محو الآثار الاسلامية في السعودية بين
السياسة والدين
الدكتور سعيد الشهابي
قبل
بضع سنوات ألقى الدكتور أحمد زكي يماني، وزير النفط السعودي السابق،
محاضرة بكلية الدراسات الشرقية والافريقية التابعة لجامعة لندن حول
مشروع قام به للتنقيب عن منزل النبي محمد وخديجة عليهما السلام في مكة.
كانت
المحاضرة قيمة جدا، حيث اشتملت، بالاضافة للنبذة التاريخية عن تاريخ
المنزل، على صور فريدة من نوعها للموقع الذي تم تنقيبه، واظهرت غرفه
بوضوح ومنها محراب الرسول وغرفة ولادة السيدة الزهراء. يقول الدكتور
يماني بانه جاء بأكثر من 300 عامل ومعهم كل ما يحتاجونه من معدات، الى
الموقع، بالاضافة الى مهندسين وأخصائيين في التنقيب عن الآثار، وقام
الفريق بعمل نادر على مدار 24 ساعة. استطاع خلالها كشف المنزل الذي لم
يبق منه سوى ارتفاع متر من حيطانه، وبعد ان صوروه بشكل مفصل، قاموا
بردمه بالرمل مباشرة وغادروا الموقع.
وعندما سئل عن سبب ردمه بالرمل بعد هذا العمل الشاق، اجاب: لدينا في
السعودية تيار يعتبر الاهتمام بهذه المواقع والآثار ضربا من الشرك. شخص
اردني وقف وقال: كيف تبرر صرف هذا المبلغ الكبير على اكتشاف بيت قديم،
ما الفائدة من ذلك؟ فرد الدكتور يماني :
شكرا لك، لقد سهلت مهمتي في ايضاح الصورة للحاضرين. هذا نمط من التفكير
الذي يحمله ذلك التيار. لقد كان الحاضرون مشدودين الى صور منزل النبي
عليه افضل الصلاة والسلام، فهي تحكي تاريخا مجيدا، وقصة مثيرة لنشوء
دين الاسلام، ولو كانت لدى غير المسلمين لحظيت باهتمام كبير، واستقطبت
الزوار والسياح من كل مكان.
في
الفترة الاخيرة بدأ النقاش في المملكة العربية السعودية، خصوصا في
اقليم الحجاز، حول هذه القضية يآخذا ابعادا جديدة، وطرحت تساؤلات
مثيرة، خصوصا بعد ان بدأت تلك الاعمال تصل الى مناطق اخرى غير
السعودية. فهل ان ذلك جزء من حرب دينية ام سياسية؟ وما دور السياسيين
في تشجيع الظاهرة؟ وهل هي صراع على المصالح ام ناجمة عن جهل وتعصب؟
لقد
كان تدمير تمثال بوذا في مدينة باميان الافغانية في 2002 قد سلط
الاضواء على هذه الظاهرة التي تهدف للقضاء على كل ما يعتبره التيار
السلفي وسيلة من وسائل الشرك وقبل بضعة اسابيع قام بضعة أشخاص بتدمير
قبر هاشم بن عبد مناف، جد الرسول الاكرم بمدينة غزة الفلسطينية.
واتهم مدير دائرة التوثيق في وزارة الاوقاف الفلسطينية «عبد اللطيف
ابو هاشم» جهات سلفية وهابية تتحرك «بايعاز من بلاد اخرى» بالوقوف وراء
هذه الجريمة، موضحا ان هذه الجماعات اقدمت على هذا الفعل اعتقادا منها
ان من يهدم المقامات والمزارات والمعالم الاسلامية «يؤجر عند رب
العالمين» ويعتبر القبر واحدا من اهم المعالم الاسلامية في فلسطين
المحتلة.
مرتكبو هذه الافعال يستندون الى مقولة لمحمد بن عبد الوهاب وابن تيمية
تعتبر زيارة القبور من البدع، ومظهرا من مظاهر الشرك لا شك ان هناك
ارضية تتخذ طابعا دينيا لهذه العقلية، لكن هذه الارضية حديثة العهد.
فما
بين عهد الرسول عليه افضل الصلاة والسلام، وعهد ابن تيمية المتوفّى
عام (708 هـ - 1308م) وتلميذه ابن القيم المتوفّى سنة (751 هـ -
1350م)، سبعة قرون ونصف مضت على المسلمين وهم لا يعرفون في أُمورهم
الشرعية مسألة تثير التشنج والخصومة بينهم باسم مسألة البناء على
القبور، حتّى أفتى ابن تيمية بعدم جواز البناء على القبور، وكتب يقول:
«اتفق أئمة الإسلام على أنّه لا يشرع بناء هذه المشاهد التي على
القبور، ولا يشرع اتّخاذها مساجد، ولا تشرع الصلاة عندها».
