حقائق القوة الروسية وظلالها
محمود عوض
بينما كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يلقي بكلماته العاصفة أمام المؤتمر الثالث والأربعين للأمن في ميونيخ في ألمانيا في 10/2/2007، استعاد قليلون في ذاكرتهم مشهدا عاصفا آخر كان شهده الاجتماع السنوي للجمعية العامة للأمم المتحدة في سنة 1960. في حينها وأمام الكاميرات العالمية وبحضور وفود كل الدول الأعضاء خبط الزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشوف المائدة أمامه بقبضته وخلع حذاءه ملوحا به ايضا بينما تتدفق منه كلمات غاضبة خلاصتها: ان الاتحاد السوفياتي هو القوة العظمى التي لن تسمح للآخرين بالاستخفاف بها. فلاديمير بوتين في ميونيخ لم يكن هو نيكيتا خروتشوف في نيويورك. لا الزمن هو الزمن ولا روسيا هي الاتحاد السوفياتي. يكفي أن نتذكر أن مجمل الموازنة العسكرية لروسيا الاتحادية الآن - ضمن اعتبارات أخرى - لا يصل إلى واحد من ثلاثين من الموازنة المماثلة للولايات المتحدة. قليلون أيضا ربما أعادتهم كلمات بوتين الغاضبة في ميونيخ - وبمفهوم عكسي - إلى كلمات الزعيم البريطاني الراحل ونستون تشرشل النارية في ولاية ميسوري الأميركية بالولايات المتحدة في سنة 1946 التي أطلق فيها شعار «الستار الحديدي» على الاتحاد السوفياتي ودول أوروبا الشرقية، فيما اعتبر تاريخيا إعلانا ببدء الحرب الباردة من الولايات المتحدة وحلفائها ضد الاتحاد السوفياتي ومعسكره. في حينه كانت تضحيات الاتحاد السوفياتي في الحرب العالمية الثانية سمحت له بالوصول إلى برلين في قلب ألمانيا وإقامة منطقة نفوذ مستجدة سمحت لموسكو بالتمدد عسكريا وإيديولوجيا واقتسام أوروبا مع المعسكر الآخر. الآن في 2007 مضت 16 سنة على تلاشي الاتحاد السوفياتي وانفراطه إلى 15 دولة مستقلة. والأهم من ذلك أن حلف شمال الأطلسي بقيادة الولايات المتحدة هو الذي تمدد شرقا حتى حدود روسيا ذاتها. أما الحقيقة الأخرى فهي أن الدول الحليفة للاتحاد السوفياتي سابقا تحولت إلى عضوية حلف شمال الأطلسي وحتى نظم تسليحها تحولت إلى الترسانة الأميركية. كلمات فلاديمير بوتين الغاضبة في ميونيخ لا تعني إذن العودة إلى مناطحة أميركا عسكريا، كما أنها لا تعكس رغبة أو قدرة على استعادة أجواء الحرب الباردة. في الواقع ان وزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس كان معبرا في رده على بوتين حينما قال إن حربا باردة واحدة تكفي. تلك كلمات حمالة أوجه فهي قد تعبر عن توصيف للحال بقدر ما تعبر عن إنذار ضمني لأن النظرة السائدة في أميركا تحديدا هي أن موسكو خرجت من الحرب الباردة مهزومة بينما واشنطن هي المنتصرة. وبينما يقر فلاديمير بوتين بأن روسيا الاتحادية لم تعد قوة عظمى إلا أن رؤيته الغاضبة للمشهد الدولي المعاصر تشمل أبعادا أخرى. ففي مؤتمر ميونيخ شن بوتين هجوما عاصفا على «تجاوز الولايات المتحدة لحدودها الوطنية في كل المجالات وهذا أمر خطير جدا لم يعد يشعر معه أي شخص بالأمن لأنه لم يعد بإمكان أي كان أن يجد ملاذا في القانون الدولي». وحذر بوتين من أن «استخدام القوة هو غير شرعي إلا على اساس تفويض من الأمم المتحدة، وليس من حلف شمال الأطلسي أو الاتحاد الأوروبي... وإلا فإننا ذاهبون مباشرة