إنجازاً للنهضة لا بد من «ائتلاف» المحافظين والمجددين!

 

 

محمد جابر الأنصاري

 

من أسباب سرعة الإنجاز النهضوي في اليابان، أن جيل النهضة فيها لم يقع في مطب الصراع المزمن والمنهك بين معسكر المحافظين أو السلفيين، ومعسكر التقدميين، إن جاز التعبير، وهو الصراع المستشري في المجتمعات العربية لعقود طويلة، وما يزال، الأمر الذي أهدر طاقات عربية ثمينة وعرقل تحقيق النهضة العربية إلى يومنا هذا، وهي التي بدأت قبل النهضة اليابانية وتتلمذت عليها هذه النهضة... بل إن هذا الاستقطاب بين المعسكرين تسبب في الحروب الأهلية، وطنياً وقومياً، بين «الرجعيين» و «الثوريين»، إذا شئنا استذكار خطابنا ومناخنا السياسي غير البعيد... ولا يمكن أن نذهب بعيداً فكل مكاسب النضال الفلسطيني تحترق في هذه المرحلة عبثاً في اقتتال سيئ التوقيت – تاريخياً وسياسياً - بين «حماس» و «فتح»، كمثال واحد بين نزاعات عربية وإسلامية عديدة مدمرة.

في الدراسة التي قمت بها لأسباب نجاح النهضة في اليابان، لفت نظري بشكل مدهش ان شخصية رجل النهضة الياباني انطوت على تعايش حقيقي وطبيعي بين الثوابت العميقة في الكيان الياباني وبين مستلزمات التقدم الحضاري والعلمي الذي تحتمه حركة العصر، وخاصة ما تمثل منها في التحدي الحضاري الغربي الذي كانت بوارجه «السوداء» تحيط باليابان احاطة الغربان بالشجرة.

لقد كان رجل النهضة الياباني «سلفياً» بالمقاييس اليابانية فيما يجب أن يبقى محافظاًَ عليه، وكان في الوقت ذاته «تقدمياً» بل «حداثوياً» شديد التقدمية والحداثة فيما لا مفر من استيعابه من لوازم التقدم ونظمه. ولم تكن المسألة «توفيقية» ذهنية أو لفظية تتحايل على التناقضات الحقيقية في الواقع وبرامج العمل، لتتأرجح بين التوفيق و... التلفيق!

بطبيعة الحال، لم يستطع المجتمع الياباني تجنب الصراع كلياً وطوال الوقت بين قديمه وجديده، وبين الموروث أو التراث إن شئنا، ومتغيرات العصر.

وربما كان إقدام الكاتب الروائي الياباني المعروف يوكويميشيما على الانتحار عام 1970 في الكلية العسكرية، للتعبير عن رفضه «سلمية» اليابان ودستورها المسالم على حساب تقاليدها العسكرية وقيمها القومية التاريخية من مظاهر هذا الصراع.

 إلا أن السخرية التي جابه بها طلبة المدرسة العسكرية خطبته المتوترة قبل انتحاره دللت على أن المناخ العام والشبابي بخاصة في اليابان لم يعد مأخوذاً بنزعات التعصب والعنف، وليس معادياً للتحديث كما هو حال بعض القطاعات في المجتمعات العربية التي تؤخذ بمثل هذه الأعمال، لتوهّمها أنها تعكس روح الدفاع عن الهوية الجماعية، بينما هي تنسفها من الداخل.

غير أن هذا لا يعني أن اليابان استسلمت لأميركا والغرب، في الجوهر والعمق، بعد أن اضطرت للاستسلام عسكرياً وسياسياً للمحتل الأميركي في البداية (1945 - 1954)، بفعل المحرقة النووية الرهيبة.

ففي تلك الأعوام الصعبة مثّل خريجو جامعة طوكيو الإمبراطورية - التي يمكن اعتبارها على سبيل المقارنة ومع حفظ الفارق جامعة «الأزهر» اليابانية وقد استوعبت بدرجة أفضل العلوم التطبيقية الحديثة - مثّل أولئك الخريجون اليابانيون المقاومة الفكرية الأصلب عوداً حيال «أمركة» النظام الاجتماعي والتعليمي في بلدهم المحتل، وكان كبار الضباط الأميركيين يسألون أي مسؤول ياباني يقابلونه لأي عمل إن كان من خريجي تلك الجامعة، فإن كان جوابه بالإيجاب رفضوا الاستمرار في مقابلته باعتبار أنه لا يمكن التعاون معه في تنفيذ خطط الاحتلال الأميركي بشأن اليابان...!

