الـسبيل إلـى الـنجاح فـي الـعراق

 

 

اندروف. كرينفتش الابن

محاولة متعثرة

 

على الرغم من التصريحات المتكررة التي تطلقها ادارة بوش عن التزامها بتحقيق النجاح في العراق، فان النتائج التي تفرزها السياسة الحالية ليست مشجعة، وذلك فبعد مرور سنتين، ان التقدم في دحر التمرد او توفير الارض للعراقيين ما يزال ضئيلاً، حتى وان نشر المزيد من قطعات الجيش الاميركي ما سبب تآكلاً في الدعم الذي يقدمه الجمهور الأميركي لهذه الحرب، وفضلاً عن ان الانسحاب في هذه المرحلة قد تكون خطأً جسيماً، لأن المؤشرات توحي بأنه من الضروري (الابقاء على المسيرة الحالية)، ولأن انسحاباً من هذا النوع لن يحسن الأوضاع بأي حال. فتحقيق النجاح في العراق يتطلب وجود مقترب جديد لفهم الاوضاع في هذا البلد.

ان المشكلة الاساس هي انه لا الولايات المتحدة ولا شركاؤها في التحالف كانوا قد وضعوا حتى الآن خطة لدحر التمرد لكي يكون بمقدورهم تحقيق الاهداف البعيدة المدى. فعلى الجبهة السياسية انهم يضعون نصب أعينهم خلق عراق ديمقراطي، ويعد هذا هدفاً وليس خطة بعيدة المدى. أما على الجبهة العسكرية، فانهم جادون في سعيهم لتدريب قوات الأمن العراقية لكي يجري تسليم هذه القوات مهام الحرب. ومثلما اوضح ذلك الرئيس جورج دبليو بوش قائلاً:”ان بالإمكان تلخيص خطتنا كما يلي: حالما يكون بمقدور العراقيين الوقوف على أرجلهم في المواجهة، سيكون علينا الانسحاب “. غير ان الرئيس هنا يصف خطة للانسحاب وليس خطة بعيدة المدى.

بدون خطة بعيدة المدى واضحة من اجل العراق لن تتوفر لدينا طريقة لقياس التقدم الحاصل، اذ ما زال القادة السياسيون والعسكريون الكبار يتحفوننا بالتصريحات المتكررة المفرطة في تفاؤلها، بل وحتى المتضاربة. ففي سبيل المثال، وفي أعقاب معالجة التمرد في الفلوجة الذي حصل صرح الجنرال ريتشارد مايرز رئيس هيئة الاركان قائلاً في مايس 2004:”أظن بأننا هنا على حافة النجاح “ في حين بعد ستة أشهر، أي قبل هجوم كانون أول الماضي لإعادة السيطرة على المدينة صرح الجنرال جون ابي زيد القائد العام للقوات الأميركية في العراق وأفغانستان قائلاً:”حين نكسب هذه المعركة، وسنفعل لن يكون للمتمردين مكان يختبئون فيه “. وفي أعقاب الاستيلاء على المدينة أعلن الجنرال جون ساتلر قائد المارينز في العراق أن قوات التحالف”قد قصمت ظهر التمرد “. ومع ذلك فاننا نسمع ديك تشيني نائب الرئيس بعد سبعة أشهر تلت يقول زاعماً أن التمرد كان يلفظ أنفاسه الأخيرة. وحتى ان الجنرال جون فاينز قائد القوات المتعددة الجنسية في العراق اضطر الى التسليم قائلاً:”نحن لا نرى أي انتشار للتمرد “. ان أغلب الأميركيين صاروا الآن يتقبلون هذه التقديرات الأقل تفاؤلاً التي تقول، وطبقاً لآخر الاستطلاعات، بأن حوالي ثلثي المواطنين يعتقدون بأن التحالف انفرط عقده “ ba- gged down .