إلى طريق مسدود، وسيكون ذلك خطيرا جدا». وبكلمات الرئيس الروسي فإن «عالما أحادي القطبية لا يعني عمليا سوى أمر واحد وهو مركز سلطة ومركز قوة ومركز قرار يتحرك كسيد أوحد ولا علاقة لذلك بتاتا بالديموقراطية». وبالنتيجة فإن «وجود قطب وحيد في العالم الحديث هو أمر غير مقبول وغير ممكن» و «الأعمال المنفردة لم تحل الصراعات وإنما جعلتها اسوأ... وأدت إلى مآسٍ إنسانية جديدة وخلقت مراكز جديدة للتوتر». وحتى يكون المعنى صريحا ومباشرا فإن بوتين يقصد الولايات المتحدة تحديدا وتعبيرها عن «ازدراء أكبر وأكبر» للقانون الدولي وهو ما يشعل سباقا جديدا للتسلح ويدفع بعض الدول إلى حيازة أسلحة الدمار الشامل. وبالخلاصة فإن «العالم الأحادي الجانب» بقيادة الولايات المتحدة بعد نهاية الحرب الباردة لم ينجح مطلقا في الحقيقة سوى في زعزعة الاستقرار أكثر وأكثر في العالم. الرد الأميركي على كلمات بوتين العاصفة جاء في اليوم التالي وأمام المؤتمر نفسه في ميونيخ من روبرت غيتس وزير الدفاع الأميركي. فمع رفضه وجهة نظر الرئيس بوتين فإن الوزير الأميركي، الذي شغل سابقا منصب مدير وكالة المخابرات المركزية الأميركية، اختار قالبا ساخرا حينما خاطب المجتمعين بقوله: «لدي مثل - بوتين - الذي كان المتحدث الثاني أمامكم أمس أساس مهني مختلف تماما. فقد عملت في الجاسوسية مثله، وأعتقد أن الجواسيس القدامى يعانون من عادة التحدث بفظاظة». لكن غيتس قال إنه دخل «معسكرا لإعادة التأهيل» حينما عمل رئيسا لجامعة أميركية حيث تعلم من خلال تعامله مع الكليات الجامعية أنه على المرء أن «يكون لطيفا... أو يرحل». على هذا المنوال تواترت كلمات بعض المعلقين الأميركيين من الصقور، وخلاصتها أنهم لا يمانعون في أن يبث الرئيس الروسي شكاويه أمام الكاميرات... فقط عليه ألا يصيح. عليه ألا يرفع صوته. بالطبع هذا يعكس نشوة الإحساس التاريخي بالانتصار ويؤكد في الوقت نفسه الأساس الفكري للمحافظين الجدد، وهو أن زمن التعامل مع موسكو بندية انتهى وعلى موسكو الجديدة أن تتكيف مع الوقائع الجديدة. من تلك الوقائع مثلا تمدد حلف شمال الأطلسي إلى حدود روسيا وتحول حلفائها السابقين في أوروبا الشرقية إلى أعضاء في المعسكر الأميركي - الأوروبي، ثم التوجه الأميركي الرسمي منذ الشهر الماضي إلى نشر مظلة دفاع صاروخية أميركية في بولندا وتشيكيا في تصرف منفرد لم تستشر فيه أميركا حتى حلفاءها الأوروبيين. لكن رد الفعل الآخر، والمفاجئ بحد ذاته، فقد جاء بعدها بأيام قليلة من وزير الخارجية الألماني فرانك فالتر شتاينماير. المفاجأة هنا مزدوجة. فالوزير عضو في حكومة ألمانية هي الأقرب إلى الخط السياسي الأميركي منذ سنوات طويلة. كما أن كلمات الوزير ذاتها واضحة في تفهمها للقلق الروسي الغاضب من خطط واشنطن لنشر نظمها الصاروخية قرب الحدود الروسية من دون التفاهم مع موسكو. وأضاف الوزير الألماني أنه كان على واشنطن أن تبحث هذا الأمر مسبقا مع موسكو «بالنظر إلى الطبيعة الاستراتيجية لمثل هكذا مشاريع، كان من الأفضل اعتماد الحذر واللجوء إلى حوار مكثف مع كل الشركاء». بعدها كرر الوزير الألماني انتقاداته قائلا إنه «كان من الأفضل لواشنطن استخدام الشفافية والدخول في مفاوضات مع الأطراف