مكافحة الفقر فريضة إسلامية غائبة

نعيمة عبد الفتاح ناصف

مكافحة الفقر والحاجة في العالم الإسلامي، وتأمين الغذاء لكل فرد من أفراد الأمة الإسلامية، من الفرائض الإسلامية الغائبة في هذا العصر، خاصةً بعد انتشار الفقر، وظهور آثاره السلبية في العديد من الدول الإسلامية، وما ترتب عليه من انتشار للجهل والمرض، وتأخُّر المسلمين عن ركب الحضارة والتقدم. فقضية الأمن الغذائي للعالم الإسلامي من القضايا المهمة التي تشغل بال العلماء والمفكرين وخبراء الاقتصاد، وهي تبرز في هذه المرحلة بالذات؛ إذ تعتمد الأمة في نسبة كبيرة من غذائها علي دول أجنبية لا تدين بالإسلام، وقد تصل هذه النسبة في بعض الدول إلى 70% من غذائها، وهذه كارثةٌ كبيرةٌ، ومن العار كل العار أن يحدث هذا في أمة إسلامية، تتوافر فيها كل عناصر الإنتاج والنمو والتقدم، ويدعوها دينها إلي العمل والرقيِّ، والتفوق المادي والمعنوي علي أمم الأرض كافة. فكيف ترضى هذه الأمة أن تكون تابعةً لغيرها في أشد ضروريات حياتها، وهو الغذاء؟! وكيف تسلِّم مصائر شعوبها لدول الغرب والشرق، تتحكم فيها كيف تشاء؟! فلا أمن ولا استقرار لفرد أو شعب أو أمة تعتمد في غذائها على غيرها، ولا حرية لشعب لا ينتج قُوتَهُ بيده، ويعتمد على غيره في غذائه.

كفاية موارد الأمة:

مما لا شك فيه أن اتساع الفجوة بين احتياجاتنا وإنتاجنا المحلي من الغذاء يعدُّ من أخطر الأزمات الراهنة التي تواجه المجتمع المسلم، سواء في أبعادها الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية، ويزيد من خطورة هذه المشكلة عدم الدخول في مواجهة جادة لها حتى الآن! ومن الحقائق الثابتة التي يتَّفق عليها العلماء وخبراء الاقتصاد: أن الأمة العربية والإسلامية فيها من الموارد والخيرات ما يكفيها غذائياً، ويفيض عن حاجتها؛ لكنها في حاجة إلى حسن استغلال هذه الموارد، وأن عناصر الإنتاج موزعة بين دول العالم الإسلامي؛ لكي يتحقق التكامل والتعاون بينها، وأن المطلوب لكفاية العالم الإسلامي من الغذاء هو وضع أولويات في مجال الإنتاج الزراعي، وزيادة المساحة المزروعة على مستوى دول الأمة.

 أن الأمة العربية والإسلامية لا تنقصها متطلبات تحقيق الأمن الغذائي؛ فلديها من الموارد الطبيعية والبشرية ما يكفيها ويزيد عن حاجتها، وهذه الموارد تتمثل في أراضٍ قابلة للزراعة، وأيدي عاملة لا تجد فرصةً للعمل، وفوائض استثمارية كبيرة، هذا إلى جانب كل مقومات التنمية الاقتصادية؛ لإنتاج ما تحتاج إليه من سلع إستراتيجية وسلع غذائية، وخدمات تفي بتوفير الحياة الطيبة الكريمة لكل فرد يعيش داخل دول الأمة، ولكن القضية أنها لا تستخدم ما لديها من موارد في الإنتاج. ومن الممكن أن يتحقَّق للأمة الإسلامية أمنها الغذائي بالعمل والإنتاج، واستغلال ما تحت يديها من ثروات، ومن حكمة الله – سبحانه- أنه وزع الثروات على دول العالم الإسلامي مجتمعةً، فالعالم الإسلامي ككل فيه عناصر الإنتاج التي تبعده عن الفقر، وتجعله من أغنى الأمم، وهذه العناصر هي: العمل، ورأس المال، والموارد الطبيعية، والمنظِّم - أو الإداري. لا تتوفر هذه العناصر لدولة واحدة، ولكنها موزعةٌ بين دول العالم العربي والإسلامي. ففي مصر نجد القوة البشرية الوفيرة، ولكنها ينقصها رؤوس الأموال، ونجد في دول الخليج رؤوس الأموال ولكن تنقصها القوة البشرية، ونجد في السودان الموارد غير المحدودة، حتى إن بها أكثر من 200 مليون فدان صالحة للزراعة، ولكن ينقصها رؤوس الأموال والقوة البشرية، ولو استُثمرت أراضي السودان الصالحة للزراعة؛ لصارت سلةً غذاء للعالم كله، وليس لدول الأمة فقط؛ فدولة مثل مصر بعدد سكانها الكبير تعيش على 5 مليون فدان فقط صالحة للزراعة، في حين أن المساحة التي تصلح للزارعة في السودان تساوي أربعين ضعفاً من المساحة الصالحة للزارعة في مصر! ولعل هذا التوزيع فيه حكمة كبرى من الله – سبحانه - هذه الحكمة تقتضي ضرورة التعاون والتكامل بين الدول الإسلامية؛ إذ أنه ما ينقص إحدى هذه الدول من عناصر الإنتاج نجده يتوافر لدى الأخرى.