ان نقاد الادارة الاميركية شرعوا في هذه الأثناء بتقديم”خطتهم بعيدة المدى “ التي تنطوي على جدول متسارع للانسحاب في واقع انهم يرون في العراق فيتناماً اخرى وذلك بتقديمهم حلولاً مشابهة فحواها سحب القوات الاميركية آملين بما هو أفضل. ان تكاليف تخل سابق للأوان كهذا ستكون دون شك كارثة، لأن التمرد قد يتطور الى حرب أهلية دامية وذلك بمشاركة ذات دلالة من سوريا وايران كليهما، أما الاسلاميون الراديكاليون فسيرون في انسحاب الولايات المتحدة نصراً مؤزراً لهم ولربما أدت هذه الفوضى المنفلتة الى قفزات في اسعار النفط.

ان ما تحتاجه الولايات المتحدة بدل خطة الانسحاب هو خطة بعيدة المدى حقيقة قوامها جهد حربي مناهظ للتمرد. حتى الان فان القوات الاميركية تقوم بتركيز جهودها وعلى نحو واسع على اصطياد المتمردين وقتلهم. وتقوم هذه العمليات على فكرة قوامها تحجيم قوة العدو وذلك بقتل مقاتليه بسرعة تفوق قدرته على تعويضهم بمقاتلين جدد. وعلى الرغم من أنه قد يكون مبكراً جداً اطلاق مزاعم اكيدة فيما اذا كانت هذه الطريقة ستجلب آخر الامر النجاح الذي تنتظره، فان المجريات الحالية ليست مشجعة ذلك لأنه حتى حين ينجح الهجوم في انزال اصابات بليغة بين المتمردين، لا نرى سوى القليل من التحسن، غير المنظور غالباً، في الوضع الامني فما بالك اذا انسحبت قوات الولايات المتحدة من المنطقة.

ان على القوات الاميركية والعراقية ان تثني في العراق ما يسمى بـ”خطة بقعة الزيت “ oil- spot strategy، التي تقوم أساساً على مقترب مضاد، فبدلاً من التركيز على قتل المتمردين، عليهم التركيز على توفير الأمن وفرص العمل للشعب العراقي، وبذا يسحبون من تحت أقدام المتمردين بساط الدعم الشعبي الذي يحتاجونه. وبما ان جيشي الولايات المتحدة والعراق غير قادرين على ضمان أمن المواطنين العراقيين جميعاً في الوقت نفسه، فعليها إذن الشروع في التركيز على مناطق رئيسة معينة، وبذا وبمرور الوقت بإمكانها توسيع جهدها وبذا تكون فكرة نشر”بقعة الزيت واضحة. ان خطة بعيدة المدى كهذه قد يكون لها حظ من النجاح. الا ان مثل هذه الخطة تتطلب التزاماً طويل المدى من ناحية الموارد، مع موافقة على المخاطر بتقليل وقوع المزيد من الاصابات في المدى القصير وابقاء الوجود الاميركي في العراق. وان على مستويات أدنى من مستويات القوات الموجودة حالياً. وفي حالة ان لا مخططي السياسة الاميركية ولا الرأي العام الأميركي راغبان بتقديم التزام من هذا النوع فان عليهم الاعداد لتقليص اهدافهم في العراق وبوضوح.

المواجهة مع التمرد

ان التمرد الذي ابتلى به العراق له مصادر ثلاثة. احدها هو افتقار الولايات المتحدة المتعذر تفسيره للتخطيط الذي يسبق الحرب. وان الفراغ الامني الذي أعقب انهيار نظام صدام اعطى العناصر المعادية الفرصة للم صفوفها، أما خطة اعادة البناء السيئة التخطيط والبطيئة التنفيذ فقد زودت المتمردين بمصدر لتجنيد الاتباع من العراقيين العاطلين عن العمل. اما ثاني هذه المصادر فهو القاعدة السائدة في العراق من تقاليد الحكم التي تعتمد أساساً على اناس يحسنون الامساك بالسلطة من خلال العنف. فضلاً عن ان الاشارات المشوشة التي كانت تصدرها واشنطن هي الاخرى قد خلقت انطباعاً بأن القوات الاميركية قد تغادر قريباً وهو ما مهد الطريق نحو صراع للقوى داخل العراق (وهذا هو ما جعل العرب الشيعة والكورد يرفضون حل مليشياتهم مع انهم ساندوا عموماً الحكومة الجديدة). أما المصدر الثالث فهو ان المجاهدين كانوا قد جعلوا من العراق مسرحهم الرئيس في حربهم ضد الولايات المتحدة يغريهم في ذلك غياب الأمن في العراق فضلاً عن وجود نحو 140.000 هدف أميركي في العراق.