ثمّ
جاء بعده ابن القيّم الجوزية الذي قال: «يجب هدم المشاهد التي بُنيت
على القبور، ولا يجوز إبقاؤها بعد القدرة على هدمها وإبطالها يوماً
واحداً» وجاء بعدهما الشيخ محمد بن عبد
الوهاب المتوفّى سنة (1206 هـ - 1791 م) فحوّل التشدّد والخشونة إلى
مذهب فقهي يعتمد على التكفير والاتهام بالشرك والتهديد بهدر الدم وسبي
الذراري لكل من ارتكب سبباً من أسباب التكفير عنده، وما أكثرها! بل
ولكل من خالفه في تكفير المتهمين بالكفر عنده. هذه الظاهرة التكفيرية
تمثل ارضية صلبة للقوى التي تسير على ذلك النهج، والتي تستحل دماء
المسلمين الآخرين الذين يختلفون مع هذا النهج.
وعلى
مدى المائتي عام الاخيرة قام المحسوبون على هذا التيار بهدم عدد كبير
من الآثار والقبور الاسلامية في أكثر من بلد، الامر الذي أثار ضجة
كبيرة في اوساط المسلمين لعدد من الاسباب.
اولها ان محو الآثار الاسلامية يعني القضاء على تراث معماري وفني
وثقافي لا يمكن تعويضه بشيء.
وثانيها: ان الاعتداء على ما يعتبره الآخرون أمورا مقدسة يؤدي الى
اثارة التوتر المذهبي والديني، وقد ينجم عن ذلك سفك الدم.
وثالثها: انه يسلب عن الاسلام السمة التي لازمته منذ بدايته، والتي
يسعى الجميع للترويج لها، وهي انه دين متسامح، يحترم عقائد الآخرين،
ويمنع الاعتداء على مقدساتهم واماكن عبادتهم، لان في ذلك تهديدا للسلم
الاجتماعي والعلاقات الانسانية.
ورابعها: ان استهداف مقابر الشخصيات الاسلامية التاريخية ينطوي على
اهانة لقدرهم، واستخفافا بقيمتهم، وهو ما لا يتنافى مع التعليمات
الدينية.
ان
ظاهرة هدم القبور والآثار الاسلامية ليست جديدة. فقد أمر المتوكل
العباسي في العام 236 هـ بهدم قبر الامام الحسين، وحرث الارض التي
كان عليها، ثم اجرى الماء فيها.
لم
تكن تلك العملية ذات طابع ديني، بل كانت بدوافع سياسية تتصل بالعلاقة
المتوترة بين العلويين والعباسيين، والخشية من تحول المساجد التي تقام
حول قبور بعض الاولياء والصالحين الى بؤر للمعارضة السياسية تارة،
والتحدي الديني تارة اخرى. وفي القرون الاولى بعد الاسلام لم تكن هناك
رؤية دينية معادية للآثار الاسلامية او الانسانية، وحتى اذا حدث اعتداء
على قبر او مسجد، فانما يتم ذلك في اجواء احتقان سياسي وتوتر في
العلاقات بين الدولة والرمزية الدينية ولكن
الامر تغير في القرون الاخيرة، خصوصا بعد حركة الشيخ محمد بن عبد
الوهاب في الجزيرة العربية في القرن الثامن عشر التي أسست للطرح السلفي
الذي ازداد انتشارات في السنوات الاخيرة.
فعلى
مدى المائتي عاما الماضية سعى اتباع الدعوة الوهابية لتطبيق تعليمات
مؤسسها حرفيا وحيث انه اعتبر التوسل
بالاولياء والصالحين او زيارة قبورهم من الشرك، فقد تصاعدت الاعتداءات
على المساجد التي تقام حول قبور بعض الصالحين، الامر الذي يلقي بآثارة
السلبية على العلاقات بين اتباع المذاهب الاسلامية المختلفة. واصبحت
الجزيرة العربية مسرحا لهذا الصراع الديني الذي اتخذ ابعادا سياسية
واسعة.
ويمكن القول بان ما يقرب من 90 بالمائة من الآثار الاسلامية في المملكة
قد تم تدميره من قبل المؤسسة الدينية القائمة على تعليمات الشيخ محمد
بن عبد الوهاب. وتزداد نزعة الوهابيين بشكل مضطرد لتدمير المساجد
والمكتبات والمقابر خصوصا التي تتوفر على قدر من الرمزية لشيء مخالف
للعقيدة الوهابية.