التكامل فريضةٌ شرعيةٌ:

أن التكامل الاقتصادي الإسلامي لمكافحة الفقر، ومواجهة أزمة الغذاء وغيرها من الأزمات الاقتصادية، يعتبر فريضةً شرعيةً وضرورةً حياتية؛ فقد وصف الله - سبحانه وتعالى - الأمة الإسلامية بأنها أمة واحدة، وأمرها بعبادته؛ قال - جل شأنه -: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92]، وأمرَنَا بالتعاون في كل نواحي الحياة، وقد فرض على أغنياء المسلمين في أموالهم بالقدر الذي يسع فقراءهم.

ولكي تتحقق عملية التكامل الاقتصادي؛ فلابد من اتخاذ عدة خطوات، منها:

أولوية التعامل مع الدول الإسلامية وفقاً لفقه الأولويات، واستثمار أموال المسلمين في بلاد المسلمين، وتحقيق الأمن الشرعي للمال؛ ليؤدي وظيفته التي خُلق من أجلها، والأولوية في فرص العمل للمسلمين؛ لعلاج مشكلة البطالة، ورفع قيود التجارة وما في حكمها بين الأقطار الإسلامية، وإنشاء الوحدات الاقتصادية الكبرى بمساهمة الدول الإسلامية، والتدرُّج في تطوير وتوحيد السياسات الاقتصادية والنقدية والمالية بين أقطار الدول الإسلامية، وإنشاء نظام المعلومات الاقتصادية وشبكات الاتصالات الاقتصادية بين الأقطار الإسلامية، والتفكير في تحرير العملات النقدية في البلاد الإسلامية من التبعية المطلقة للدولار الأميركي. ومن المؤكد أن الفكر والتراث الإسلامي تضمن نماذج من نظم التكامل الاقتصادي الإسلامي، يمكن إحياؤها لتقوم بدورها المعاصر في تحقيق التكامل الاقتصادي بين الدول العربية والإسلامية، منها نظام السوق الإسلامية المشتركة، ونظم المشاركات في المشروعات الاقتصادية الهامة، ونظم التبرعات والمساعدات الاقتصادية، ونظام زكاة المال، والقروض الحسنة، والوقف الخيري، والتعويضات وقت الأزمات... وغيرها.

إحياء قيمة العمل:

وإلى جانب التكامل الاقتصادي؛ لابد من إحياء قيمة العمل في المجتمع الإسلامي، والذي يعتبر عبادة فى الإسلام، وزيادة عطاء المسلم وإنتاجه، واعتداله في الاستهلاك؛ بحيث يفوق إنتاجه استهلاكه، وليس العكس الذي نراه الآن في المجتمعات الإسلامية؛ حيث تهدر قيمة العمل، ويقل الإنتاج، ويزيد الاستهلاك!! فالعمل هو خط الدفاع الأول ضد الفقر والحاجة، وهو الوسيلة الأولى لجلب الرزق، والعنصر الأول في عمارة الأرض التي استخلف الله فيها الإنسان وأمره أن يعمرها، عملاً بقوله – تعالى -: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61]. ولقد احتل العمل في الإسلام مكانةً لا تدانيها مكانة؛ فلم يحدث أن ديناً من الأديان السابقة أكَّد على قيمة العمل وقيمة الفرد العامل كما فعل الإسلام، الذي اعتبر العمل واجباً إسلامياً مفروضاً على كل إنسان، مهما علا شأنه أو صغر، وقرر منذ بدء دعوته أن الإيمان ((ما وقر في القلب وصدَّقه العمل))، وأنه قولٌ باللسان، وتصديقٌ بالقلب، وعملٌ بالجوارح، ومن هنا كان الارتباط والاقتران بين الإيمان والعمل في آيات كثيرة من كتاب الله الكريم؛ قال – تعالى -: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} [الكهف: 30]، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً} [الكهف: 107]، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} [يونس: 9]. فلا إيمان إلا بالعمل الصالح الذي يؤكد هذا الإيمان تأكيداً عمليّاً من خلال الكدِّ والاجتهاد، والبحث عن الرزق وإعمار الأرض. وقد وردت أحاديث كثيرة تبين فضل العمل والكسب والأكل من عمل اليد.

وإذا كانت مواجهة الفقر والحاجة وتأمين الغذاء للعالم الإسلامي تتطلب التكامل الاقتصادي كفريضة إسلامية، وإحياء قيمة العمل بين أفراد الأمة، فإن جانباً كبيراً من مشكلة الفقر في العالم الإسلامي يتعلق بتلك الفئة من الفقراء والمساكين والمحتاجين الذين لا يستطيعون توفير القوت لأنفسهم، إمَّا لضعف، أو لعجز عن العمل، أو لمرض، أو لكِبَر سنٍّ، أو لعدم توافر فرص الكسب والعمل. وهنا يبرز فرضٌ آخرٌ من الفرائض الإسلامية، وهو التكافل الاجتماعي، الذي يتحقق من خلال فريضة الزكاة وغيرها من الصدقات؛ فالإسلام لم يترك فئة من فئات المجتمع تتعرض للجوع والفقر والضياع دون أن يأمر بمعالجة أمرها، فقد وضع الإسلام نظاماً تكافليّاً متكاملاً، روعي فيه التوسُّط بين ما طالبت به فيما بعد الاشتراكية الشيوعية، وما انتهجته الرأسمالية الإقطاعية؛ لضمان سلامة توزيع الثروة، مما يحقِّق التوازن لمجتمع معافى، يرفل في مستوى لائق من العيش الكريم، ويقوم في الأساس علي الزكاة ونوافلها من الصدقات.