تهيمن على التمرد جماعتان هما البعثيون من العرب السنة والجهاديون الاجانب. انه على الرغم من صعوبة قياس قوتي هاتين المجموعتين بدقة، فان الجماعة الاولى مثلما هو واضح هي الاكثر، اذ تعد بحدود 20.000، في حين ان عدد الجهاديين لا يتجاوز تقديره عدة مئات. ويأمل البعثيون- وهم اعضاء سابقون في نخبة صدام الحاكمة- بالاستيلاء على الحكم من جديد. اما الجهاديون فيريدون الحاق هزيمة بالولايات المتحدة، من طريق توجيه ضربة الى مصادر تأثيرها في  المنطقة، ومن ثم يطمحون الى تأسيس نظام اسلامي راديكالي في العراق.

ان معسكري التمرد كليهما يعلمان علم اليقين بانهما غير قادرين على الحاق هزيمة بالولايات المتحدة التي تقود التحالف عسكريا. ففرصتهما الوحيدة بالنجاح هي انتظار انسحاب اميركي سابق للأوان، وذلك بالقيام بانقلاب تنفذه مجموعة صغيرة عالية الانضباط بدعم من قوى اجنبية لتتسلم السلطة من نظام ضعيف المعنويات. ولبلوغ هذا الهدف، يقاتل المتمردون من اجل دوامة الفوضى والحيلولة دون قيام حكومة عراقية شرعية ديمقراطية. وانهم يأملون من خلال خلق جو من الرعب والخوف واليأس بتقويض الدعم الذي تتلقاه الحكومة. ومن خلال قيامهم بهجمات وقحة على قادة الشعب العراقي وشرطته يحاولون ايصال رسالة مثبطة لهذا الشعب فحواها اذا كانت الحكومة عاجزة عن حماية نفسها فكيف لها ان تحمي الشعب؟ ولقد اكد التخريب الذي طال البنية التحتية الوطنية فشل الحكومة في تأمين الخدمات الاساسية مثل الماء والكهرباء فضلا عن عجزها في الحفاظ على انتاج النفط الذي يعتمد عليه خير العراق. وبايقاعهم الاصابات بالقوات الاميركية، يسعى المتمردون في الوقت نفسه الى رفع كلف الانشغال الاميركي في العراق ما يؤدي الى اضعاف الدعم الذي تتلقاه الحرب في الوطن، وما يؤدي بالنتيجة الى الاسراع في انسحاب الولايات المتحدة.

لقد اثبت المتمردون حقيقة كونهم يتحلون بسرعة التكيف وتامين الموارد، ولكنهم اظهروا ايضا بانهم لا يخلون من نقاط ضعف خطيرة. فهم مقارنة بخصوم اميركا في فيتنام، لا يشكلون سوى مجموعات صغيرة نسبيا ومعزولة، فعدد المتمردين العراقيين لا يعدون سوى عشرات ضئيلة من الالاف، في حين كانت اعداد الشيوعيين الفيتناميين تشكل عشرة امثال هذا العدد تقريبا. والمتمردون العراقيون نادرا ما يقاتلوا بمجموعات كبيرة يصل عددها الى مائة، في حين كان على قوات الولايات المتحدة غالبا ان تواجه تشكيلات للعدو عالية التنسيق تفوق حجمها بكثير حجم المتمردين العراقيين. ولقد كان الشيوعيون الفيتناميون جنودا متمرسين في حرب مستمرة دامت حوالي عقدين من السنين ضد اليابانيين والفرنسيين والفيتناميين الجنوبيين، وبذا كانوا افضل تدريبا وقيادة من المتمردين العراقيين، فضلا عن انهم تمتعوا بدعم خارجي من الصين والاتحاد السوفيتي بحيث ان الدعم الذي يتلقاه متمردو العراق من ايران وسوريا والاسلاميين الراديكاليين اينما وجدوا لا يشكل شيئا ذا قيمة عند المقارنة.