في
العام 1924 احتل عبد العزيز بن سعود وقواته مدينة مكة المكرمة، وكان
اول اعمالهم ازالة مقبرة «المعلى» التي تضم قبر السيدة خديجة زوجة
الرسول وقبر عمه، أبي طالب وبعد عامين (1926) احتل بن سعود المدينة
المنورة، وقام هو واتباعه بهدم مقبرة البقيع التي تضم قبور عدد من أهل
بيت رسول الله ومنهم ابنته فاطمة الزهراء وحفيده الحسن بن علي. كما
هدموا المساجد السبعة في المدينة: مسجد الفتح «او الاحزاب» ومسجد
سلمان الفارسي ومسجد أبي بكر ومسجد عمر ومسجد فاطمة ومسجد علي ومسجد
القبلتين، وحولوا بعضها الى صرافات الكترونية. وقد انتقد عدد من الكتاب
السعوديين هذا العمل، فكتب محمد الدبيسي مقالا في صحيفة المدينة
بتاريخ 10 سبتمبر 2004 بعنوان: «بإزالة هذه المساجد تفقد المدينة
المنورة معلماً من معالم تاريخها الخالد ومنارة من منارات سيرتها
العطرة» .
فرد
عليه صالح الفوزان، وهو من رموز السلفيين، بمقالة في العدد الصادر بعد
اسبوع مبررا تلك العملية. وقام الوهابيون بهدم قبة قبر الحمزة بن عبد
المطلب، وازالوا مقبرة شهداء أحد، وأزالوا طريقي بدر وأحد.
وثمة
نقاش محتدم في الفترة الاخيرة حول التوجه لهدم غار حراء الذي كان
الرسول يتعبد فيه قبيل نزول الوحي عليه هذا الغار ليس سوى تجويف صخري
في الجبل، ولا يحتوي على شيء بشري، سوى انه يرمز الى رسول الله وتعبده
الى الله قبل البعثة. وقبل اربعة اعوام تم إزالة أحد المعالم الدينية
والمراكز الإسلامية الأثرية في المدينة المنورة بالسعودية.
وذكرت المصادر القريبة من الحدث بأن جرافات ومعدات عديدة قامت في صباح
يوم الاثنين الموافق 12/8/2002م بالتجهيز لهدم مقام السيد علي العريضي
(766-825م) وهو ابن الإمام جعفر الصادق سادس أئمة الطائفة الشيعية
الإمامية والذي يعد من أبرز علماء المسلمين وفقهائهم وهناك الآن اجازة
بهدم قبر الصحابي رفاعة بن رافع الزرقي وهو ممن شهد بدراً، وأحداً،
والخندق، وبيعة ، والمسجد القريب منه المعروف باسم «الكاتبية»، ويتوقع
هدم المبنيين قريبا.
ومنذ
عهد الملك عبد العزيز دار نقاش حول مكان مولد النبي، واتخذ قرار
بازالته، ولكن الخشية من ردة فعل عارمة دفعتهم لبناء مكتبة عليه، وفي
الاسابيع الاخيرة أزيل الموقع تماما. وهناك ايضا خطة لفصل قبر النبي عن
المسجد النبوي، وقد بدأوا بتهيئة الاجواء لذلك، بغلق بعض الابواب بين
المكانين اما الكعبة الشريفة فهي الأخرى لم تسلم من العبث، فقبل بضعة
أسابيع تمت مصادرة ما بداخلها من آثار تاريخية لا تقدر بثمن، ومنها
الستائر والكتابات المنقوشة بالحرير.
في
25 اغسطس 2005 نشرت قناة «العربية» على موقعها مقالا مهما بعنوان «
مشروع تخطيطي جديد في المدينة المنورة يثير حفيظة المهتمين بالآثار،
مؤرخون ومفكرون يدعون لمراجعة قضية هدم الآثار في مكة والمدينة»
وجاء في المقال ما يلي: «تثير المخططات الجديدة في
المدينتين المقدستين مكة المكرمة والمدينة المنورة، حفيظة المؤرخين
والمهتمين بالآثار في المملكة العربية السعودية لبترها معالم أثرية
وتاريخية هامة يرون أن وجودها لا يمكن أن يؤدي لبدعيات أو الى التبرك
بها.
ورأي
المفكر المعروف الدكتور أنور عشقي في اتصال هاتفي أجرته معه
«العربية.نت» أنه يجب دراسة قضية الأثار بعمق ووضع خطة متكاملة لها
وليس علاجها بمعاول الهدم.
