دعاة السلام... وقارعو طبول الحرب أيضاً!

 

جاي وينيك

 

بوتين و كاترين... لغز روسيا المحير

بعد أن انتزعت قطعة من القطب الشمالي تعادل مساحتها مساحة أوروبا الغربية، أعلنت المؤسسة العسكرية الروسية عن خطط طموحة لإعادة تأسيس وجود دائم في البحر الأبيض المتوسط وذلك لأول مرة منذ انتهاء الحرب الباردة ومما لا شك فيه أن صانع هذه الصحوة الروسية الجديدة هو الرئيس الروسي اللغز ''فلاديمير بوتين''.

ظاهريا تبدو كلمة اللغز هي الوصف المناسب للرئيس الروسي فهو رجل يرتدي بزات أنيقة حتى وهو يقمع المعارضة الداخلية والديمقراطية المصنوعة محليا، ويرسل ابتسامات دافئة في مؤتمرات القمة حتى وهو يقوم في الوقت ذاته بسحق المنشقين في الشيشان، ويسحر الرئيس بوش بشخصيته الآسرة ويعمل في الوقت نفسه على عرقلة السياسة الأميركية في العراق وغيره من بلدان الشرق الأوسط والقول الذي يتردد دائما عند الحديث عن بوتين، هو أن خلفيته كضابط سابق في الـ''كي.جي. بي'' هي التي تدفع أفعاله على الساحة الدولية، ربما يكون هو تحديدا ما دفع خبراء السياسة الخارجية في العالم إلى التنبؤ باحتمال تجدد الحرب الباردة.

بيد أنه إذا ما كان الغرب يريد حقا أن يدرك سبب صعود روسيا وأن يفهم خبايا شخصية فلاديمير بوتين، فسوف يحسن صنعا إذا ما نظر لبوتين ليس باعتباره نموذجا جديدا من القادة وإنما باعتباره نموذجا تمتد جذوره إلى حقبة أقدم كثيرا في القرن الثامن عشر وتحديدا إلى عهد الإمبراطورة ''كاترين'' العظمى . فالأمر الأكثر ترجيحا هو أن ''بوتين'' وأنصاره يستمدون إلهامهم وهم يحاولون أن يعيدوا بعث روسيا مجددا كأمة كبرى على الساحة العالمية، من شخصيات كالإمبراطورة كاترين.

فمثلها مثل بوتين الآن كانت ''كاترين الثانية'' تمثل لغزا في أيامها حيث كانت تسحر نقادها أحيانا وتحيرهم أحيانا أخرى. فمنذ بدايات حكمها كانت تمثل نموذجا يحتذى في الليبرالية بالنسبة لفلاسفة التنوير الأوروبيين حيث تراسلت مع ''فولتير''، واعتمدت على مبادئ ''مونتسيكو'' في حكم روسيا، وطبعت أعمال الفيلسوف الشهير ''هلفيتيوس''، وساهمت في طباعة موسوعة ''ديديرو''، مما دفع ''فولتير'' إلى التعليق على ذلك بقولته المشهورة: في أي عصر نعيش نحن؟.. أفي عصر تحاكم فيه فرنسا المثقفين في حين تسهر شعوب رعوية على حمايتهم''.

اتخذت كاترين خطوة لافتة للنظر في ذلك الوقت عندما لم تكتف فقط بالمراسلة مع ''توماس جيفرسون''، وإنما ساعدت على ولادة أميركا المستقلة، من خلال المنظمة التي أقامتها والتي أطلقت عليها مسمى ''عصبة الحياد المسلح'' والتي ساهمت في عزل بريطانيا دبلوماسيا خلال الثورة الأميركية. وتصاعد نفوذ كاترين كثيرا على الساحة الأوروبية لدرجة أن الملك جورج الثالث اتصل بها، ولم يتصل بالضباط الألمان في الجيش الأميركي، كي تساعده - بإرسال جنودها من القوقاز المعروفين بقوة الشكيمة- في القتال ضد جورج واشنطن ولكنها خذلته (يدفعنا هذا للقول بأن العلاقات الأميركية الروسية تمتد إلى عهد بعيد في الماضي).

ولكن الذي حدث بعد -وهو ما نجد تجسيدا له في عالم اليوم أيضا- أن الإمبراطورة التي كانت كافة التنبؤات تشير إلى أنها ستكون ليبرالية، قد تحولت في غضون سنوات قليلة إلى شخصية رجعية. ففي الوقت الذي اعتقد فيه ''جون آدامز'' أن روسيا والولايات المتحدة سيصبحان حليفين طبيعيين، فإن كاترين لم تكلف نفسها عناء مقابلة المبعوث الخاص لأميركا الوليدة وعندما اندلعت الثورة الفرنسية لم تتردد في إدارة ظهرها لتاريخها في الاستنارة مدشنة بذلك السلطوية الحديثة.