ان المتمردين العراقيين يعانون من عزلة نسبية من قبل الشعب العراقي. واذا كان العرب السنة من المسلمين يشكلون الغالبية العظمى من قوات التمرد، فانهم لا يشكلون سوى نسبة 20% من مجموع سكان العراق، اما الجهاديون فهم في معظمهم* من الاجانب. ولا تتمتع حركة التمرد بأية فرصة لاثارة انتفاضة واسعة القاعدة بحيث تشمل الشيعة والكورد. وعلى الرغم من الشدائد التي يتحملها الشعب العراقي، فليس ثمة بالتأكيد ما يشير الى احتمال نشوب ثورة شعبية ضد القوى التي تقودها الولايات المتحدة او ضد الحكومة العراقية الانتقالية. وهذا ليس مفاجئا، ذلك لان المتمردين لا يحملون رسالة ايجابية يستثيرون بها الدعم الشعبي. ذلك لان عودة البعث الى السلطة قد يعني العودة الى الشقاء الذي سببه نظام صدام اما الجهاديون فلانهم قد يفعلون في العراق ما فعله الاسلاميون الراديكاليون بافغانستان وايران وذلك بتسويقهم لنظام قائم على الارهاب والقمع.

وبناء على هذا، فان نجاح المتمردين يعتمد على وضع اللانظام المستمر الذي يعيق خلق عراق مستقر وديمقراطي ويؤدي في الوقت نفسه الى تآكل رغبة التحالف في المقاومة والسيادة. ويعتقد المتمردون ان التحالف تعوزه قوة البقاء ويوردون دليلا على ذلك الانسحابات السابقة للولايات المتحدة من لبنان عام 1983 عقب تفجير ثكنات المارينز في بيروت ومن الصومال بعد عقد من ذلك التاريخ قبل مقتل 18 موظفا اميركيا. ان المتمردين البعثيين يأملون في انهم لو نجحوا في الصمود مدة اطول بوجه الاميركيين فان الدعم الذي يتلقونه من سوريا واقطار عربية اخرى سيمكنهم من الاحاطة بالنظام الجديد. وهذا سيكون دون ريب السبب في اشعال فتيل حرب اهلية مع العرب العراقيين الشيعة تدعمهم ايران. وستتوفر آنئذ للاسلاميين الراديكاليين الفرصة، لربما للامساك بمقاليد السلطة تحت ظروف مثل هذه تتسم بالفوضى.

مراكز الجذب

تشكل العاصمة وقوى العدو العسكرية غالبا في عقيدة الحرب التقليدية مراكز جذب لهذه الحرب وهذا يعني ان خسارة احدهما قد تسبب هزيمة اكيدة. وفي حرب العراق مثلا كان تركيز التحالف منصبا على تحطيم حرس صدام الجمهوري واحتلال بغداد. اما مراكز الجذب في الجهد الحربي للتمرد المضاد فتختلف كليا وهي تركيز الجهود على الحاق الهزيمة بقوى العدو  العسكري وبصيغ تقليدية للصراع وهذا خطأ فادح.