المعنية بالأمر» ومن بينهم ألمانيا ذاتها. كانت الحجة الدعائية الأميركية لتبرير سعيها لنشر نظامها الصاروخي الجديد في ألمانيا وتشيكيا هي أنه لن يكون موجها ضد روسيا ولكن للحماية من هجمات محتملة مستقبلا من دول مارقة بمستوى كوريا الشمالية وإيران. لكن مثل هذا التبرير استفز روسيا بدرجة أكبر، وهو ما جعل وزير الدفاع الروسي يرد علنا بقوله إن إيران لا تمتلك أصلا أية صواريخ عابرة للقارات ولا أي قدرة على إنتاجها. أما كوريا الشمالية فهي لا تستطيع ضرب المناطق التابعة لحلف شمال الأطلسي في أوروبا بالصواريخ الباليستية التي تمتلكها حالياً و «مجرد نظرة سريعة على أي خريطة أو نموذج مدرسي للكرة الأرضية ستكون كافية لإدراك أن أوروبا لا تقع في مسار طيران أي صاروخ يتم إطلاقه من كوريا الشمالية إلى الولايات المتحدة». الأقرب إلى الواقع، وما هو فعلا على المحك من وجهة النظر الروسية، هو أن شبكات الصواريخ الأميركية الجديدة المعروضة على بولندا وتشيكيا هي بمثابة استكمال للطوق الصاروخي الأميركي لمحاصرة روسيا. وبحسب وزير الدفاع الروسي فإن هذا التطور يخل بميزان القوى في أوروبا. أما من منظور الجنرال نيكولاي سولفتسوف قائد القوات الاستراتيجية الروسية فإن وجود هذه الصواريخ في بولندا وتشيكيا يمثل إعلان حرب على روسيا «وحتى الآن لم نر شيئا. ولكن إذا قررت الحكومتان البولندية والتشيكية استضافة الدرع الصاروخي الأميركي فسوف تكون صواريخنا قادرة على استهدافها وتدميرها إذا تم اتخاذ قرار سياسي بهذا الشأن». مع أن هذه الخشونة، والخشونة المضادة في التصريحات تبدو مفاجئة إلا أنها كانت تتراكم منذ سنوات. ربما نعود مبدئيا إلى التصريح الساخر من الرئيس فلاديمير بوتين في العام الماضي قاصدا أميركا حينما قال «إن الرفيق الذئب يعرف من يأكل، وهو يأكل بغير أن يستمع إلى الآخرين». لكن بعيدا عن التورية فإن الخلل يرجع أساسا إلى ملابسات انتهاء الحرب الباردة. فحسب ميخائيل غورباتشوف آخر رئيس للاتحاد السوفياتي فإن موافقته على إعادة توحيد ألمانيا كانت مرتبطة بالتزام أميركي بعدم تمدد قواعد حلف شمال الأطلسي إلى ألمانيا الشرقية. وحسب غورباتشوف أيضا فإن مبادرة موسكو إلى فك حلف وارسو في 1991 كانت متلازمة مع وعد أميركي مماثل بتحول حلف شمال الأطلسي إلى منظمة مدنية. كلمات غورباتشوف تلك ترتبط قيمتها بغورباتشوف نفسه. هذا يعني أنها - حتى بافتراض صحتها - بلا قيمة لأن السياسات الدولية تصنعها الحقائق الصلبة وليس الكلمات الشفهية المعسولة داخل غرف مغلقة، بافتراض أنها قيلت أصلا. في سنوات رئاسة بوريس يلتسين لروسيا الاتحادية لم يدعِ يلتسين لنفسه أي سياسة مستقلة عن الاستراتيجية الأميركية. تلك كانت سنوات النهب العظيم لموارد روسيا والانكماش الأكبر في مجمعها الصناعي العسكري، وهو الذي كفل لموسكو السوفياتية الوجود أصلا كقوة عظمى مناطحة للولايات المتحدة. مع وصول فلاديمير بوتين إلى السلطة في موسكو حاول في البداية الانضمام إلى عضوية حلف شمال الأطلسي فرفضت أميركا طلبه في التو واللحظة. بعدها تمدد الحلف إلى دول البلطيق وبولندا وإلى البحر الأسود، في نقض أميركي صريح لتعهد حقيقي كانت قد أعطته لموسكو سابقا. وبعد أن فرغت الولايات المتحدة من