية المحطات الإذاعية والقنوات التلفزيونية، كما أن المدونات الإلكترونية أصبحت أكثر قدرة على توفير الآراء والتحليلات الإخبارية دون مقابل.

وبالنسبة للقراء، أو المشاهدين الذين كانوا في السابق أمام خيارات محدودة لاستقاء الأخبار، تتوفر لديهم اليوم وسائط إعلامية متعددة تمنح خدمات أسرع وأسهل. والأكيد أن الصحف والمجلات كما باقي وسائل الإعلام التقليدية، أمامها فرصة تاريخية للاستفادة من الطفرة التكنولوجية في عالم الاتصال والإنترنت من أجل تثوير صناعة الأخبار وارتياد آفاق جديدة من خلال الصحافة الإلكترونية. ورغم الضائقة المالية التي تشهدها بعض المؤسسات الصحافية بسبب تراجع الإعلان لم ينتهِ بعد عصر الصحف والمجلات. لكنّ ما انتهى فعلاً هو نموذج قاعات التحرير الغاصة بالموظفين التي تعمل طيلة اليوم لتوفير الأخبار لزبنائها والتقيد بالمواعيد الصارمة. ولا يعني ذلك أن الجرائد الكبرى في خطر، فحسب قوائم الشركات الأميركية مازالت المؤسسات الصحفية تحتل الصدارة في ترتيب الشركات الأكثر ربحية في الولايات المتحدة. ومع ذلك تتوقع الدراسات التي أجريت في هذا المجال انخفاض هامش ربح المؤسسات الصحفية بنسبة 14% خلال الخمس سنوات المقبلة.

وبينما كانت السنوات الأولى من عقد التسعينيات حافلة بالتخوفات التي يبديها رجال الصحافة والإعلام حول مستقبل مهنتهم بسبب دخول الإنترنت حلبة التنافس في مجال توفير الأخبار، اعتبرها البعض الآخر فرصة جديدة لصناعة الأخبار لكن بطريقة جديدة وبتكلفة أقل. فالمرء لا يحتاج غرفة تحرير وصحفيين كثراً لكي ينافس وسائل الإعلام التقليدية ويطلق جريدته الخاصة، بل إن كل ما يحتاجه هو جهاز كمبيوتر موصول بالإنترنت. ومع الأسف لم تتنبه المؤسسات الإعلامية بسرعة إلى الفرصة الكبيرة التي توفرها الإنترنت لتعزيز مكانتها، بل انتظرت وقتا طويلاً حتى تطورت تكنولوجيا الإنترنت مع دخول تقنية "الجرافيك" وسهولة تصفح الشبكة كي تستفيد من الإنترنت وتبدأ في التواصل مع جمهورها عبر صفحاتها. ومع ذلك كانت البدايات صعبة بالنسبة لوسائل الإعلام الأميركية التي سعت إلى المزاوجة بين محتواها الورقي، ومحتواها الإلكتروني. فقد حاول البعض فرض رسوم على مستخدمي الإنترنت لضمان مداخيل إضافية مطبقين مبدأ الاشتراك المالي في النسخ الورقية للحصول على المحتوى. غير أن هذه المساعي لاقت صعوبات جمة بسبب قلة المشتركين ما حدا بالعديد من الصحف إلى إلغاء الاشتراك وفتح محتواها للعموم. وبخلاف بعض المؤسسات الإعلامية مثل "فاينانشيال تايمز" و"وول ستريت جورنال" وكتاب الرأي في "نيويورك تايمز" فضلت باقي المنابر الإعلامية التخلي عن خيار الاشتراك عبر الإنترنت. وفي ظل إخفاق الصحف في الاعتماد على محتواها الإلكتروني لفرض رسوم على القراء والرفع من مداخيلها، لم يبقّ أمامها سوى الإعلان لتحقيق الأرباح وضمان استمرارها في السوق. يذكر أن الإعلان يوفر 75% من مداخيل الصحف الأميركية، وترتفع تلك النسبة إلى 100% بالنسبة للتلفزيون، وهو في تطور مستمر، لاسيما في جزئه المتصل بالإنترنت. فحسب مكتب الإعلان التفاعلي ارتفعت نسبة الإنفاق الإجمالي للإعلان في الإنترنت سنة 2005 بـ30%، حيث وصل الرقم إلى 12.5 مليار دولار مسجلاً ارتفاعاً يقدر بـ 3.9 مليار دولار خلال الربع الأول من العام الجاري.

ولم يقتصر الأمر فقط على الصحف والمجلات بل شرعت القنوات التلفزيونية في عرض برامجها على الإنترنت. وفي هذا السياق أصبح ممكناً مشاهدة أخبار "إن. بي. سي" على الشبكة كما على شاشات التلفزيون. هذا ويعتبر موقع CNN الإلكتروني من أنجح المواقع التي تجتذب العديد من الزوار. ومع تطور الإنترنت تزايد عدد الناس الذين يفضلون مطالعة الأخبار على الشبكة العنكبوتية بدلاً من التلفزيون، إذ يؤكد 30% من الأميركيين أنهم يقضون وقتاً أطول يتصفحون الإنترنت مقارنة مع مشاهدة التلفزيون، أو قراءة الصحف. وتشير الأرقام إلى انخفاض نسبة مشاهدة التلفزيون في الولايات المتحدة إلى 13% وتصل النسبة المتعلقة بالمحطات الإذاعية إلى 19%.

كاتبة أميركية متخصصة في المجال الإعلامي .

و كل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور.

المصدر: الإتحاد الإماراتية- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"-20-6-2006