ولا يخفي المفكرون اليابانيون ذوو النزعة المستقلة أن الجوانب التي تمت أمركتها من النظام التربوي الياباني كالمبالغة في عدد الكليات والجامعات بحجة شعبية التعليم، قد منيت بفشل كبير، كما أعلن المفكر الياباني المستقل كاواساكي مؤلف الكتاب النادر في صراحته وتعريته: «اليابان بلا أقنعة».

وربما استطاع اليابانيون المواءمة والمصالحة الحقة بين «سلفيتهم» و «تقدمية» العصر، لأنهم لم يقعوا أيضاً في مطب آخر أكثر خطورة. وهو مطب الخلط في مفهوم واحد ونظرة واحدة بين الغرب الاستعماري والغرب الحضاري، وهو الخلط الذي طغى على رؤية العرب والمسلمين إلى هذا الغرب، رغم أن بعض رواد نهضتهم في بدايتها استطاعوا التمييز بين البعدين في الظاهرة الغربية. لكن هذا التمييز تلاشى تدريجاً إلى أن أضاع العرب إدراكهم لحقيقة الحضارة الغربية وجوانبها الايجابية في غمرة صراعهم ضد الغرب «الإمبريالي». وحتى على المستوى الحضاري الخالص فإن المسألة اليوم مسألة «تحديث» كما فهمته اليابان ومعها النمور الآسيوية، لا مسألة «تغريب» كما يتصوره «السلفي» العربي، الذي لا بد أن يتحرر من أوهامه وهواجسه في رؤيته لحقيقة العالم الحديث وأبعاده المتناقضة والمركبة.

وفي ضوء هذا المفهوم الايجابي، مفهوم التحديث، فإن الإنسان الشرقي لن يجد غضاضة في عقد المصالحة بين ثوابته وعقائده... ومستلزمات هذا «التحديث» الإنساني العام، بينما تنفر نفسه وعقيدته الشرقية من «تغريب» مفروض عليه لأي اعتبار.

ولعل المصالحة في شخصية رجل النهضة الياباني بين السلفي والتقدمي مردها هذه الرؤية اليابانية المبكرة والثاقبة لحقيقة الظاهرة الغربية في بُعدْيها، مع التمييز بينهما كاستعمار وكحضارة... حضارة حديثة قابلة للاستنبات في مختلف البيئات الإنسانية... واستعمار لا بد أن تذهب به رياح التاريخ.

فمرد الصراع المزمن في الشخصية العربية بين الهوية والعصر عائد إلى حصر الغرب في بُعده الاستعماري... وهو بعد حقيقي لا ينكر... لكن الأخطر، لصالح الاستعمار ذاته، عدم إدراك بُعده الحضاري مصدر القوة والمقاومة لكل شعب مغلوب على أمره، ومن زاوية «التحديث» الذي لا بد منه، لا «التغريب» الذي ينبغي أن يقاوم.

من هنا فإن العدو الحقيقي للغرب في هذه المنطقة هو الباحث عن جوهر التقدم وسر القوة في الحضارة الحديثة.

عندما بدأ محمد علي الكبير مشروعه التحديثي بمصر وشرع بإرسال البعثات إلى أوروبا وبدأ التصنيع في بلاده، ودخل، بالتالي، في صراع مع السلطنة التركية العثمانية المتهاوية فإما أن يطورها وإما أن يرثها، تغيرت مواقف الدول الأوروبية من «المسألة الشرقية» مئة وثمانين درجة: فمن العمل على تفكيك السلطنة العثمانية، كما كانت سياستها منذ عهـود، أصبحت «الصيحة» القضاء على مشروع التحديث والتقدم في مصر قبل كل شيء وهكذا كان، وجاء الخديوي عباس بعد محمد علي ليخنق كل بذور التحديث... وينفي شيخ النهضة ورائدها رفاعة رافع الطهطاوي إلى السودان.

*مفكر وكاتب من البحرين

و كل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور نصا و دون تعليق

المصدر:الحياة اللندنية-29-5-2007