وتجسدت تلك السلطوية في قيامها بقمع المثقفين في روسيا بلا رحمة وأنها وبدلا من تكليف جيشها بحماية الثورة الفرنسية الوليدة، فإنها فعلت كل ما في وسعها للقضاء على خطر التهديد الديمقراطي القادم من فرنسا قائلة عبارتها المشهورة: ''وماذا يعرف هؤلاء الأساكفة (جمع إسكافي) عن شؤون الحكم؟'' معلنة بذلك أن الديمقراطية التمثيلية لا تصلح لحكم أمة كبرى مثل روسيا. ولم تكتف كاترين بذلك بل أدانت الثورة الأميركية التي كانت قد أعلنت يوما إعجابها بها.

إن المذبحة الحالية الدائرة في العراق، ومبادرات روسيا الأخيرة ، والعدائية المتصاعدة التي تتعامل بها روسيا مع جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق مثل جورجيا، كل ذلك يعيد إلى الأذهان الكيفية التي قامت بها كاترين وببراعة فائقة باستغلال الفوضى العارمة التي صنعها الفرنسيون -والتي اجتاحت أوروبا عام 1795- وعملت على محو مملكة بولندا القديمة من الخريطة وتمزيق أراضيها.

و''بوتين'' على الرغم الصور التي يبدو فيها باسما في مؤتمرات قمة الدول الثماني العظمى، هو رجل مصبوب تقريبا في نفس قالب الإمبراطورة كاترين، فهو يُشبّه السياسات الأميركية بسياسات الرايخ الثالث، ويشير بشكل غامض إلى الأعداء الخارجيين الذين يرومون تقويض روسيا. وهذه المواقف وغيرها كان لها انعكاسها على الشباب الروسي الذي كان المحللون الغربيون يتنبأون بأنه سيكون خير صديق لأميركا في عصر ما بعد الحرب الباردة، فأصبح الآن لا يتردد في التعبير علنا وبقوة عن عدائه العميق للولايات المتحدة.

لقد كانت كاترين إمبراطورة تتميز شخصيتها بالجاذبية الآثرة والذكاء الشديد، والحيوية، والتعقيد في الآن ذاته، وهو ما مكنها من الهيمنة على الساحة العالمية لثلاثة عقود؛ وخلال تلك الفترة برعت كاترين أيما براعة في الظهور أمام العالم بوجهين: وجه أمام المثقفين المستنيرين في كل مكان، وآخر أمام شعبها. وعندما كان عمرها 67 عاما، قررت أن يظل إرثها حيا، فعملت على انتقاء خليفتها وهو حفيدها ''الكسندر'' غير أن وفاتها غير المتوقعة عطلت ذلك. غير أن ما حدث حينها هو أنه وخلال عامين ونصف فقط، تمكن ''الكسندر'' من القفز على السلطة من خلال انقلاب، وأطاح بكل من وقف أمامه وأصبح في النهاية هو الحاكم بأمره في أوروبا، بعد أن تمكن من هزيمة القائد الفرنسي الفذ ''نابليون بونابرت''. على نفس المنوال تقريبا يبدو ''بوتين'' وكأنه يمتلك مخططاته الخاصة لتنصيب سلالة له في الحكم حتى لو فعل ذلك وهو يتدثر برداء ديمقراطي شفاف. فمن المتوقع، أن يقوم هو أيضا كما قامت ''كاترين'' من قبل بانتقاء خليفته بنفسه في عام ،2008 في نفس الوقت الذي يقوم بالتلميح عرضا بأنه قد يخوض انتخابات الرئاسة مجددا عام .2012

نستخلص من ذلك كله، أننا سنرتكب خطأً جسيما إذا ما نظرنا إلى ما تقوم به روسيا من تصرفات على أنها تعتبر نذيرا بحرب باردة جديدة؛ كما سنرتكب خطأً مماثلا عندما نتجاهل حقيقة أن ''فلاديمير بوتين'' قد تعلم تماما أصول لعبة الادعاء والتظاهر من ملهمته ''كاترين'' العظمى التي كانت تلعب دور حاكمة الدولة الديمقراطية الناشئة أمام جمهور الخارج، في نفس الوقت الذي كانت تلعب فيه دور الطاغية أمام شعبها في الداخل، وكانت تقوم بالتعبير عن رغبتها في السلم، في نفس الوقت الذي كانت تقوم فيه بقرع طبول الحرب والعدوان عبر العالم، وهو تماما ما يفعله بوتين الآن.

*محرر الشؤون الخارجية بالواشنطن بوست

و كل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور نصا و دون تعليق.

المصدر:الإتحاد الإماراتية- ينشر بترتيب خاص مع خدمة لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست-13-10-2007