إلحاق كل دول أوروبا الشرقية بحلف شمال الأطلسي بدأت تغازل أوكرانيا وجورجيا وترتب فيهما وغيرهما الثورات الملونة التي جعلت روسيا لا تعود خلفا تسعين سنة بل خمسمئة. وبعد أن تسامح بوتين مع قواعد عسكرية أميركية موقتة في المحيط المجاور شمال أفغانستان تحت عنوان محاربة الإرهاب وجد أن القواعد الموقتة تتحول إلى دائمة. وبينما اشترطت أميركا على روسيا التحول الكامل إلى اقتصاد السوق من بين شروط انضمامها إلى منظمة التجارة العالمية اعترضت أميركا فورا حينما فعلت روسيا هذا بالضبط بالنسبة لأسعار تصدير الغاز الروسي. كانت أوكرانيا وبيلاروسيا وحلفاء سابقون آخرون يحصلون على الغاز الروسي بأسعار سياسية مخفضة. لكن حينما طلبت روسيا التعامل بأسعار السوق قام الإعلام الأميركي والأوروبي بالتنديد بالسلوك الروسي، بل وأعلن ديك تشيني نائب الرئيس الأميركي في ايار (مايو) الماضي ان روسيا تستخدم البترول والغاز كوسائل للتخويف والابتزاز. وبينما تسعى أميركا إلى وضع يدها على بترول العالم بالضغط أو التهديد أو الغزو المسلح كما في حالة العراق، نددت أميركا بالرئيس الروسي حينما قام بإعادة تأميم كبرى شركات البترول الروسي. وبينما يجري الضغط على روسيا للتعجيل بسحب قواتها من جورجيا ومولدوفا يتقدم حلف شمال الأطلسي بقواعده إلى بلغاريا ورومانيا. وبينما تقوم روسيا بتوريد التكنولوجيا النووية السلمية إلى إيران تضغط أميركا على روسيا لوقف تعاونها مع إيران، بل وحتى الانكماش في صادرات الأسلحة التقليدية إلى العالم الثالث. وبينما لروسيا حق النقض في مجلس الأمن الدولي تسعى أميركا إلى الابتعاد عن مجلس الأمن والأمم المتحدة لتتصرف في المسرح الدولي منفردة أو - إذا ضاقت بها الحال - تحت مظلة حلف شمال الأطلسي بعيدا عن روسيا والصين وكل معترض آخر. ما الذي جعل فلاديمير بوتين يعلو صوته غاضبا في ميونيخ؟ أسباب عديدة أهمها على الإطلاق نجاحه في استعادة قدر من الصحة والانضباط والنمو في الاقتصاد الروسي. في السنوات الأخيرة لم تسدد روسيا كل ديونها الخارجية فحسب، ولكنها سددت الجزء الأكبر منها قبل موعده. هذا ضمن لها توقف صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والمؤسسات المالية الغربية عن التطفل على سياساتها الداخلية والخارجية. وأكثر من ذلك نجحت روسيا في ادخار مئة مليار دولار من عائداتها الحالية من مبيعات البترول والغاز الطبيعي. بموازاة التعافي الاقتصادي عوضت روسيا تراجعها الاستراتيجي بالسعي إلى علاقات جديدة مع دول بحجم الصين والهند. هذا الخط السياسي كان يتردد صداه في الفكر الاستراتيجي الروسي منذ سنوات يفجيني بريماكوف كرئيس للوزراء. لكن بريماكوف كان يعمل في ظل رئيس غائب عن الوعي معظم الوقت ومستسلم بالكامل لإملاءات صندوق النقد الدولي ومؤسسات المال الغربية ومقامر بدرجة أكبر على الكلمات المعسولة من أميركا. الآن وحتى نهاية الفترة الرئاسية الأخيرة لبوتين في العام القادم، من المؤكد أن روسيا سيعلو صوتها بدرجة أكبر. وبالتأكيد سيكون التاريخ رحيما بفلاديمير بوتين، بقدر قسوته على يلتسين وغورباتشوف. * كاتب مصري و كل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور نصا و دون تعليق. المصدر: الحياة اللندنية
|