ان الصراع الجاري الان ثلاثة مراكز جذب وهي: الشعب العراقي والشعب الاميركي والجندي الاميركي. ولقد ادرك المتمردون هذه الحقيقة بان جعلوا من مراكز الجذب هذه اهدافا اولية لجهودهم القتالية فبالنسبة للولايات المتحدة، فان المفتاح لتوفير الأمن للكل يكمن في كسب (الأفئدة والعقول). اما بالنسبة للشعب العراقي فعليه الايمان بان حكومته توفر له حياة افضل من تلك التي يعد بها المتمردون، وعليهم التفكير بان هذه الحكومة ستسود سلطتها آخر الأمر. واذا ما ثارت في نفوس العراقيين شكوك بشأن أي من هاتين النقطتين فانهم سيكفون عن تقديم الدعم لهذه الحكومة. اما الشعب الاميركي فعليه التصديق بان هذه الحرب جديرة بتضحية النفس والمال، وعليه التفكير بان تقدما يجري دفعه الى الامام. واذا ما نجح المتمردون في احداث تآكل في رغبة الاميركيين شعبا فان واشنطن ستضطر الى التخلي عن النظام القاصر الموجود في بغداد قبل ان يكون قادرا على الوقوف على قدميه واخيرا فان على الجندي الاميركي الايمان بان هذه الحرب تستحق تضحياته وعليه الايمان بان تقدما يجري تجاه النصر. وعلى خلاف ما حصل في فيتنام، فان الولايات المتحدة تشن حربها بجيش كله من المتطوعين، ما يعطي الجندي الاميركي (صوتا) vote في ادارة الصراع. وبوجود ما يربو على 000 , 150 من القوات في العراق وافغانستان، فان على الجنود ان يتناوبوا عائدين الى مناطق الحرب تلك وبمعدلات عالية. واذا ما هانت الثقة في الحرب فان المتمرسين في تلك الحرب سيصوتون ضاربين الارض باقدامهم رفضا لتجديد عقودهم مع الجيش وهذا يعني ان المجندين المأمولين الجدد سيعزفون عن توقيع عقودهم الأولية واذا ما حصل هذا لن يكون بمقدور الولايات المتحدة الحفاظ على اي شيء يديم جهدها الحالي في العراق. وقد يؤدي التقليص المتعجل لوجود القوات الاميركية الى تقويض عزيمة  الشعبين الاميركي والعراقي. وما تزال، في الوقت الراهن معدلات طلبات اعادة التجنيد قوية في الجيش الاميركي والمجاميع البحرية. ومع ذلك فان عمليات التجنيد تنخفض فعليا.

وقدر ما يتعلق الامر بهذه المعركة فان للمتمردين مصلحة واضحة، فهم بحاجة الى كسب احدى مراكز الجذب تلك لينجحوا، في حين انه يتوجب على الولايات المتحدة تأمينها جميعا. ومما يعقد الامور اكثر على قوات التحالف،...) يسيرون المعركة ضد الارهاب، هو احتمال ان تقوض الجهود المبذولة بضمان احد مراكز الجذب المأمول من ضمان المراكز الاخرى. ففي سبيل المثال، فان زيادة نشر القوات الاميريكة في العراق ـ الذي يتطلب انفاق المزيد من المصادر وتناوب المزيد من القوات وبتكرار اكبر ـ قد يزيد من أمن الشعب العراقي لكنه يحدث تآكلا في دعم الحرب عند الشعب والجيش الاميركيين. وتعطي هذه المخاطرة جوهر عمليات الولايات المتحدة الجارية ضد المتمردين. ذلك فبأنهم يغالون في التركيز على تحطيم قوات التمرد وعلى تقليل اصابات الولايات المتحدة ويضعون تركيزا اقل على تثبيت الامن للشعب العراقي. وهذا يعني بكلمات اخرى: تخصيص جهد مفرط لمناورات التمشيط من دون تثبيت للحضور الأمني وفعل القليل جدا من اجل التنسيق الفعال للوجود الأمني ولجهود اعادة الاعمار، ثم وبالتالي المبالغة في اعطاء الاسبقية في تجنيد اعداد كبيرة لقوات الأمن العراقية ومنح القليل جدا لاسبقية تأمين فعالية هذه القوات.

ان المفتاح لتأمين مراكز الجذب في الحرب الجارية الآن هو ادراك حقيقة ان قوات الولايات المتحدة تتمتع بمزايا جمة بمنطق صراع القوة والقدرة على الحركة الا انها لا تتمتع بأية ميزة اساسية بمنطق الاستخبارات. فاذا كانوا يعلمون من هم المتمردون وأين يتواجدون فهم اذن قادرون على قمع المتمردين بالسرعة المطلوبة. ان الشعب هو افضل مصدر للاستخبارات الا ان قوات الولايات المتحدة وحلفاءها لا تستطيع تلبية مثل هذه الحاجة الا في كسب قلوب وعقول السكان المحليين، وذلك باقناعهم بان دحر المتمردين يصب في مصلحتهم بأنهم قادرون على المسلهمة في عملية الاستخبار من دون خوف من ان يطالهم انتقام المتمردين.