وقال
إنه ليس هناك مبرر للادعاء بأن الأثار الباقية في المدينة المنورة وهي
لا تزيد عن 10% مما كان موجودا قبل توسعة الحرم النبوي الشريف، ستؤدي
إلى بدعيات أو إلى التبرك بها. بينما طالب الدكتور سامي عنقاوي الباحث
المتعمق في أثار مكة والمدينة ومدير أبحاث الحج السابق برؤية شاملة
لعلماء الأمة، مؤكدا أن آثارا قليلة جدا قد بقيت، وان استمرار الهدم
يطمس تاريخنا وحضلرتنا».وكانت جريدة «الوطن« السعودية قد نشرت الخميس
25/8/2005 بأنه بات من المؤكد أن يأتي مخطط المدينة الاستراتيجي الذي
تنفذه أمانة المدينة المنورة على أحد أهم الأحياء التاريخية فيها.
وقالت إنه لم يتبق سوى بضعة أمتار يتوقع لها أن تلتهم في غضون الأشهر
الثلاثة المقبلة معالم حي «الشريبات» التاريخي الذي يختزل حزمة واسعة
من المواقع الأثرية المرتبطة بالسيرة النبوية، والتي يعدها المؤرخون
شاهدا حيا على عظمة الدولة الإسلامية الأولى، عندما كانت المدينة
المنورة عاصمتها الأولى».
لقد
استطاع عبد العزيز بن سعود توحيد اقاليم الجزيرة العربية في دولته
السعودية الحالية، ولكنه أقامها على أرضية دينية تتبنى المذهب الوهابي،
الامر الذي ادى الى تدمير اكثر من 90 بالمائة من الآثار التاريخية
القيمة في هذه الارض.
انه
منطلق ديني أصبح يضغط على العلاقات بين الأقاليم المنضوية تحت الحكم
السعودي. فالحجازيون هم الخاسر الاكبر دينيا وسياسيا من عمليات الهدم
هذه. فأغلب الآثار الاسلامية كانت موجودة في اقليمهم، ويرون في تدميرها
محاولة لازالة تراثهم التاريخي الديني، على ايدي النجديين. ويلاحظ
الحجازيون ان منطقتين وحيدتين لم تطلهما ايادي الهدم.
فمنطقة خيبر ما تزال تحتوي على آثار مرتبطة بتاريخ اليهود، وهي منطقة
يؤمها اليهود حتى اليوم لزيارة تلك الآثار. كما تتم المحافظة على آثار
الملك عبد العزيز بن سعود وتعتبر تراثا وطنيا. فحصن الرياض يحظى
برعاية خاصة، وكذلك قلمه وسيفه ونظارته وهكذا تبدو القضية بعيدة عن
الدين، وأكثر ارتباطا بصراع الهويات، وهو صراع مفتوح بآفاق واسعة.
ان
من الصعب التمييز بين ما هو ديني وما هو سياسي في مملكة عبد العزيز بن
سعود، ولكن ما هو واضح ان غفلة المسلمين وانشغالهم بأوضاعهم السياسية
أتاحت للحركة السلفية الوهابية فرصة الانقضاض على ما تبقى من آثار
اسلامية في الجزيرة العربية، وانتقلت الى العراق، حيث تم تدمير ضريح
العسكريين في مدينة سامراء.
ولا
يستبعد ان تكون مساجد اخرى على قائمة الهدم، كما فعل الوهابيون عندما
هاجموا العراق في 1816 وهدموا قبة قبر الامام الحسين ونهبوا محتويات
الضريح. فما أشبه الليلة بالبارحة، وما أخطر الوضع الذي بدأ بعض
الاعلاميين السعوديين الجريئين في قرع أجراس الانذار بشأنه.
ان
المسألة ليست شأنا سعوديا، بل هي شأن المسلمين الذين يرون تاريخهم
تدمره معاول الهدم بلا وازع من ضمير، ولا مانع من قوة سياسية. فالامة
التي لا تاريخ لها لا حاضر لها ولا مستقبل ومن الخطأ الكبير تشويش
الافهام بادعاء ان الحفاظ على التاريخ وآثار السابقين ضرب من البدع
والشرك، فان وراء الأكمة ما وراءها، ووراء هذا الادعاء أجندة سياسية
خطيرة، يجدر بالمسلمين قراءتها بوعي لكي لا يفاجأوا بما لا يحبون.
وكل
ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور نصا و دون تعليق.
المصدر: صحيفة القدس العربي » - 7-4-2006
|