دروس التاريخ

ان عمليات التمرد قديمة قدم الحروب نفسها ،لذا فليس ثمة نقص في خطط مقاومة التمرد القديمة بحيث انها تشكل معينا لا ينضب. كان الرومان يقمعون المتمردين بضراوة وقسوة حتى انه كأن يقال بانهم قد (يفلحون الارض فيسمونها ارضا مسالمة). وكان البريطانيون يتبنون غالبا سياسة (فرق تسد)، بان يقوموا بدعم احد الزمر العديدة الطامحة للسلطة، فتقوم تلك الزمرة المفضلة بالمقابل باحترام مصالح الانكليز في تلك البقعة من العالم. الا ان ولا أية طريقة من تلك الطرق تعد مفضلة في هذا الزمن. فالطريقة الرومانية تتقاطع مع القيم الاميركية. اما الطريقة البريطانية فقد فانها تشبه علاقة الزبون بضامنه اطارها العام نظام لا ديمقراطي وهو بالكاد ليس ما تأهل ان تفعله ادارة بوش في العراق.

لقد كان قوام خطة الولايات المتحدة في فيتنام هو قتل المتمردين على حساب كسب القلوب والعقول الى صفها وقد فشلت تماما هذه الخطة المبنية على اساس (فتش ودمر)   search and Destroy، ومع ذلك فانها ما تزال تشكل وبوضوح دافعا للجيش الاميركي، ومثال ذلك ما انطوت عليه تصريحات كتلك التي اطلقها القائد الاعلى للجيش الاميركي في العراق اذ قال ((انا لا اعتقد باننا سنبذل جهدا لتطبيق المثل السائر القديم القائل(عليك كسب القلوب والعقول)، لاني لا انظر اليه بوصفه احد مقاييس النجاح)). ان عدم الاهتمام، الذي استغرق ثلاثين عاما، بواجبات شن حروب مضادة للتمرد، ادى بالولايات المتحدة الى مجازفة الاخفاق في معرفة ما ينبغي ان تفعله وهو (كسب افئدة العراقيين وعقولهم) وفضلت ما كان يجري تقليديا (فتش عن العدو وداحره). وبذا اندفعت قوات الولايات المتحدة مؤخرا لتقوم بالمزيد من العمليات الهجومية التي من هذا النوع في غرب العراق، والتي لربما اصابت العديد من المقاتلين في صفوف المتمردين الا ان تأثيرها على الامن عموما لا يكاد يذكر.

وبخلاف هذا، تركز ((طريقة بقعة الزيت)) على تثبيت الامن للسكان على نحو خاص من اجل الفوز بالافئدة والقلوب، ولقد استعمل البريطانيون هذه الخطة بنجاح ابان خمسينيات القرن العشرين في الملايو، وفعل الفيلبينيون الشيء نفسه لمعالجة تمرد الهاكHuK. وعند انعام النظر في مراكز الجذب والحدود التي بامكان قوات الولايات المتحدة في العراق ان تتحرك بها، فان طريقة ((بقعة الزيت)) قد تنجح وهي خطة تتمحور فيها العمليات حول تثبيت امن السكان ومن ثم توسيع البقعة فيما بعد، وعلى نحو لا رحمة فيه للعدو من اجل توسيع السيطرة على مناطق كان قد تحقق رضا سكانها.

ان بامكان قوات التحالف بالتعاون مع الميليشات المحلية مثل البيش مركة الكردية، مثلما هو حاصل الان في 14 محافظة من مجموع 18، توفير الامن وبمستويات عالية، وتشمل هذه المناطق ما بالامكان ان تسمى بحق ((المنطقة الخضراء))Green Zone  (يستعمل هذا المصطلح عادة للاشارة الى المنطقة الاكثر تحصينا في بغداد حيث تتموضع مقرات القيادة الاميركية). ان سكان هذه المحافظات ينعمون بحياة آمنة نسبيا. اما باقي مناطق البلد. والمقصود هنا ما يسمى بـ ((المنطقة الحمراء))Red Zone فيتالف عماما من محافظات غير آمنة وهي الانبار بغداد ونينوى وصلاح الدين، التي تتميز كل منها اما بوجود كبير للسنة العرب او مهيمن عليها من قبلهم. ان على طريقة ((بقعة الزيت)) ان تبدأ بتحقيق الامن في ((المنطقة الخضراء)) بنفسها. وان على حكومتي الولايات المتحدة والعراق التركيز ايضا على جهود اعادة البناء هنا، من اجل مكافاة الولاء الذي تحظى به الحكومة ومن اجل تقليص الاموال المخصصة ((العلاوات المدفوعة لافراد الامن)) وتحويلها نحو مشاريع الانماء.

ان على قوات الولايات المتحدة والتحالف ان تبدا بالقيام بالمزيد لمساعدة شركائهم العراقية في تطوير قدراتهم للقيام بعمليات مقاومة التمرد وذلك بتدريبهم ونشر جنود الولايات المتحدة المارينز بين صفوف وحداتهم وحتى تجهيز قوات الولايات المتحدة للتدخل السريع لكي يكون بمقدورها تقديم الدعم لهم عند الحاجة. ان بث الجنود الاميركيين بين صفوف الوحدات العراقية لا بد ان يكون اوسع مما هو حاصل في الخطة الان، فضلا عن ان افضل الجنود استعدادا هم من ينبغي انتدابهم لهذه المبادرة. ولا بد ان ينطوي هذا على مخاطرة، ما دام جنود الولايات المتحدة المبثوثون سيواجهون اكثر من غيرهم احتمال تعرضهم للاصابة. ومع ذلك فان المردود لا بد ان يكون هو ايضا عاليا.

وتجري بعناية عمليات توثيق التحديات التي ترافق تدريب قوات الامن العراقية، ومع ذلك فان بمقدور الولايات المتحدة ان تحسن على نحو مؤثر الاداء في جهودها الحالية. ان بث عدد اكبر من الجنود عالي الكفاءة بين صفوف الوحدات العراقية قد يكون شبيها بحشر قضيب تسليح معدني في كتلة من الخرسانة. ومع ذلك فان بث عدد اكبر من الجنود قد يعزز تدريب الضباط العراقيين، فضلا عن انه قد يسهل عملية اختيار القادة العراقيين المقتدرين وترقيتهم ((وتشخيص من هم ادنى كفاءة. وبالتالي فان تركيز القوات العراقية في المناطق التي تعد عموما آمنه وفي بضعة مناطق تشن فيها هجومات لاغراض امنية قد تحقق طريقة ((بقعة الزيت)) بذلك تقليصا في حجم المخاطرة التي تتعرض لها الوحدات العراقية حديثة التدريب بان يجدوا انفسهم والعدو فوق رؤوسهم دون السند المطلوب.

ان على القيادة العليا المتحدة ايضا ان تكف ممارستها الضارة المبنية على تعاقب مجيء المستويات الرفيعة من القادة العسكريين والمدنيين من والى العراق وكأنهم يتناوبون تغيير المواقع. فالجنرالات الذين اظهروا مقدرة في معالجة التمرد في افغانستان والعراق تطلب اليهم عادة العودة الى اميركا، في حين ان ضباطاً من هذا الطراز يجب ان تجري ترقيتهم وابقاؤهم في العراق لفترات اطول. اما اولئك الذين اخفقوا في اداء واجباتهم فاولئك هم من ينبغي اعادتهم الى الوطن وابدالهم بغيرهم. ومثلما اثبت التاريخ القديم والحاضر فان القادة المقتدرين يعدون ((مضاعفي قوة))farce multipliers  ذلك لانهم قادرون على تعزيز قدرات جنودهم بفعاليتهم رفيعة المستوى .

و كل ذلك بحسب المصدر المذكور.

ترجمة  احمد خالص الشعلان كاتب هذا المقال هو المدير التنفيذي للمركز المختص بدراسة تقديرات الميزانية الستراتيجية واستاذ زائر مرموق يحاضر في السياسة العامة في جامعة جورج مايسن. وهومؤلف”الجيش وفيتنام “

المصدر: جريدة الصباح-13-1-2004